Press "Enter" to skip to content

خالد فهمي في ذكرى ٢٥ يناير: مأزق الثورة والنظام

حديث مع رشا الأطرش في “المدن” في ٢٤ يناير ٢٠١٤

عشية الذكرى الثالثة لقيام ثورة 25 يناير، تبدو الصورة غائمة. ارتياح لمرور استحقاق الاستفتاء على الدستور “بسَلام”، الدستور الذي يستمدّ شرعيته من 25 يناير وإن لم يلبّ تطلعات ذلك اليوم التاريخي وناسه. وفي المقابل، يبرز قلق من الشكل الذي آلت إليه السلطة، من تفاقم القمع أمنياً وإعلامياً وفي مجال الحريات، وكذلك من نِسَب المشاركة والتصويت بـ”نَعَم” تُذكّر بماضٍ قريب، هو الذي قامت عليه الثورة نفسها.. هي الثورة الأولى، الملبّدة أو المزدانة الآن بـ”ثورة ٣٠ يونيو” (بحسب موقع الرائي)، مُحيلةً المشهد إلى فسيفساء سياسية واجتماعية، منقسمة ومتراصة في آن، حتى ليبدو أي مسعى إلى فكفكتها وفهمها، زيادة في تعقيدها، يوماً بعد يوم. وقبل أيام قليلة على الذكرى السنوية الثالثة، أصدرت جماعة الإخوان بياناً سوريالياً، تعتذر فيه عن وضع “الثقة” في غير محلها، من دون اعتراف بأخطاء حقيقية (ناهيك عن جرائم!). فيما يداخل الرؤية الاستحقاق الرئاسي الوشيك، فتصعد المخاوف والآمال معاً.

ثلاث سنوات على الثورة الأبرز، في التاريخ الحديث لمصر الدولة والمؤسسات الأعرق عربياً، على الأرجح. دورة دارت، منذ “عيد الشرطة” العام ٢٠١١، وعاد العسكر إلى الحكم، سواء سمّينا ذلك “انقلاباً” على أول رئيس مدني منتخب، أو “ثورة ثانية”. يبدو اليوم مفيداً، كما هو ممتع، الحوار مع رئيس قسم التاريخ في الجامعة الأميركية بالقاهرة، د.خالد فهمي. ليس فقط لأنه صاحب كتاب “كل رجال الباشا”، الذي أعاد فيه قراءة دولة محمد علي باشا، وتحديداً تأسيس الجيش المصري، “من أسفل”، أي بسردية الجنود، لا الضباط ولا السلطة، فخلق نقاشاً لافتاً كسر الأسطورة السائدة، وجدّد الدماء في عروق التفكير والبحث النقديين. إنما لأن فهمي، أيضاً، من الشخصيات العقلانية ذات المصداقية التي انخرطت في ثورة يناير، ومن بعدها تظاهرة يونيو، من دون أن يتنازل عن مسافتها منها، لمساءلتها وتحليلها واستشراف آفاقها.

تبدأ “المدن” مع د.خالد فهمي من آخِر الأحداث، عشية ذكرى الثورة: قراءته للدستور الجديد وعملية الاستفتاء عليه، الحجم الهائل للتصويت بـ”نعم” وانحسار نسبة المشاركة…     

“أرى أن نتائج الاستفتاء الأخير تعبّر عن مأزق الثورة والنظام معاً”، يقول فهمي. “ففرز الموافقة بنسبة ٩٨ في المئة من الأصوات، إشارة إلى خلل عميق يواجهه النظام، في بلد بحجم مصر يمرّ بثورة ومنقسم بعمق. أما نسبة المشاركة، أي 38 في المئة، فبرأيي نسبة عادية في الديموقراطيات، وإن كانت متدنية قليلاً مقارنة باستفتاءات سابقة، لكن ليس كثيراً. الإشكالية تكمن في نسبة الـ”نعم”، الكاملة تقريباً. فإما أن تزويراً حصل، ولا أظن أن التزوير يكون بهذا الحجم، أو أن من يمكن أن يصوتوا بـ”لا” عزفوا عن المشاركة، وهذه رسالة قوية تشكك في مصداقية النظام. الأرجح أن أنصار “الإخوان” لم يشاركوا، وكذلك من يُسمَّون بالشباب الثوري.. لماذا؟ هذا سؤال يجب أن يطرح في أي نظام ديموقراطي”.

