Press "Enter" to skip to content

مقابلة مع محمود مروة في "الأخبار" اللبنانية

نص المقابلة التي أجريتها مع محمود مروة في جريدة الأخبار اللبنانية في ٢٣ يونيو ٢٠١٥

المقابلة | خالد فهمي ■ يُحكم السيسي سيطرته، لكن نقاط القوة هي أيضا نقاط ضعف خطيو يرة ■ جزء كبير من شعبية السيسي يعود لقدرته على التعبير عن القيم المحافِظة ■ «الدولة والإخوان»: حلقة من صراع استمر طوال العقود الماضية ■ انتماء «الإخوان» إلى مصر سؤال «وجودي»… قبل التطرق للمصالحة دخلت مصر قبل نحو أسبوعين العام الثاني من ولاية الرئيس، عبد الفتاح السيسي. وقد باتت الدولة العربية المركزية تعرف، وتعايش، أنموذجاً يستحق المتابعة والدراسة نظراً إلى التجربة التي يقدمها وزير الدفاع السابق في بناء مفهوم جديد للسلطة الرئاسية، وهي تجربة قد يكون من شأنها القطع في مرحلة ما، مع ما عرفته القاهرة منذ رحيل الملكية!

اختارت «الأخبار» طرح عدد من الأسئلة على أستاذ التاريخ المصري، خالد فهمي، لما تقدمه أدوات البحث التاريخي من عناصر معرفية تلقي الضوء على جوانب مهمة مما تعيشه الجمهورية العربية راهناً، من «الرئاسة الجديدة» مروراً بالتبدلات الداخلة على المجال السياسي بعد «يناير ٢٠١١»، وصولاً إلى الصراع بين «الدولة والإخوان»

محمود مروة

 ترون في حديث سابق أنّ «لا أحد في تاريخ مصر المعاصر أحكم السيطرة بهذا القدر»، في إشارة إلى عبد الفتاح السيسي. ما أسباب هذا التقييم؟

