نُشر في فيسبوك في ٨ مارس ٢٠١٣
أثناء زيارتي لمدينة بولونيا بإيطاليا الشهر الماضي كان أول مكان أقصده مسرح التشريح الشهير الذي يعود تاريخ بنائه لعام ١٦٣٦. وكان هناك مسرح أقدم بني قبلها بأربعين عاما، ولكن بعد تجميع مباني جامعة بولونيا، التي يعود تاريخ إنشائها إلى عام ١٠٨٨ (!!)، في مبنى واحد تقرر إعادة بناء مشرح التشريح التابع لكلية الطب في المبنى الجديد للجامعة.
هذا المسرح يعتبر تحفة معمارية ذات أهمية تاريخية قصوى، وكنت قد تتبعت تاريخه أثناء دراستي لتاريخ الطب في أوروبا وفي العالم الإسلامي. أما عن أهميته المعمارية فترجع لأسباب عديدة منها، مثلا، أنه مغلف تماما من الداخل بخشب التنوب. (وكان هذا المسرح كله قد أصابته قنبلة مباشرة أثناء الحرب العالمية الثانية واحترق أغلبع، ولكن أعيد بناؤه بالكامل). ومنها أيضا تصميم المسرح ، ففي منتصف القاعة توجد طاولة بيضاء كانت تجرى عليها عمليات التشريح وكان الطلبة يجلسون على الأرائك المحيطة بالطاولة من ثلاثة جوانب. أما في الجانب الرابع فيوجد مقعد الأستاذ الذي كان عادة يقرأ نصا طبيا من نصوص الثقاة القدماء من أمثال جالينوس وأرسطو وأبوقراط وابن سينا، وكانت تلك النصوص تتلى باللاتينية، ويقوم الطلبة بحفظها.
وأسفل مقعد الأستاذ يمكن للزائر أن يرى مقعدا آخر مخصصا للـ”معيد” الذي يعيد تلاوة النص السلفي الذي قرأه الأستاذ، وكان الـ”معيد” يقوم أيضا بتوجيه التعليمات للـ”مشرح” الذي يقوم بتشريح الجثة بيديه. وكان هذا الأخير عادة ما يكون من زمرة “الجراحين” الذين لا يعدون أكثر من “جزارين”، لا يفقهون في الطب أو “الحكمة” شيئا، فقد كانوا يجهلون اللاتينية، ولا يفقهون شيئا من كتابات السلف الطبية. وبالتالي فقد كانت وظيفتهم في مسرح التشريح أن “يشرحوا” بأيديهم (الملوثة والمدنسة بالدم) ما قد أيقنه وخبره الأقدمون من قبلهم بمئات السنين.
المشكلة بدأت تظهر عندما أظهر هؤلاء “الجزارين” أن الأقدمين لم يكونوا دائما على صواب، وأن كتابات السلف لم تكن دائما دقيقة، وأن ما يقوله أهل العلم لم يكن دائما دقيقا، فقد أظهرت عمليات التشريح أن هناك فروقا بين ما تقوله كتب الأوائل، مثل أرسطو وابن سينا، وما يشاهد بالعين في جثة المتوفي.
وهنا احتار الأستاذة، فمنهم من اتهم “المشرحين” بالتدليس والتضليل، ومنهم من قال إن ما يشاهد بالعين صحيح وما يقرأ في النصوص صحيح أيضا، أما التباين بين ما يشاهد على الجثة وبين ما يقرأ في كتب الأولين فيجب أن يكون عائدا إلى تحولات عضوية قد حدثت في جسم الانسان من وقت أبوقراط وأرسطو وجالينوس حتى وقتنا هذا، فبالطبع لا يمكن أن يكون أرسطو على خطأ.
ولكن المشرحين ، “الجزارين”، نجحوا في النهاية في إطاحة الأساتذة المتحذلقين من على عروشهم. واستطاع فيساليوس (ت ١٥٦٤م) أن يبرهن على أن جالينوس وأرسطو كانا على خطأ، وشرع في القيام بعميات تشريح دون الاعتماد على اللاتينية، بل دون الاعتماد على نصوص الأولين بالمرة، فقام بالتشريح بيديه دون أن يستمع لآراء أي من الأستاذة، ويظهر غلاف كتابه عن التشريح ، أي تكوين الجسم البشري، الصادر عام ١٥٤٣، صورته وهو يقوم بالتشريح بيديه دون وجود للـ”أستاذ” أو الـ”معيد”.
وبذا يعتبر فيساليوس هو من انتصر أخيرا على زمرة الأساتذة الرجعيين المتخلفين المتمسكين بآراء السلف، إذ أنه أرسى قاعدة أساسية وهي أن المعرفة الناتجة عن الحواس، من لمس باليد ورؤية بالعين، أجدى وأسمى وأدق من تلك الناتجة عن التدبر العقلي والفلسفي. ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت زمرة الجراحين أسمى اجتماعيا واقتصاديا من طائفة “الحكماء” المتشدقين بكتب السلف.
وبالتالي فإن ما نشاهده في مسرح التشريح في كلية الطب بجامعة بولونيا اليوم هو حيز كانت تتجلى فيه صراعات عقائدية وفلسفية وطبية واجتماعية عميقة جدا. إن ما نراه في هذا المسرح هو خطأ الاعتقاد الشائع بأن من أعاق عملية التشريح كان الكنيسة بقوانينها التي كانت تحرم تشريح الجثث بدعوى عدم المساس بمخلوقات الخالق. فإن من أعاق تطور التشريح لم يكن الكنيسة بل اللاهوت الجامعي المتمثل في أساتذة الطب الذين لم يكونوا على استعداد لأن يروا مبادئ علمهم ومصدر رزقهم تهددها حفنة من “الجزارين”.
هذا الصراع يتمثل بشكل واضح في مسرح التشريح ببولونيا في شكل التمثالين الخشب الذين يحملان المظلة أعلى مقعد الأستاذ. هذان التمثالان يمثلان رجلين مسلوخين، وبذا تتضح تفاصيل لحمهما وعضلاتهما. كان هذا النمط من التماثيل جديدا، ومثله مثل لوحات ليوناردو كان يعبر عن التطور الهائل الذي حدث لعلم التشريح وعن إلمام فناني عصر النهضة بتفاصيل الجسم الإنساني بعد أن سبروا غوره. أما اسم المثال فهو إيركولي ليللي الذي اكتسب خبرته كمثال من تصنيعه لهياكل شمعية للجسم الإنساني لاستخدامها في التشريح (حين كان يتعذر القيام بدروس التشريخ لشحة الجثث أو لارتفاع درجات الحرارة في الصيف). وبالتالي فإن تمثالي الرجلين المسلوخين، واسمهما بالإيطالية
spellati
، أي المسلوخين، الذين يرفعان بأيديهما المظلة هما تذكير بأن الأستاذ قد يكون متربعا على عرشه، ولكن ما يظل هذا العرش ويحميه ويعطيه هيبة ووقار معرفة وعلم نابع من أصول لا يفقهها هذا الأستاذ.