لكن، مَن في الدولة اليوم، في وارد أن يوجع رأسه بمثل هذه الأسئلة؟ الدستور مرّ وانتهينا..

في رأي فهمي، يجب أن تطرح هذه الأسئلة، إن كانت هناك إرادة لبلوغ نتيجة مجدية، “فالوضع متأزم، حتى من قبل الثورة، والحل يجب أن يكون سياسياً. فلنأخد مثلاً موضوع دعم الطاقة، وهو خلل يستنزف موارد الدولة. لنقل، مثلاً، أني صاحب سيارة رباعية الدفع، أستخدم طبعاً البنزين المدعوم، وكذلك المصانع والمؤسسات الكبرى… لو توقف الدعم، ستتضرر طبقتي وطبقة أصحاب المصالح، وسيكون الاعتراض كبيراً. لذلك، تحتاج الحكومة، لتُحقق تغييراً، إلى ظهير شعبي.. فهل هو متوفر بحسب مؤشرات الاستفتاء الأخير؟.. المنطق اليوم في مواجهة المشاكل هو استخدام السلطة والسلاح، والتفويض الذي تظن السلطة الحالية أنها حازته، ليس حقيقياً، لأنه ليس نتيجة توافق مجتمعي فعلي. فمن أين يأتيها الدعم للتصدي للمشاكل؟ قد تحصل على دعم بعض دول الخليج، ما يتيح لها شراء الوقت لسنتين أو ثلاث، لكن ماذا تريد هذه الدول في المقابل؟ استقرار في مصر، إحكام السيطرة على الإسلاميين، التصدي للإخوان خارج مصر، الخ.. ولا وسيلة للتحكم غير المال، وتحديداً مع حركة حماس. لكن السؤال الأهم هو: هل النظام الحالي مستعد لفتح هذه الجبهة واستكمال مواجهة دموية مع فصيل داخلي مصري؟”.

وماذا إذا كان الفصيل هذا بدوره، أي الإخوان، يعاند في موقفه؟ أليس هذا ما يدل عليه بيانهم الأخير، عشية ذكرى الثورة؟ ألا ينمّ عن عدم استعدادهم لأي مراجعة لأدائهم في السلطة، فما بالك كمعارضة الآن؟ كيف تقرأه؟

“البيان يُعتبر انعكاساً حقيقياً لتهافت منطق الإخوان وبؤس تحليلاتهم السياسية وتردي مواقفهم الأخلاقية”، في رأي فهمي. “يبدو للوهلة الأولى اعتذاراً عن موقف، لكنهم يغلفونه بالقول إن الجميع أخطأوا. لو كانوا مخلصي النية حقيقة، فاعتذارهم كان يجب أن يأتي واضحاً، غير مشروط. ثم أن لديّ تحفظ عميق على ادعائهم بأن جماعتهم كانت من ضمن “جموع ثوار يناير”. هذا افتراء وكذب بيّن. الإخوان كانوا ضد النزول في يناير ٢٠١١، ومَن نزل منهم إلى ميدان التحرير وقتها، فعل ذلك ضد التعليمات الواضحة من مكتب الإرشاد. ثالث اعتراضاتي على البيان أنه لم يتطرق إلى ما فعله الإخوان بالثوار حينما كانوا في الحكم: ماذا عن صمتهم لمحاولاتنا إعادة هيكلة الداخلية؟ ليس فقط صمتهم، بل الدفاع عن الداخلية وتكريم قاداتها وضباطها؟ ماذا عن تنكيلهم بالثوار وتعذيبهم عند أسوار قصر الاتحادية في أعقاب إعلان مرسي إعلانه الدستوري المشؤوم؟ ماذا عن خطابهم الطائفي الذي راح ضحيته شيعة أبرياء؟ جرائم جماعة الإخوان عديدة وعميقة، وهذا البيان يبدو قاصراً عن الاعتذار عنها بشجاعة ووضوح.. هو دليل آخر على خساستهم وحقارة موقفهم ومبادئهم”.

ويستدرك فهمي: “طبعاً هناك تحول عميق ضد الإخوان، تجلّى في تظاهرة ٣٠ يونيو، أنا أيضاً شاركت في التظاهرة، وأسقطنا الإخوان. لكن الجيش بدوره، خاف من المدّ الثوري، يجب أن نفهم هذا جيداً، خاف أن يطاول الجيش والشرطة والقضاء.. لذلك سعى إلى مصادرته، فأسقط تحالفه مع الإخوان وانقلب عليهم، لقد توجّس من فكرة أن الثورة مستمرة”.