نعم، قلت ذلك منذ عدة شهور، ولا أزال أعتقد أن الرئيس عبد الفتاح السيسي يحكم سيطرته على مفاصل الدولة المصرية بصورة لم يستطع أي من رؤساء مصر السابقين تحقيقها؛ فالسيسي يحظى بشعبية طاغية لدى قطاعات كبيرة من الشعب المصري، ومن واقع خلفيته في رئاسة المخابرات العسكرية (الحربية)، فهو يسيطر سيطرة محكمة على مقاليد الأمور داخل الجيش. ومن حين إلى آخر، نقرأ في الجريدة الرسمية قرارات بإحالة ضباط كبار في المخابرات على التقاعد، في إشارة إلى جهود منهجية لإحكام السيطرة على هذا الجهاز المهم. وبعد انهيار الشرطة في أعقاب ثورة يناير (كانون الثاني) ٢٠١١، وبعدما استردت شيئاً من عافيتها وتماسكها بعد ٣٠ يونيو (حزيران) ٢٠١٣، أدانت بالولاء التام للسيسي؛ إذ رأته يعرب عن امتعاضه ونفوره من مطلب «تطهير» الداخلية، ويوضح أن لا نية لديه في إعادة هيكلة (وزارة) الداخلية، ويمتنع عن تقديم أي من قادتها للمحاسبة أو المحاكمة. كذلك ينحاز القضاء للرئيس بصورة كلية وواضحة، إذ يرى قضاة كثيرون في السيسي صمام أمان للدولة وضماناً لها، ولا يعتقدون أنهم في هذه اللحظة الحساسة من تاريخ مصر يجب أن يتمسكوا بإخضاع الجهاز الإداري للدولة، وعلى رأس الهرم مؤسسة الرئاسة، للرقابة القضائية الدقيقة يتوّج السيسي سيطرته بغياب برلمان منتخب وبتأجيل الانتخابات البرلمانية إلى أجل غير مسمى. وفي عام واحد فقط، وفي غياب البرلمان، أصدر السيسي عدداً من القوانين فاق بمراحل ما أصدره كل رؤساء مصر السابقين مجتمعين. تكمن أهمية هذه النقطة ليس في عدد القوانين التي صدرت في غياب البرلمان، وبلغت حسب إحدى الإحصاءات أكثر من ١٠٠ تشريع، ولكن أيضا في طبيعة هذه التشريعات؛ فهناك تشريعات أعطت الحكومة الحق في تكليف شركات بعينها العمل بالأمر المباشر، في استثناء للقاعدة المتعارف عليها بضرورة عمل مناقصة لضمان الشفافية ولنفي شبهة الفساد، وثمة قوانين أخرى تختص بالمعاشات العسكرية، وبالتداول في البورصة، وبتنظيم الجامعات، وبالإجراءات الجنائية، وغيرها الكثير التي تغير بعمق وبمنهجية طبيعة الدولة المصرية وطريقة عملها. لذلك، فإن السيسي، إضافة إلى شعبيته الجارفة، يهيمن على السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، بجانب سيطرته على الجيش والشرطة والأجهزة الاستخباراتية… على أن نقاط القوة تلك هي أيضاً، أي في الوقت نفسه، نقاط ضعف خطيرة. فشخص يحتل موقع صدارة بهذا الشكل دون منازع هو أيضاً شخص معرض للهجوم المستمر ولتلقي اللوم على أي فشل يقع، خاصة بعدما رُفع سقف التوقعات، وبعدما علق ملايين المصريين على السيسي، وعليه وحده، آمالهم في انتشالهم من وهدتهم، وفي تحقيق الأمن والرخاء. السيسي يدرك خطورة هذا الوضع، لذلك فهو يدفع برئيس الوزراء، المهندس إبراهيم محلب، للواجهة ويلقي عليه لائمة التقصير والفشل في تنفيذ توجيهاته وتحقيق أحلام الشعب. وفي محاولة أخرى للحد من خطورة هذه النقطة، يطالب السيسي الشعب دوماً بالتوحد والاصطفاف ونبذ الخلاف وتوحيد الجهود، ولكن المشكلة تكمن في استحالة تحقيق هذا المطلب، فشعب قوامه تسعون مليون مواطن لا يمكن أن تتحد كلمته حتى لو أراد، ولا يمكن أن يصطف خلف زعيم واحد مهما كان هذا الزعيم مخلصاً وذا شعبية جارفة، بل ما بالنا إذا كان هذا الشعب خارجاً من ثورة هي بطبيعتها إشكالية تنقسم حولها الآراء، وما بالنا إذا كنا نتحدث عن إقليم تعم فيه الاضطرابات والانقسامات، وما بالنا إذا كان هذا الزعيم، بطبيعته، ليس زعيماً توافقياً يسعى إلى أن يستظل بعدله وبحكمه كل أبناء بلده، بل زعيماً يرى أن مهمته التاريخية والقومية تلزمه أن يطهر البلاد من الخونة ويقصي من يظن أنه يعمل على إسقاط البلد؟

