مقال نُشر في “مدى مصر” في ٤ مارس ٢٠١٤
لو كان عندي فيروس سي أو إيدز كان ممكن شعوري يكون إيه لما أسمع إن أخيرا اكتشفنا علاج للمرض الّ بأعاني منه؟
أظن إن أول فكرة هتخطر على بالي هتكون تخوفي من إن العلاج غالي جدا ومش هأقدر على ثمنه. طيب، لو قالوا لي إن العلاج رخيص وتكلفته تكاد تكون منعدمة، وإنه موجود بالفعل ونسبة نجاحه تفوق ٩٠٪، وإنه كمان مالوش أعراض جانبية، يا ترى شعوري وقتها هيكون إيه؟
ويا ترى شعوري هيكون إيه لما اكتشف إن الخبر ده بعد ما صدقته طلع كله كذب في كذب؟
دي الأسئلة الّ دارت في ذهني أول مرة سمعت فيها عن اختراع الجيش لجهاز الكشف عن فيروس سي والإيدز وعلاجهم.
الكلام ده كان يوم السبت ٢٢ فبراير وكنت لسه راجع من سفرية طويلة ومتعبة. وأول ما دخلت البيت من المطار لقيت أصحابي بيكلموني في التليفون وبيتساءلوا عن صحة الأخبار المنشورة. على طول دخلت ع النت وقعدت أدور.
والّ لقيته وقرأته وأتفرجت عليه من يوم السبت ٢٢ فبراير لحد دي الوقت خلّاني أتساءل أكثر من مرة إذا كنت بأتفرج على فيلم رخيص وسخيف، أو إذا كانت المقالات الّ بأقراها واللينكات الّ بأتفرج عليها حقيقية أو متفبركة.
لكن لقيت نفسي برضه بأحاول أشرح إزاي القصة دي من أولها لآخرها بتعبر بشكل ممتاز عن مشكلتنا مع الجيش ومشكلة الجيش معانا ومشكلة الجيش مع نفسه.
يوم السبت ٢٢ فبراير الرئيس عدلي منصور، والنائب الأول لرئيس الوزراء وزير الدفاع المشير عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء (الّ ما كانش لسه استقال) حازم الببلاوي (وده بالمناسبة ترتيب إلقاء الأسماء الّ استخدمه التليفزيون الرسمي لما أعلن الخبر)، راحوا يفتتحوا عدد من المشروعات التنموية والخدمية التابعة للهيئة الهندسية للقوات المسلحة.التليفزيون أعلن إن من ضمن المشروعات دي “تطوير وتوسعة كوبري المشير أبو غزالة، وتطوير ميدان المشير الجمسي، وأعمال المرحلة الأولى من تطوير طريق العروبة.“ تقرير التليفزيون أضاف إنهما افتتحا (مثنى مش جمع) كلية الطب القوات المسلحة،” وأضاف التليفزيون إن في بداية حفل الافتتاح استمع الرئيس عدلي منصور لعرض من اللواء أركان حرب طاهر عبد الله طه، رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، عن إنجازات الهيئة في الفترة من أغسطس ٢٠١٢ لحد ده الوقت. العرض تضمن تنفيذ “٤٧٣ مشروعا استراتيجيا وخدميا للمساهمة في دعم مقومات التنمية الشاملة للدولة في مختلف المجالات وتعود بالنفع على المواطن المصري.“
بعد كل الكلام ده وبعد عرض صور وخرايط وفيديوهات عن مشاريع الطرق والكباري والمباني الّ الهيئة الهندسية قامت بيها، فجأة التقرير قال إن من ضمن الإنجازات الّ الهيئة حققتها “أحدث الابتكارات العلمية لصالح البشرية، والمتمثلة في اختراع أول نظام علاجي في العالم لاكتشاف وعلاج فيروسات الإيدز، كما يمكنه القضاء على فيروس سي بتكلفة أقل من مثيله الأجنبي بعشرات المرات وبنسبة نجاح تجاوزت التسعين بالمائة.“
الخبر كله كان فيه حاجة غلط. التليفزيون كأنه كان بيقول: “إمبارح السيسي افتتح كوبري المشير أبو غزالة وميدان المشير الجمسي، وكلية طب جديدة. آه وبالمناسبة الجيش اكتشف علاج للإيدز وفيروس سي.”
أنا اتخضيت من طريقة العرض دي، فخبر الوصول لـ”أحدث الابتكارات العلمية لصالح البشرية” كنت أتوقع إنه يكون في أول التقرير مش في آخره، إلا لو التليفزيون ومعاه الجيش شايفين إن افتتاح كوبري أبو غزالة أهم من اكتشاف علاج لفيروس سي.