إذاً، فقد نجح العسكر في تطويع الثورة؟

إجابة فهمي تأتي بلا تردد: “لا ينكر عاقل أن الجيش نجح نجاحاً باهراً في توجيه دفة الأمور لصالحه منذ ٣٠ يونيو، لكني اعتقد أنه تجاوز نفسه ونجاحه هذا. إذ كان ليُفهًم أن يتم التصويت على الدستور بـ”نعم” بنسبة ٨٠ في المئة مثلاً، لأن هناك غضباً حقيقياً على الإخوان. لكن ٩٨ في المئة؟! يبدو أن الجيش فهم هذا التجاوز مؤخراً، ويحاول الآن تخفيف الهجمة الإعلامية، خصوصاً مع اقتراب ذكرى الثورة، وفي النهاية هذا الدستور يستمد شرعيته من ٢٥ يناير. غير أن النجاح هذا، يضمر في طياته مشاكل اقتصادية وسياسية جمّة. قُتل كثيرون، منذ فض اعتصام “رابعة”، والقيادات الإخوانية في السجن، لكن كيف سيتصرف الأنصار، في غياب القيادات، وهم غاضبون ومسلحون؟”.

لكنك، في إحدى مقالاتك في جريدة “الشروق”، كتبت أنه لا شك لديك في أن العنف مجدٍ.. فبالعودة إلى العام ١٨٢٤، لولا اتخاذ محمد علي باشا قرار محاربة الثوار (المحتجين على سياسة التجنيد)، واستعداده لدفع التكلفة بالأرواح، لما أصبح لمصر جيش، ولما تأسست الدولة الحديثة. ورأيك إنه ساذج من يظن أن العنف لا يمكن أن يقتل فكرة، على اعتبار أن الجيش الإندونيسى، كنظيره التشيلى، مثلاً، نجح فى القضاء على الشيوعية. كما نجح عبدالناصر في القضاء على الليبرالية، من طريق التأميم والمصادرة والاعتقالات والعزل السياسى ومصادرة الحريات الشخصية. وأن الجيش في مصر قد ينجح فعلاً فى القضاء تماماً على الإخوان، ليس كتنظيم فحسب، بل الإخوان كفكرة. 

“نعم، يقضي عليهم كفكرة”، يقول فهمي، “لكنهم قد يتحولون إلى فكرة أخرى أخطر وأكثر تطرفاً، وتاريخ الإخوان خلال القرن العشرين يشهد. فقد تحولوا من أفكار حسن البنا، إلى سيد قطب، وأخيراً أيمن الظواهري الذي تحالف مع أسامة بن لادن ونقل المشروع إلى الحيز العالمي.. الفروق كبيرة بين الثلاثة”.

egypt2.jpg
شاب من الإخوان في قبضة الشرطة في الاسكندرية أمس (أ ف ب)

وهل ما زلت ترى ثورة يناير متعثرة، كما قلت مراراً في مقالات ومقابلات تلفزيونية؟ 

“قوى ٢٥ يناير أصيبت بنكسة خطيرة”، يجيب فهمي، “وكثير منها يعيد التفكير في أخطاء السنوات الثلاث الماضية. أنا شخصياً أتعاطف مع الشباب. المراجعة النقدية ضرورية، لكن ليس من الصواب الأخلاقي أو السياسي لومهم وحدهم. هم كان لهم دور كبير في تأجيج الثورة، صحيح. لكننا نواجه سؤالين/تحديين ضخمين جداً: الأول، كيف نواجه الظلم والبطش والديكتاتورية؟ والثاني، سؤال الهوية والدين والإسلام السياسي. وهذان التحديان قاسم مشترك بين ثورات مصر وسوريا وليبيا… لو أجرينا مقارنة مع حركات التحول الديموقراطي في أوروبا خلال القرنين الماضيين، إضافة إلى أميركا اللاتينية وآسيا.. سنرى أن تلك الشعوب لم تواجه هذين السؤالين في مرحلة واحدة. طُرحت مسألة الكنيسة وتم التعامل معها وتحييدها،  بحلول عصر التنوير تقريباً، ثم كانت مواجهة السؤال السياسي بعد ذلك بكثير. أما المصريون، فمنذ اندلاع الثورة، يواجهون الطنطاوي ثم السيسي، ويواجهون الإسلاميين في الوقت ذاته. شباب الثورة محاصرون بين هاتين القوتين. ناهيك عن أن منطقتنا مأزومة، الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو الأطول في تاريخنا، يعقّد المشهد. ثمة زاوية أخرى لفهم تصرّف الجيش. اتفاقية كامب ديفيد عمرها أكثر من ٣٥ سنة، دخل خلالها لحساب الجيش المصري عشرات المليارات من الدولارات، فبنى امبراطورية اقتصادية بمنأى عن الدولة، أي أن قوته تأتي من عدم خوضه الحرب، لكن هناك دوره في سيناء (الإرهاب، التكفيريون، الخ..) وهذا خط أحمر في علاقته بالولايات المتحدة.. وبالمناسبة ليس صحيحاً أن الجيش يحرق الجسور مع أميركا لأنه لا يحتمل معاملة الدولة الفاشلة أو المستبعدة. ولا ننسى نقمة النفط في منطقتنا، النفط في أيدي أنظمة رجعية، حساباتها مختلفة تجعل أي تحول ديموقراطي تهديداً لمصالحها”.