هل تظنّون أنّ ولاية الرئيس السيسي غيّرت، أو بدلت، في مفهوم سلطة الرئاسة في مصر؟

لا، لا أعتقد ذلك. أعتقد أن ولاية الرئيس السيسي تُبلور اتجاهاً كان دائماً موجوداً في ثنايا مؤسسة الرئاسة المصرية منذ تأسيسها عام ١٩٥٣ بعد إلغاء الملكية. سلطة الرئاسة في مصر كانت دائماً سلطة أبوية، تفرض الوصاية على الشعب وتدعي احتكارها العلم والحكمة والدراية، في حين تعتقد دائماً أن الشعب تنقصه هذه القدرات. هذه الوصاية الأبوية كانت تقابلها أحياناً مساومة مفادها أن الدولة، بوصايتها على الشعب وبمطالبتها إياه بالإذعان لسلطتها، سوف تلبي له مطالبه الاقتصادية وسوف توفر له مستوى أدنى من الحياة الكريمة. هذه المعادلة ــ الإنعام على الشعب ببعض الهبات الاقتصادية والاجتماعية في مقابل تخليه عن حقوقه السياسية والدستورية ــ انهارت، عملياً، في أعقاب هزيمة ١٩٦٧ المروعة. ومن ذلك الوقت، ظهرت الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد بين الدولة والشعب. ولكن، بفضل استمرار الصراع العربي ــ الإسرائيلي، وتدفق أموال النفط، وتأزم المنطقة كلها بعد حرب الخليج، وأحداث سبتمبر (أيلول)… تمكن النظام من البقاء ونجح في تأجيل لحظة المواجهة. بهذا المعنى، كانت ثورة يناير تعبيراً عن الخلل العميق الذي تعانيه الدولة المصرية وليس سلطة الرئاسة فقط. فالثورة كانت تعبيراً عن انهيار هذا العقد الاجتماعي، وتمسك الشعب بحقوقه الاقتصادية والسياسية معاً. وعوضاً عن النظر إلى ثورة يناير على أنها نتيجة هذا الخلل الكامن داخل تلابيب الدولة المصرية الحديثة، ينظر النظام الحالي إلى «يناير» على أنها سبب هذا الخلل ومصدره. بناء على هذه القراءة، يرى الرئيس السيسي أنه يجب أن يسعى إلى القضاء على مصدر هذا الخطر وألا يدخر جهداً في هذا الأمر المهم، وهو في جهوده تلك يرى أن مهمته الأساسية تنحصر في استرجاع «هيبة الدولة» وفي الحؤول دون تردي مصر لمصير سوريا والعراق. أظن أن الوقت لا يزال مبكراً لمعرفة أي مدى ستذهب إليه هذه الجهود: هل ستعمل داخل إطار الدولة الأبوية المعهودة، أم ستتخطاها لتغير طبيعة النظام الجمهوري نفسه؟… مثلا عن طريق تعديل الدستور حتى لا يتقيد الرئيس بمدد لولاياته، أو بإلغاء البرلمان برمته كما يطالب بعض المثقفين والصحافيين الآن.

 إلى جانب الحديث عن سلطة الرئيس، ما هي برأيك التبدلات التي طرأت على المجال السياسي في مصر منذ «يناير ٢٠١١»؟

أظن أن أهم تبدلات طرأت على الساحة السياسية المصرية منذ يناير ٢٠١١ هي أن معالم السياسة نفسها آخذة في الوضوح. أي مجتمع، مهما كبر أو صغر، محتاج إلى إطار سياسي ينظم له اختلافاته وتعدداته بل تناحراته. وأظن أننا ــ المصريين ــ على مدار ستين سنة غابت عنا السياسة، ليس تنظيمياً (غياب أحزاب حقيقية، وغياب الانتخابات التنافسية.. إلخ)، بل أيديلوجياً. فسؤالا الهوية والقومية كانا المهيمنين على المجال السياسي، ثم انزوت الأسئلة الحقوقية واحتلت القضايا الاقتصادية منزلة ثانوية. الآن، بفضل ثورة يناير أساساً، وسياسات السيسي ثانياً، أصبح الناس يتحدثون في السياسة صباح مساء، وأصبح من الممكن تلمس قدر كبير من بلورة للخطاب السياسي. صحيح أن النظام الآن يعمل على إغلاق المجال السياسي، وأنه قطع أشواطاً بعيدة في استعادة الأرض التي أفقدته إياها الثورة، وصحيح أيضاً أن جزءاً من الخلاف السياسي لا يزال يدور حول سؤال الهوية، وحول توصيف «٣ يوليو» على أنه انقلاب، والحديث عن «الشرعية»، وكذلك حول الصراع بين الدولة وأنصارها، من ناحية، وقوى الإسلام السياسي وأهمها «الإخوان»، من ناحية أخرى… لكن برغم ذلك كله، أعتقد أن سياسيات السيسي لها أثر إيجابي في أنها، لأول مرة في تاريخ مصر الحديث، بلورت موقفاً يمكن أن يوصف بأنه محافظ بامتياز. السيسي يمكن أن يوصف بأنه ابن المؤسسة العسكرية، أو أنه عدو «الإخوان» اللدود، ولكنه أيضاً زعيم محافظ شديد المحافظة. فتقديسه للقيم العسكرية، واحترامه الكبار والتراتبية الاجتماعية، ومطالبته الشباب بتأجيل أحلامهم، واحترامه مؤسسة الأسرة، وريبته في «الأغيار»، واقتناعه بوجود مؤامرة تحاك ضد الوطن، وخطابه القومي الشوفيني («مصر قد الدنيا») ــ كل هذه القيم قيم محافظة قلما عبّر عنها زعيم مصري بهذا الوضوح، وبتلك القوة. وأعتقد أن جزءاً كبيراً من شعبية السيسي يعود ليس إلى موقفه من «الإخوان»، ولا قدرته على وأد ثورة يناير فحسب، بقدر ما يعود إلى قدرته على التعبير بوضوح عن القيم المحافظة التي يعتنقها قطاع كبير من الطبقتين العليا والوسطى. منذ خمس سنوات، لم يكن بوسعي أن أصف مصرياً بأنه يميني محافظ، فهذا كلام لم يكن له معنى. أما الآن، بفضل السياسات اليمينية للسيسي، أصبحت هذه المفردات مفهومة. وإذا حسم الرئيس أمره وقرر تشكيل حزب سياسي يعينه على إدارة شؤون البلاد، كما يطالبه كثيرون من أنصاره، فإنه لا أشك أن هذا الحزب سوف يكون حزباً يمينياً على غرار «الاتحاد الوطني» في البرتغال تحت حكم (أنطونيو) سالازار، وليس «الاتحاد الاشتراكي» تحت حكم (جمال) عبد الناصر الذي يتمناه هؤلاء الأنصار والمبايعون أنفسهم.