المهم، بقية التقرير ما زودتش تفاصيل مهمة عن الاكتشاف المهم ده. وقعدت وأكيد معايا ناس تانية كثير نستنى توضيح عن الخبر المهم ده الّ ممكن يكون أهم خبر طبي على مستوى العالم.
تاني يوم، الحد ٢٣ فبراير، تابعت المؤتمر الصحفي الّ عقدته الهيئة الهندسية للإفصاح عن تفاصيل الاكتشاف العلمي الهائل ده. كنت أتوقع إن المؤتمر يعرض لينا تفاصيل علمية في حضور دكاترة ومتخصصين، فالبلد مليانة متخصصين في أمراض الكبد والإيدز والفيروسات، وكنت أتوقع إني أشوف عرض دقيق للنظريات العلمية الّ مبني عليها الاكتشافين دول: اكتشاف علاج للإيدز واكتشاف علاج لفيروس سي.
ولكن اكتشفت إن المؤتمرالصحفي مستضيفاه مش مستشفى من مستشفيات القوات المسلحة إنما هيئة الشئون المعنوية، وإنه مافيهوش دكاترة أو علماء إنما الحضور من ظباط في الجيش. الأهم من ده وده إن اللواء أركان حرب طاهر عبد الله ، رئيس الهيئة الهندسية، قعد حوالي نص ساعة يتكلم عن المشروعات الهندسية الّ الهيئة نفذتها من خزانات مفتوحة للمياة في سيناء، لـ ٥٣٧٢٨ وحدة سكنية لصالح القطاعين العسكري والمدني، لعدد ٤ مزلقان من أصل ١٨ مزلقان جاري تنفيذهم لصالح وزارة النقل– قبل ما يسلم الميكروفون لمجموعة من المتحدثين يشروحوا لينا حقيقة الاكتشافات العلمية المتعلقة بفيروس سي والإيدز الّ العالم كله مستني يسمعها.
و كان من المتحدثين دول لواء طبيب إبراهيم عبد العاطي رئيس الفريق البحثي الّ حقق الإنجازات المبهرة دي.
الحقيقة أنا اتخضيت من كلام سيادة اللواء، وقعدت مدة بأشك إن ده فيديو مضروب، وإن دي نكتة حد عاملها علشان يشوه سمعة الجيش.
كلام اللواء طبيب إبراهيم عبد العاطي ما كانش فيه لا علم ولا طب. ولا كان فيه انظباط ظابط كبير في الجيش. الكلام كان عن عكوفه لدراسة مرض الكبد الوبائي من أكثر من ٢٢ سنة، وعلاقته مع المخابرات العسكرية الّ قالت له يلتزم بالسرية في الموضوع ده. ولما جاه يتكلم عن النظرية العلمية الّ تبناها للقضاء على فيروس سي، قال “إن هزيمة الفيروس عملية سهلة جدا، ولكن يؤتي الحكمة من يشاء.” وبعدين شرح لينا إزاي إنه مقتنع إن علاج الإيدز أسهل بكثير من علاج فيروس سي: “الأيدز single strand، إنما السي double strand.” وبدل ما يحكيلنا على أبحاث علمية سابقة اعتمد عليها، أشار إلى مقال له في صحيفة المسا من سنة ٢٠٠٦ بعنوان “قهرت الإيدز ووداعا للصدفية والسر في صحراء سيناء.” ولما بدا على الحضور علامات التعجب قال ليهم “دي قصة أخرى لن أتكلم بصددها الآن.“ وأكد إنه غرس في نفوس أعضاء فريق البحث الّ كونه “أخلاقات البحث العلمي” حتى “أدمنوا البحث العلمي”. وبعدين أكد بمنتهى القوة والوضوح “أنا قهرت الإيدز بفضل الله سبحانه وتعالى بنسة ١٠٠ ٪ وقهرت السي. لن تجدوا مريض يعاني من مرض الكبد الوبائي بعد اليوم، إن شاء الله.” وبعدين جت الجملة الشهيرة: “بأخذ الإيدز من المريض، بأغذي المريض على إيدز، أديهوله صباع كفتة يتغذى عليه.” واختتم بشكر سيادة المشير عبد الفتاح السيسي الّ قال له “احنا في الذيل. مش هينفع نمشي زي الناس ما ماشية. احنا عايزين نقفز. وهذه القفزة الأولى إن شاء الله: قهر الإيدز على مستوى العالم.”