إذاً، فهو التعثر الثوري الآن. وكيف يُجترح الحل فيما الوضع لا يستقر لفترة كافية للتفكير، كما أن القوى مشرذمة؟ بل محبطة ويائسة! ولا رافعة سياسية للمطالب الأصلية للثورة، والفاتورة السياسية والحقوقية والاجتماعية تزداد وطأة..

“ما أحاول قوله أن المشاكل لا يمكن أن تُحلّ في خلال سنتين أو ثلاث.. قد تأخذ الصورة شكلها خلال ١٥ إلى ٢٠ سنة، شرط أن نجيد التعامل مع التحديات. المقارنة بين التحولات الحديثة في شرق أوروبا، أو حتى جنوب إفريقيا، وبين الربيع العربي، جزافية وظالمة. المقارنة الأجدى، مع أوروبا الشرقية مثلاً، يجب أن تبدأ منذ العام ١٩٥٦ وإسدال الستار الحديدي ومقاومة الاتحاد السوفياتي، حتى العام ١٩٨٩. ما زلنا في الخطوات الأولى. أما الآن، فنَعَم، هو زمن ردّة واستنفار للثورة المضادة”.

في كتابك “كل رجال الباشا”، تُبيّن أن العملية القتالية الأولى التي انخرط فيها الجيش النظامي الحديث، تمثّلت في قتل المصريين، عندما اندلعت ثورة على سياسة التجنيد في العام ١٨٢٤، وكانت المقاومة الأشد فى الصعيد بمشاركة أكثر من ٣٠ ألف فلاح وفلاحة. تروي كيف انتشر العصيان إلى الوحدات العسكرية، ليشارك في الثورة ٧٠٠ من الفلاحين المجندين حديثاً. بدت دولة محمد علي الجديدة على وشك الانهيار، فأمر “اللواء الأول”، المشكّل لتوه، بالهجوم عل معاقل الثوار، وانتصر الجيش خلال شهور ثلاثة، بعد قتل أكثر من ثلاثة آلاف رجل وامرأة. وفي الكتاب نفسه، تسعى بوضوح إلى إثبات أن المشروع “النهضوي” لمحمد علي (جيشاً ومؤسسات) لم يكن وطنياً مصرياً، بل خدمة لبقائه في الحكم، ثم بقاء أسرته العلوية من بعده. فأي إسقاطات أو تقاطعات يمكن رسمها، اليوم، مع التاريخ هذا، كون الجيش يمسك زمام السلطة في مصر المنقسمة؟