ما موقع المؤسسة العسكرية، والأمنية، من ذلك؟

بالطبع، المؤسسة العسكرية مغتبطة من سياسات السيسي أيّما اغتباط. فهو بنى على واحد من أهم إنجازات ثورة يناير وحافظ عليه، ألا وهو القضاء على مشروع التوريث، وبذلك ضمن للجيش الهيمنة على مؤسسة الرئاسة. هو وسّع الصلاحيات الدستورية التي يتمتع بها الجيش، ابتداء من شرط أن يكون وزير الدفاع عسكرياً، ومروراً بالتمسك بحق الجيش في محاكمة مدنيين أمام المحاكم العسكرية، وانتهاء باستثناء الميزانية العسكرية من أي رقابة برلمانية. أيضاً، عزز السيسي المزايا المترامية التي تحظى بها المؤسسات الاقتصادية الخاضعة للجيش، سواء بإعفائها من الضرائب العقارية، أو بتكليفها إنجاز المشروعات القومية الكبرى، أو باستثنائها من رقابة الهيئات الرقابية المتعددة. بطبيعة الحال، فإن المؤسسة العسكرية تستفيد من وصف الصراع الدائر مع حركات الإسلام السياسي بأنه «حرب» على الإرهاب، ففي ظل أجواء الحرب هذه، كما كان الحال، مثلاً، مع ألمانيا القيصرية (أي أثناء حكم القيصر فيلهلم الثاني ١٨٨٨-١٩١٨)، تزيد شعبية الجيش عادة في ظل هذه الظروف، ويصبح عميلاً أو خائناً من يبدي تحفظات، مهما كانت خفيفة، على تلك السياسات.

 كنت شاهداً على أحداث «يناير 2011» ومن بعدها «يونيو 2013». برأيكم، كيف تعمل السلطات اليوم على تأريخ تلك الأحداث؟ أي ذاكرة يجري صوغها؟

