نُشر في “الشروق” في ١٩ يوليو ٢٠١٣
فى مارس الماضى كتبت هنا معلقا على مقال مهم كان قد كتبه وائل عباس، صاحب مدونة «الوعى المصرى»، وكان قد نبه فيه لخطر انتشار الميليشيات المسلحة، من إخوانية لألتراس لبلطجية، ومنزعجا مما رآه تناميا للعسكرة والفاشية فى مصر.
وختم وائل عباس مقاله بعقد مقارنة بين وضعنا العام الماضى (وقت كتابة المقال) ووضع ألمانيا فى آخر أيام جمهورية فايمار فى العشرينيات من القرن العشرين عشية وصول النازيين للحكم.
فى تعليقى قلت إن المقارنة بين الإخوان والنازيين قد تبدو مزعجة ولكنها قد تكون مفيدة لفهم اللحظة الحالية. وقلت إن هناك فروقا كثيرة تفصل الإخوان عن النازيين قد يكون من أهمها أن الأخيرين كانوا قد سيطروا بالفعل قبل وصولهم للحكم على مؤسسات العنف المنظم فى المجتمع، أى الجيش والشرطة، بينما الأولين افتقدوا السيطرة على هاتين المؤسستين المحورتين.
●●●
وأظن أن سجل الإخوان فى الحكم يوضح كيف شكل هذا العامل، أى عدم سيطرتهم على الجيش والشرطة، هاجسا أرق قادة الجماعة وأزعجهم.
ففى ظل الحالة الثورية المتنامية وفى ظل نزول الناس للشوارع اعتراضا على سياساتهم شعر الإخوان بضرورة التوصل لتفاهم ما مع هاتين المؤسستين.
وبالفعل انجاز الإخوان للشرطة والجيش فى كل المناسبات التى حدث فيها صدام مع الشارع، فنواب الإخوان، نفوا أن تكون الشرطة قد استخدمت السلاح الحى فى أحداث وزارة الداخلية، وغض قادة الإخوان النظر عن التجاوزات الخطيرة التى ارتكبتها الشرطة فى أحداث بورسعيد 2، ووأدت حكومة هشام قنديل كل مبادرات إعادة هيكلة الداخلية، ووصل أمر مغازلة الشرطة إلى أن شكر محمد مرسى الشرطة على دورها فى ثورة ٢٥ يناير!
السياسة نفسها اتبعها الإخوان مع الجيش، فمنعوا أتباعم من الهتاف ضد العسكر، وبعد أن بدأ مرسى رئاسته بتشكيل لجنة لتقصى الحقائق فى انتهاكات حقوق الإنسان التى حدثت أثناء حكم المجلس العسكرى عاد وأخفى تقرير اللجنة الذى أدان الجيش بشدة، وانتهى الحال بأن كرس دستور الإخوان كل المزايا التى كان يتمتع بها الجيش، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، وزاد منها.
●●●
وبعد أن ظنوا أنهم نجحوا فى تحييد هاتين المؤسستين المحورتين سعى الإخوان جاهدين للتحكم فى المجال العام وتحجيمه، فسنوا مشاريع قوانين للتحكم فى جمعيات المجتمع المدنى، وللحد من التظاهر، ولإعادة رسم الدوائر الانتخابية بشكل منحاز لمرشحيهم، وللتحكم فى القضاء، وهذا كله فى ضوء دستور كتبوه بشكل إقصائى منحاز.
لهذا كله، إضافة إلى خطاب التحريض الطائفى البغيض ضد الشيعة وضد الأقباط، جاءت ثورة الشعب بكل طوائفة ضد الإخوان يوم ٣٠ يونيو. ففى هذه الثورة عبر المصريون بمنتهى القوة والوضوح عن رفضهم لمشروع الإخوان الداعى لغلق المجال العام ولمصادرة الحريات وللتنصل من قيم الثورة وللتمسك بأضيق مفاهيم الديمقراطية، تلك التى تختزلها فى صناديق الاقتراع.