“نعم، يمكن رسم تقاطعات”، يجيب فهمي، “لكني سأفعل ذلك من خلال أسئلة: هل عندنا اليوم، كمجتمع مصري، القدرة على مساءلة على هذا الجيش؟ هو جيش مَن؟ وأهداف مَن يخدم؟ يدّعي أنه جيش وطني، للبلد كله، فهل يخدم فعلاً المجتمع ككل؟ أم فئات معينة؟ هل من حقنا كمجتمع وشعب أن نتساءل في شأن قدرتنا على مراقبة أدائه؟ ولا أعني هذا السؤال فلسفياً، بل قتالياً واقتصادياً، أعني التساؤل عن جهوزية القتال وتكلفة تسليح الجيش المصري وتدريبه.. هل لنا أن نسأل عن أسلوب التجنيد وأغراضه؟ هذه أسئلة صعبة، وفي صميم السياسة. العسكر يعتبرون أنها تهدد كينونته وأنها خيانة للجيش، أو تخوّنه… أعترف أن اناساً كثيرين مقتنعون بأن الجيش هو الدعامة الوحيدة المتبقية من مؤسسات الدولة المصرية، وأنه حامي الدولة والمجتمع، وإلا لكان حالنا مثل الحال في سوريا والعراق وليبيا. هذه مقولات محترمة، لا أشكك فيها ولا أحتقرها، بل أراها مشروعة. لكن الدعوة هنا ليست إلى فكّ الجيش، بل إلى مدّه بالمزيد من القوة لخدمة الدولة والمجتمع، وليس العكس. فمن أبرز مشاكلنا في تاريخ مصر الحديث أننا بدأنا بتأسيس الجيش ثم أقمنا له دولة: الصحة، الصحافة، الطباعة، البيروقراطية، التعليم.. كلها قطاعات بُنيت لخدمة الجيش. هذا المنطق موجود في صلب الدولة المصرية الحديثة، دولة يخدمها الشعب، وفي صلب هذه الدولة أيضاً المؤسسة العسكرية”. ويستحضر فهمي يوم ٣٠ مايو/أيار ١٩٦٧، قُبيل الحرب، لمّا جمع عبدالناصر قادة الجيش ووزير الحربية عبدالحكيم عامر، فسألهم: هل نحن جاهزون للحرب؟ فقال له عامر: “برقبتي يا ريس”.. يرى الواقعة هذه نموذجاً معبّراً عن غياب تام لأي تساؤل مجتمعي نقدي للجيش، من إعلام أو نقابات أو رأي عام. يقول: “كانت الهزيمة محتمة لأننا لم نكن جاهزين، لكن المسألة هنا ليست في الهزيمة نفسها، بل في عمقها وشكلها”.

هكذا، يعتبر فهمي أن الدستور الذي تم الاستفتاء عليه أخيراً، “خذلنا في أرساء رقابة المجتمع: لم نحصل على وزير دفاع مدني، كأي وزير آخر، يخضع لرقابة مجلسي الوزراء والشعب. لم يلقَ رفضُنا لقضاء عسكري مستقل يحاكم مدنيين، أي صدى. لم نحظَ بميزانية عسكرية تخضع للبرلمان. المفترض أنها سرية؟ حسناً، هناك تجارب في العالم في هذا المجال، وهناك آليات مجرّبة، لسنا البلد الأول في العالم الذي يسعى إلى تطبيق هذا النوع من الشفافية. المؤسسات والمشاريع الضخمة العائدة إلى الجيش يجب أن تخضع للجهاز المركزي للمحاسبات، المفترض به ضبط ومراقبة الممارسات التعاقدية والمالية والاقتصادية لأجهزة الدولة. لا أقول إن هناك فساداً بالضرورة، لكن الإدارة قد لا تكون رشيدة. ثم إننا تراضينا، كمجتمع، على الإبقاء على سياسة التجنيد، نقدم له سنتين أو ثلاثاً من أعمار أولادنا، فكيف نضمن أنهم يتلقون تدريباً حقيقياً، ولا يعمل الواحد منهم سكرتيراً في شركة أو نادلاً في مطعم أو فندق يملكه الجيش؟ الجيش يخوّن مَن يطرح هذه الأسئلة، لكن الوطنيين فعلاً هم من يسألون لأنهم يريدون جيشاً قوياً”.

لنفترض أن د.خالد فهمي، كان ليعمل، بعد مئة سنة، على التأريخ للجيش المصري في مرحلته اليوم، على غرار ما فعل في “كل رجال الباشا”، فكيف سيفعل ذلك؟ بأي وثائق ومِن أي منطلقات؟