علاقة السلطات الحالية بثورة يناير علاقة مركبة ومعقدة؛ فمن ناحية، كانت الثورة في أحد أوجهها ثورة على دولة يوليو بمنطقها الأبوي، والسلطة الحالية هي امتداد لتلك الدولة، بل تحاول إعادة إحيائها بكل تفاصيلها: الزعيم المخلص، والشعب المشتاق لمخلّص، والمشاريع العظمى، والخطاب القومي الشوفيني. ولكن، من ناحية أخرى، فإن النظام الحالي يدين بوجوده لثورة يناير، فلولا يناير ما تخلصنا من مشروع التوريث، ولولا يناير ما تمكن الناس من الوجود في الشوارع والمجال العام، ولولا وجود الناس في الشوارع، ما تخلصنا من حكم «الإخوان». المشكلة، إذن، تكمن في كيفية تعامل السلطات مع الحراك المجتمعي بعدما أدى غرضه، وزعزع سلطة «الإخوان»، وفتح المجال أمام الجيش كي يطيح بنظام «الإخوان»، ومهد الطريق لانتخابات رئاسية جديدة. السلطات تعاملت مع هذا الحراك بالقضاء عليه، فأصدرت قانون التظاهر الذي جرم العمل الجماعي الذي أوصله للسلطة، وقُبض على من نزل للشارع اعتراضاً على هذا القانون، وحكم عليه بالسجن. وبعدما صوبت السلطات لـ«الإخوان» ضربات موجعة، استدارت كي تقضي على رموز ثورة يناير من الحقوقيين والشباب والناشطين. فمنهم من هو ملاحق أمنياً، ومنهم من مُنع من السفر، ومنهم من يعيش في المنفى، ومنهم من يقبع في السجن. وأخيراً صرح أحد قادة الاستخبارات السابقين بأن السلطات في طريقها لإعداد قضية كبيرة قال إنها ستشمل المئات من أسماء كل من «حاول إسقاط الدولة» في يناير وستوجه إليهم تهمة التخابر. هذا الالتباس ــ التغني بثورة يناير مع التنكيل بقاداتها ــ عبّر عنه الرئيس السيسي خير تعبير أثناء زيارته لألمانيا، عندما قال إن مصر كانت «تعاني» من حالة ثورية، قبل أن يتدارك زلة اللسان الفرويدية ويقول: «الحالة الثورة الِّي مصر كانت بتعيشها». ونشأ من هذا الالتباس الكامن في موقف السلطات من يناير التباس آخر في السردية الرسمية عن يناير؛ فبعدما كانت يناير ثورة مجيدة قام بها «الشباب المصري الطاهر»، بدأ الخطاب الرسمي يشير إلى الحدث نفسه تارة على أنه عمل أخرق قام به بعض السذج الذين بسذاجتهم وعدم تخطيطهم وتشرذمهم، سلموا البلد لـ«الإخوان»، وتارة على أنه مؤامرة حيكت ضد مصر كان غرضها إسقاط ليس النظام فقط، بل مصر برمتها. وما يزيد تهافت الخطاب الرسمي هو التضارب في رؤية ٣٠ يونيو؛ فمن ناحية يشير دستور ٢٠١٤ بوضوح إلى كل من ٢٥ يناير و٣٠ يونيو على قدم المساواة، وفي هذه الرواية تصبح ٣٠ يونيو «ثورة» أخرى جاءت لتستكمل ثورة يناير، على أن هناك كثيرين من أنصار ٣٠ يونيو الذين يرون فيها «تصحيحاً» ليناير، خاصة في الشق المتعلق باسترجاع «هيبة» الدولة، بينما يرى كثيرون ممن يتحفظون على ٣٠ يونيو، أو ممن يناصبونها العداء، أنها ثورة مضادة بامتياز دبرتها جماعة «تمرد» بإيعاز من الأجهزة الاستخباراتية كي تنقض على إنجازات يناير، وتنتقم من رموزها وقادتها.

 بناء على تاريخ العلاقات بين السلطات المصرية المتعاقبة وبين جماعة «الإخوان المسلمين»، كيف توصّفون طبيعة الصراع الجاري؟