وبعد أن رفض الإخوان إعادة النظر فى سياساتهم عقب ثورة ٣٠ يونيو وبعد أن حرض قادتهم على العنف ولوحوا به، وبعد أن تفجر هذا العنف بالفعل فى المنيل وبين السرايات وسيدى جابر ورمسيس، أتفهم تخوف الكثيرين من السماح لجماعة الإخوان المسلمين بمواصلة العمل السياسى دون وقفة حاسمة مع النفس ودون إعادة نظر جوهرية فى فلسفة الجماعة ورؤيتها لنفسها ولرسالتها ولأساليبها فى العمل.
كما أتفهم ضرورة محاسبة قادة الجماعة على تحريضهم على العنف وعلى خطاب الكراهية والعنصرية الذى انتهجوه، وأتفهم أيضا مطالب الكثيرين بأن يتم تطبيق عزل سياسى على قادة الجماعة كما طبق على قادة الحزب الوطنى المنحل.
●●●
ولكن…
ولكن، ألا نتجاهل بمطالبنا تلك تجاه الجماعة الفيل الذى فى الغرفة، كما يذهب التعبير الإنجليزى؟ ألا نتجاهل الجيش وتدخله السافر فى العملية السياسية منذ٣ يوليو؟
فى مقالى الذى أشرت إليه سابقا والذى علقت فيه على مقال وائل عباس حاولت أن أنبه إلى أن توجساتنا من الميول الفاشية لجماعة الإخوان المسلمين يجب ألا تلهينا عن الأخطار الكامنة فى الاحتماء بالعسكر.
وختمت المقال الذى كان عنوانه «جمهورية فايمار أم الثامن عشر من برومير»، فى إشارة إلى الانقلابين العسكريين الذين قام بهما نابليون بونابرت وابن اخيه لوى ــ نابليون عامى ١٧٩٩ و١٨٥١ على التوالى، ختمته بالقول إن «خوفى من صحة المقارنة (بين وضعنا ووضع جمهورية فايمار) لا يفوقه سوى خوفى من أن تكون المقارنة الأصوب ليست تلك التى تعقد بين الإخوان والنازيين عام ١٩٣٣ ولكن بين حالنا اليوم وحال فرنسا عشية الثامن عشر من برومير».
وللأسف كان تخوفى فى محله. فإن تدخل الجيش فى ٣ يوليو أرسل رسالة ملتبسة للإخوان. فعوضا عن الرسالة الواضحة التى أرسلتها الملايين لهم والتى قالت لهم «لقد فشلتم، وعليكم الرحيل»، جاءت رسالة الجيش لتقول لهم «أنتم مستهدفون، وسنستخدم القوة ضدكم».
ومما زاد من التباس الأمور أن الجماهير التى كانت طوال فترة حكم المجلس العسكرى تهتف ضد العسكر أصبحت تحمل صور السيسى وتعتبره نبيها ومخلصها.
ونسى الناس أو تناسوا أن هذا الجيش الذى يرقصون تحت طائراته فى التحرير هو نفس الجيش الذى أمر بكشوف العذرية، وسحل ست البنات، وخطف المتظاهرين وعذبهم فى المتحف المصرى وفى مجلس الوزراء، وأمر بإجراء عمليات جراحية على المتظاهرين فى المستشفيات العسكرية دون بنج أو تعقيم، وقبل كل ذلك أدار، ومازال يدير، امبراطورية اقتصادية تدور التكهنات على أنها تتحكم فى ربع اقتصاد البلد (عرق الجيش).
●●●
إن هذه الثورة قامت من أجل الحرية، وقد استطاعت أن تطيح بمبارك وتنهى حكمه الذى أذل الناس وأفقرهم. وفى ٣٠ يونيو ثرنا مرة ثانية عندما رأينا الإخوان المسلمين يقفلون أبواب الحرية فى وجهنا. ولن نسمح للجيش أن يسرق ثورتنا مرة ثانية أو أن يقمعنا ويفرض إرادته علينا بدعوى الدفاع عن حريتنا.