“ستكون هذه مهمة مثيرة للاهتمام”، يقول فهمي ضاحكاً. “في هذه الحالة سأهتم بتجربة الجنود، كما في البحث الأول: أين خدموا؟ وكيف أُخِذوا؟ أنا نفسي أديت الخدمة العسكرية، وأعرف الذل والمهانة في معسكرات التدريب. طبعاً، في أي جيش حديث، حياة المعسكرات شاقة. لكني أحب أن افهم: أي تدريب يقدّم فعلاً؟ هل يُكسب المجندين مهارات قتالية حديثة، في حمل السلاح أو الاستخبارات الالكترونية مثلاً؟ أم أن التدريب يتوخى كسر شوكة الرجل المصري وفوقه رقيب اسمه الجيش والسلطة؟ موضوع السعي، من خلال الإذلال، إلى استبطان الأمر العسكري وتحقيق الطاعة العمياء، لا أجده مقنعاً. من خبرتي ودراستي، أجد ذلك مناسباً ربما للقرن ال١٩، أما في القرن العشرين فقد اعتمدت الجيوش على إعطاء الجندي قدراً معيناً من السلطة الذاتية، يستخدم من خلالها ذكاءه، إلى جانب الانضباط والانصياع للأوامر. إنما الطاعة العمياء، والتي قد يصل مداها إلى التضحية بعشرين أو ثلاثين ألف جندي في معركة، فهذا منطق نابليون”.

بالعودة إلى مئات المجندين الذين شاركوا في “ثورة ١٨٢٤” الفلاحية. وإن عزلنا، لبرهة، متغيرات الزمن، فإن هذا يعتبر ممارسة احتجاجية من داخل الجيش، فهل يمكن أن نسمع اليوم صوتاً عسكرياً نقدياً؟

“لا بد من القول إن النزعة الاستقلالية في الصعيد أو الدلتا، ضد التجنيد، وحق التساؤل النقدي الذي كان المصريون يعطونه لأنفسهم بقولهم للدولة: “ازاي تاخدي ولادي، وليه؟”، هذا كله اختفى. بات مسلّماً به أن تفعل الدولة ذلك، وطبيعي أن يهان ويُضرب أولادهم في الجيش. بل إن الشرطة اليوم تتبنى، في تعاملها مع المواطن، خلاصة تجربة الجيش خلال ١٥٠ أو ٢٠٠ سنة، أكان متّهماً أو شاهداً، أو شخصاً عادياً يدخل قسم الشرطة. عليه أن يفهم كم هو ضئيل وضعيف، وأن يستجدي خدمة لا حقّاً، إضافة إلى سطوة التعذيب، حتى لو لم يُمارس، لكنك تعلم أن في درج الضابط عصا كهربائية زودته بها الدولة، وخلفه غرفة تعذيب، ليست للقضايا السياسية فحسب، بل الجنائية أيضاً. هذا كله مسلّم به.. لكن التسليم هذا بدأ يتزعزع. ولعل هذا هو الإنجاز الأهم لثورة ٢٥ يناير. طرحت الأسئلة هذه، للمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث، وليس صدفة أن ٢٥ يناير هو يوم عيد الشرطة”.

وماذا عن التأريخ الآتي؟ ماذا حلّ بلجنة توثيق ثورة ٢٥ يناير، التي ترأسها د.خالد فهمي وشُكّلت بقرار وزاري في دار الوثائق القومية، بعد أيام من تنحي مبارك في فبراير/شباط ٢٠١١؟ 

“ما زالت مستمرة في جمع الوثائق الرسمية، لكن المهمة الأساسية، المتمثلة في جمع شهادات الناس، توقفت، للأسف، بعد أكثر من سنة من العمل”. والسبب، بحسب فهمي: “أجهزة الأمن.. أردنا توثيق شهادات الناس عن مشاركتهم في الثورة، تجاربهم وخبراتهم، لكننا لم نستطع أن نضمن لهم أن أجهزة أمن الدولة لن تطّلع عليها، بعد إنجازها وفهرستها في دار الوثائق، فتسجنهم على أساسها! ومع ذلك، هناك مشاريع مستقلة في هذا المضمار، أهمها ما تضطلع به مجموعة “مُصِرّين”، بإدارة خالد العبدالله، والتي جمعت ملايين الساعات من المقابلات المسجلة بالفيديو إضافة إلى الصور”.

يعمل د.خالد فهمي حالياً على كتاب جديد، هو بحث في التاريخ الاجتماعي لمصر القرن الـ19، تأريخاً لمجالات الصحة العامة والقانون والطب والشريعة، من خلال ممارسات محددة، لا سيما التعذيب والطب الشرعي. والأرجح أن قراءته ستكون منجماً لتقاطعات جديدة تُرسم مع مصر القرن الحادي والعشرين.. والذكرى السنوية لثورة يناير، الرابعة أو الخامسة.. أياً كانت السلطة التي تحتفل بها. –

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.