الصراع الحالي بين السلطة وجماعة «الإخوان المسلمين» ما هو إلا حلقة من حلقات صراع استمر على مدار العقود الثمانية الماضية، وبشيء من الاختزال يمكن النظر إلى تاريخ مصر السياسي الحديث على أنه نتاج هذا الصراع، أو على الأقل انعكاس له. هذا الصراع يُنظر إليه أحيانا كصراع وجود، تتناحر فيه قوتان عاتيتان على إبادة إحداهما الأخرى. ووفق هذه الرؤية، تشكل جماعة الإخوان تهديداً وجودياً للدولة المصرية، فهذه جماعة ما فتئت تعبّر في أدبياتها ــ منذ تأسيسها عام ١٩٢٨ ــ عن رغبتها ليس في الوصول إلى السلطة فقط، بل الاستيلاء على الدولة المصرية كخطوة ضرورية على طريق «أستاذية العالم»، وهو الهدف الأسمى للجماعة. لذلك، تنظر الدولة المصرية إلى هذه الجماعة ليس كحزب سياسي يتنافس في الساحة السياسية التي تتحكم فيها الدولة باقتدار، بل كجماعة تجتهد على مدار عقود طويلة كي تنشئ مجتمعاً موازياً داخل المجتمع المصري، وأن توسع هذه القاعدة المجتمعية حتى تبتلع المجتمع المصري برمته: أفراداً، وجماعات، ومؤسسات. على ذلك، فإن الصراع مع الجماعة، من وجهة نظر الدولة، لا يقتصر على نزوع الجماعة من حين إلى آخر نحو السلاح، على خطورة هذا النزوع، بقدر ما هو صراع على طبيعة الدولة المصرية بذاتها وبكينونتها. في المقابل، تنظر الجماعة إلى الدولة على أنها الجائزة التي تحلم بتملكها والاستحواذ عليها، ولكن، حتى يتم لها هذا، فهي تحذر من هذه القوة الباطشة وتخشاها. وعلى مدار العقود، اندلعت المواجهات بين الدولة والجماعة مرة تلو أخرى، وتعمّقت الريبة والعداء من الطرفين كل اتجاه الآخر، فهناك أجيال من رجال الشرطة الذين تربوا على النظر إلى الإخوان كالعدو بألف لام التعريف. وفي المقابل، هناك أجيال من أعضاء الإخوان، وخاصة القطبيين، الذين ينظرون إلى الدولة المصرية على أنها دولة طواغيت فراعنة: لا مهادنة معها ولا تصالح. برغم هذا الخلاف الجذري والعداء المستحكم بين الدولة المصرية الحديثة وجماعة الإخوان، فإن هناك سمات مشتركة عديدة تجمع بينهما، فكل منهما يتسم بالانغلاق وانعدام الشفافية. جماعة الإخوان، كما سبق القول، ليست حزباً سياسياً يمكن الاشتراك فيه بملء استمارة عضوية، بل هي جماعة سرية لا يمكن الانخراط فيها إلا بناء على تزكية من أحد الأعضاء تعقبها مرحلة اختبار ومراقبة تستغرق سنوات طويلة حتى يسمح للفرد أن يصبح عضواً فيها. كما إن طرق اتخاذ القرارات داخل الجماعة محاطة بستار من السرية يصعب حتى على الأعضاء الإلمام بها، فما بالنا بأفراد المجتمع المصري؟ وبالمثل، الدولة المصرية بمؤسساتها ترى نفسها حكراً على أعضائها من موظفين وقضاة وضباط شرطة، وضباط جيش، إلخ… تخدمهم وترعى مصالحهم أولاً، ثم تتوجه لجموع المصريين، شأنها في ذلك شأن الإخوان. كما تقاوم الدولة المصرية بضراوة، من تأسيسها في بدايات القرن التاسع عشر، محاولات المجتمع لإخضاعها له ولإجبارها على تلبية متطلباته. وتكمن مأساة الثورة المصرية، ثورة يناير، في اضطرارها إلى مواجهة هذين الكيانين السلطويين في آن واحد: مؤسسات الدولة القمعية وجماعة الإخوان المسلمين. فكما أثبتت الأيام، استطاعت جماعة الإخوان أن تجد أرضية مشتركة مع المجلس العسكري بعيد تنحي الرئيس الأسبق (محمد حسني) مبارك، وأن تتحالف معه في مقابل إنهاء الحالة الثورية في الشارع، على أن هذا التحالف لم يكن ليصمد طويلاً، فنتيجة للصراع الوجودي بين هاتين القوتين القمعيتين، كان من المحتم أن تنقلب إحداهما على الأخرى. وعندما حدث ذلك، لم يكن الطرف الأضعف في هذه المعادلة، أي الإخوان، هو الخاسر الوحيد، بل أيضاً الثورة ورموزها وقادتها.

