نُشر في “فيسبوك” في ١٦ مارس ٢٠١٥
بمناسبة الإعلان عن بناء عاصمة إدارية جديدة لمصر كتبت هنا (على فيسبوك) منذ يومين ثلاث مقالات (اثنتين بالعربية والثالثة بالإنجليزية) انتقد فيها عدم طرح هذا الموضوع الهام للنقاش العام، كما تساءلت عن جدوى بناء عاصمة جديدة وعما إذا كان من الأصوب ضخ هذه الأموال الطائلة في تحسين مرافق القاهرة.
ولقد سعدت حقا برد الفعل لهذه المقالات، وبأن حوارا ما قد بدأ بالفعل حول هذا المشروع العملاق وجدواه. وكنت بالطبع أتوقع هجوما واعتراضا على كلامي، وأظن أن هذا أيضا من العلامات الصحية: فالاختلاف على موضوع هام مثل هذا ليس فقط صعب تجنبه، بل هو ضروري وصحي. وأعتقد أيضا أن الاصطفاف والتوحد خلف أي موضوع قومي ليس شيئا صحيا. فنحن شعب تعداده ٩٠ مليون، وليس من الممكن أو حتى من المستحب أن نتحد حول أي موضوع. فقط يجب علينا أن نجد وسيلة سلمية نختلف بها مع بعضنا البعض، وأن ننشئ مؤسسات تسمح لنا بإدارة خلافاتنا هذه.
إيماني بمبدأ حرية الرأي ليس نتيجة افتتان بالغرب أو تمسحا به، بل هو نابع من عقلية راسخة لدي بأننا كمصريين بتعدد مشاربنا واختلاف رؤانا لن نتمكن من عبور الأزمة العميقة التي نمر بها الآن إلا لو اتفقنا على حقنا في الاختلاف، وأن نُجبر أنفسنا على الاستماع إلي بعضنا البعض حتى وإن أدى هذا إلي الاستماع لآراء صادمة وغير تقليدية وغير مألوفة. فأنا على يقين بأن هنا تحديدا يكمن خلاصنا: ليس في حل سحري يقضي على كل مشاكلنا وينتشلنا من وهدتنا، بل في إعمال العقل، وفي تحمل مسئولياتنا كمواطنين، وفي التفكر والتفكير، وفي إجراء النقاش، وفي قبول الأفكار المختلفة ومناقشتها والاشتباك معها. وتاريخ البشرية مليء بأمثلة لأفكار كانت صادمة ومغايرة للمألوف، وقوبلت بالرفض والاستهجان، ولكن ثبت صحتها بعد ذلك.
ومن المؤسف حقا أن هذا المبدأ السامي، مبدأ حرية الرأي، أصبح الآن محل نقد وشك وريبة. فما أن تتفوه برأي جديد في حالة الاستقطاب الحاد التي نشهدها في بلادنا حتى تنهال عليك الاتهامات من كل حدب وصوب. “ده وقته؟ انت بتحط السم في العسل. نهدى شوية. انت عميل مغرض. انت جاسوس. انت عميل. انت خاين. انت بتتآمر على البلد. انت مشمأنط”. ويغيب عمن يكتب هذه الاعترضات أنه بذلك يتنصل من مسؤوليته الوطنية، ويظن أن الهجوم الشخصي على قائل الفكرة المغايرة يعفيه من مسئولية الاشتباك مع الفكرة نفسها. وقد نالني من هذا النوع من الهجوم الكثير في اليومين الماضيين بسبب مقالاتي تلك عن مشروع العاصمة الجديدة. فعوضا عن الاشتباك مع الاعتراضات التي طرحتها جاءتني اتهامات بأن ما يحركني هو عداوة شخصية للنظام وللرئيس.
أنا لا أخفي اختلافي مع سياسات الحكومة الحالية واعتقادي أنها كارثية. ومرة أخرى أرى أن التعبير عن هذا الاختلاف وذلك الاعتراض شيء ضروري وصحي لأي مجتمع ديمقراطي متى تم هذا التعبير بشكل سلمي. ولكن في هذا الموضوع تحديدا، موضوع العاصمة الجديدة، فأنا مهتم به منذ سنوات طويلة. ما كتبته كان نتيجة دراسات طويلة قمت بها عن تاريخ المدينة، إضافة لتدريسي لمادة عن تاريخ القاهرة في الجامعة الأمريكية وفي جامعة نيويورك حيث كنت أعمل قبل عودتي للوطن. ولكن، في المقام الأخير، إن هذه المقالات نابعة من كوني مواطن مصري، أعشق القاهرة، أهتم بها، وأفكر في مشاكلها مثلي مثل الملايين غيري.
وللتوضيح وللتدليل على قِدم اهتمامي بمدينتي أعيد هنا نشر بعض مقالاتي ومحاضراتي عن هذا الموضوع ، تاريخ القاهرة ومشاكلها. وكما هو واضح فقد نشرت هذه المقالات أصلا في أعوام ٢٠١١ و٢٠١٢ و٢٠١٣ . مشاكل القاهرة كثيرة ومعقدة. ولكن إمكانياتها ومواردها أيضا كثيرة وغنية. وكما قلت في إحدى المقالات، أنا على يقين بأن مصر ليست مكتظة بسكانها بقدر ما هي منورة بأهلها. وهذا ليس كلاما شاعريا. إنه دعوة لأهل البلد أن ينورونا هنا بالنقد والاشتباك والاعتراض على ما أكتبه، وعلى ما يكتبه الكثيرون غيري في هذا الموضوع. فعندها فقط، أي عندما نمارس حقنا في أن نجتهد ونفكر فيما يصلح لمدينتنا، سنجد أنفسنا وقد أقمنا بالفعل القاهرة التي نبغاها ونستحقها.