واضح أنه في خضم هذا الصراع، هناك استعانة بمؤسسة الأزهر، ما رأيكم بذلك؟

بالطبع، فالتنافس، أو الصراع بين الإسلام الرسمي الذي يمثله الأزهر، وبين الإسلام السياسي، الذي تمثل جماعة الإخوان أهم أجنحته، صراع قديم ويعتبر جزءاً من الصراع الوجودي بين الدولة المصرية والجماعة. تجتهد الدولة المصرية حثيثا في تجنيد الأزهر في صراعها مع الإخوان، ومن هنا كان من الضروري وقوف شيخ الأزهر خلف الفريق عبد الفتاح السيسي حينما كان وزيراً للدفاع، عندما أعلن عزمه على الإطاحة بالرئيس الأسبق (محمد) مرسي. وتعتقد الدولة المصرية أن الأزهر بإمكانه التصدي ليس فقط للفكر الجهادي الوافد، بل أيضاً لفكر جماعة الإخوان. ومن هنا كانت دعوة السيسي لعلماء الأزهر أن يقوموا بثورة فكرية ويعملوا على تجديد الخطاب الديني. على أن سنوات، بل عقوداً طويلة، من انضواء الأزهر تحت لواء الدولة قتلت فيه الاستقلالية وأعدمت عنه النزعة التقدمية التي ميزت بعض رجالاته في الأزمنة السابقة، فإن الأزهر الآن تسيطر عليه نزعة رجعية محافظة، ليس في الأمور الدينية فحسب، ولكن أيضاً في القضايا الاجتماعية والسياسية. موقف الأزهر من القضايا الحقوقية (حق الإضراب مثلاً) أو القضايا الاجتماعية (مثل قضايا المرأة) موقف رجعي إن لم يكن متزمتاً، وتغيب عنه روح التلاحم مع الشعب والانتصار لمطالبه، كما رأينا في بعض الأحيان في أوائل القرن التاسع عشر مثلاً. وشتان الفرق بين موقف الأزهر من مثل هذه القضايا، وموقف كنائس أميركا اللاتينية واعتناقها اللاهوت التحرري في سبعينيات القرن الماضي. كان من نتيجة هذه النزعة المحافِظة أن دار الصراع بين الأزهر والإخوان حول أسئلة الهوية، وليس القضايا الحقوقية. فعلماء الأزهر ليسوا مطالبين بأن يجتهدوا للدفاع عن حق المرأة في العمل، أو إيجاد مواصلات آمنة أو في التعليم، بل مطالبين بالاجتهاد لإثبات أن إسلامهم هو الإسلام الوسطي المتسامح الذي يعبر بحق عن الهوية المصرية الأصيلة.

ختاماً، هل تعتقدون بأنه يمكن أن نصل إلى مصالحة بين النظام الحالي و«الإخوان»؟

هذا طبعاً هو لب الموضوع ومربط الفرس. ففي غياب قوى ديموقراطية حقيقية يصبح من الجائز التوصل إلى مصالحة بين القوتين المحافظتين الأساسيتين، أي النظام الحالي و«الإخوان». للإجابة على هذا السؤال يجب طرح ثلاثة أسئلة أخرى: ١. عن أي نظام نتحدث؟ ٢. عن أي إخوان نتحدث؟ ٣. ما هي الشروط الممكنة للمصالحة؟ أعتقد أنه ليس مستبعداً أن يكون هناك فصيل في النظام الحالي يرى إمكانية القضاء تماماً على الإخوان: فكراً، وتنظيماً، وقيادة، وقواعد، بل حتى أيضاً كاتجاه فكري وثقافي في المجتمع. ولكن من المؤكد أن هناك فصيلا آخر يرى صعوبة هذا الطرح وخطورته، ويعرض عوضاً عن ذلك طرحا آخر يذهب إلى إمكانية التصالح مع «الإخوان» بعدما تضعضت قواهم وضعفت شوكتهم وانفض الناس عنهم. وقد يستند هذا الفصيل الثاني إلى التغيرات التي طرأت على موقف السعودية واعتلاء الملك سلمان سدة الحكم وتفضيله الواضح لاحتواء الإخوان بدلاً من القضاء عليهم. أما بخصوص الإخوان، فظهور الانقسامات الخطيرة مؤخراً في ما بين قادة الجماعة، من ناحية، وبين قادة الجماعة وشباب قواعدها، من ناحية أخرى، ينم عن تحولات جذرية تتم داخلها، وأنه إذا كتب للجماعة البقاء، وإذا نجحت في العبور من الأزمة العميقة التي تمر بها، فإنها لن تكون الجماعة عينها التي شهدناها على مدار العقود الثماني الماضية. الأمر لا يتعلق بعلاقة الجماعة بأجهزة الدولة، ولا بانتصار التيار القطبي، ولا بالصراع الجيلي داخل الجماعة، بل بعلاقة الجماعة بسائر الشعب المصري… أعتقد أن التساؤل عن إمكانية المصالحة مع النظام يعتمد على سؤال أصعب وأقسى يجب على الجماعة أن تطرحه على نفسها: إلى أي درجة يعتبر الإخوان المسلمون أنفسهم مصريين؟ المقالان اللذان نشرهما محمد عباس، أحد أعضاء الجماعة من الشباب، في موقع «ساسة بوست» مؤخراً، ينمان عن العقلية القديمة التي تنظر بها الجماعة إلى مصر على أنها «امرأة جميلة ذات مطمع». وبغض النظر عن اللهجة الذكورية المقززة التي تحتويها هذه العبارة الدالة، ينم هذا القول عن عقلية استعلائية ــ إقصائية ترى بها الجماعة نفسها كنتوء خارج المجتمع المصري، لا كفصيل من فصائله. وأعتقد أن حسم هذا السؤال، سؤال انتماء الإخوان المسلمين لمصر، سؤال وجودي سيضطر الإخوان على مواجهته قبل التطرق لإمكانية مصالحتهم مع النظام. وأخيرا، بخصوص شروط المصالحة، فإن ذلك سيعتمد على توازن القوى داخل كل معسكر، بالإضافة إلى الدور الذي ستلعبه القوى الإقليمية كالسعودية والإمارات وتركيا وقطر التي تنظر كل منها إلى الصراع بين النظام المصري والإخوان بدقة وحذر. أيا تكن الإجابة عن تلك الأسئلة، فمن المؤكد أنه في ظل ضعف القوى الديموقراطية، وغياب الرموز الثورية في السجون والمنافي، فإن أي مصالحة بين النظام وجماعة الإخوان لن تندرج في خانة الحقوق والديموقراطية ولن تؤدي إلى توسيع الحريات. كل ما يمكن أن تؤدي إليه هذه المصالحة هو هدنة مؤقتة يسترد كل طرف فيها أنفاسه ويستعد لجولة أخرى من الصراع دون حساب لما يتكبده جمهور المتفرجين من خسائر.


تعريف

لم يبدأ خالد فهمي مسار تخصصه الأكاديمي بالتاريخ، بل درس في القاهرة الاقتصاد والعلوم السياسية قبل المواصلة في بريطانيا والولايات المتحدة مختاراً التاريخ مجالاً للبحث والتخصص. وكان أستاذ التاريخ، المحاضر في جامعات أميركية ورئيس كلية التاريخ في الجامعة الأميركية في القاهرة، قد عاد إلى القاهرة قبيل «يناير 2011» حينما شعر بأنّ «ثمة شيء يحدث في مصر الآن»، وبأنّ ثمة «جنيناً يتحرك في رحم مصر وتاريخها» (الأخبار العدد ١٥٦٢). ويمكن اعتبار صاحب كتاب «كل رجال الباشا؛ محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة» من الجيل الجديد للمؤرخين في العالم العربي، لاتباعه مناهج بحثية غير مألوفة في عالمنا، وقد يكون من البادئين بالبحث والكتابة في «التاريخ المعاش».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.