بعد انتهاء المؤتمر الصحفي لقيت نفسي متلخبط أكثر من الأول: هو اكتشاف الجيش يتعلق بالكشف على المرض ولا بعلاج المرض؟ الاكتشاف يتعلق بالإيدز ولا بفيروس سي؟ جهود سيادة اللواء في معالجة المرض (أيا كان هو إيه) بدأت من ٢٢ سنة ولا كانت بفضل توجيهات سيادة المشير السيسي؟ إيه علاقة الكلام ده بالمخابرات الحربية؟ والأهم من كل ده، إيه النظرية العلمية الّ مبني عليها الاكتشافات دي؟ فين العلم في كلام اللواء طبيب رئيس الفريق البحثي الّ قهر الإيدز والّ تعهد بالقضاء على فيروس سي؟ الإشارة للمخابرات الحربية والاستشهاد بصحيفة المسا والتأكيد على أهمية صباع الكفته – كل الكلام ده مالوش علاقة بالعلم سواء طب أو كيمياء أو فيزياء أو أي علم تاني يتعلق بمرض الإيدز أو فيروس سي.
في الأيام التالية أظن الناس بدأ الفار يلعب في عبها، وابتدأت تلاقي معلومات عن اللواء دكتور إبراهيم عبد العاطي تشكك في مصداقية كلامه. فمثلا كان في خبر بيقول إنه مش لواء بجد إنما مكلف (زي محمد عبد الوهاب كده)، وإنه مش طبيب وإنما عنده دكتوراه في العلوم. وبعدين سمعنا إنه ولا ده ولا ده إنما باحث مهتم بالإعجاز العلمي في القرآن وإنه له كلام في الموضوع ده على قناة الناس الدينية الّ اتقفلت بعد ٣ يوليو. وقرأنا برضه إن إبراهيم عبد العاطي دجال بيداوي بالأعشاب وإنه بيدّعي إن فيه علاج عشبي ممكن يدواي الإيدز والأورام والسكر والفشل الكلوي في وصفة واحدة. وكمان بدأنا نقرأ عن ضحايا الدجال ده من المرضى المساكين الّ ضحك عليهم وأوهمهم إنه عنده علاج لأمراضهم وإن وزارة الصحة متابعاه من مدة وإنه مش مسجل في نقابة الأطباء.
ويوم ورا يوم الغموض الّ بيحيط بإبراهيم عبد العاطي بيزيد. ففي إحدى أحاديثه التليفزيونية قال إنه عُرض عليه ٢ مليار دولار ثمن اختراعه لجهاز معالجة المرضين الخطرين: الكبد الوبائي والإيدز، ويتفهم من كلامه إن الموضوع حصل بالخارج، إنما هو رفض المبلغ ورجع مصر والمخابرات حمته. ولكن د. أحمد علي مؤنس، عضو الفريق البحثي، قال في برنامج تليفزيوني إن إبراهيم عبد العاطي عُرض عليه ٢٠ مليون دولار بس نظير تخليه عن الجهاز.
لكن أهم تساؤل دار في ذهني كان يتعلق ببراءة اختراع جهاز C Fast الّ اتعرضت عنه فيديوهات في المؤتمر الصحفي والّ شكله زي المسدس الّ طالع له إريال. “مصدر عسكري” قال للأهرام إن الجهاز “تم الاعتراف به دوليًا.” لكن محمد أبو الغيط وأمينة حسن كتبوا مقال دقيق في بوابة الشروق أثبتوا فيه بالوثائق إن الاختراع ده رُفض من قِبل المنظمة العالمية للملكية الفكرية، WIPO، ومقرها جنيف. فمن ضمن الوثائق الّ محمد أبو الغيط وأمينة حسن عثروا عليها الطلب الرسمي الّ وزارة الدفاع تقدمت بيه للمنظمة دي علشان تسجل الاختراع ورد المنظمة على الطلب. رد المنظمة جاه بتاريخ ٢٩ سبتمبر ٢٠١٢ ومذكور فيه أسباب رفض تسجيل براءة الاختراع: ١. الطالب (يعني الحكومة المصرية ممثلة في وزارة الدفاع ) ما أعطتش معلومات كافية عن طريقة عمل الجهاز؛ ٢. المصطلحات المذكورة في الطلب مصطلحات فضفاضة وغير دقيقة؛ ٣. الطلب ذكر إن الجهاز ممكن يميز بين الأجسام الصلبة والسوائل والغازات والفيروسات والبكتيريا، إنما ما وضّحش إزاي تحديدا ممكن التمييز ده يتم.
وهنا تساؤل مهم: مين الّ بيقول الحقيقة هنا: المنظمة العالمية للملكية الفكرية الّ تقريرها بيقول إن طلب تسجيل براءة الاختراع لم يُقبل؟ ولا الجيش الّ بيقول إن الاختراع مُعترف بيه دوليًا؟
ومن حسن الحظ إن في عالم شاب مصري محترم أخذ الكلام بتاع عبد العاطي بشكل جد، وقرر إن موضوع زي ده بيلمس حياة ملايين المصريين (من ١٥ لـ ٢٠٪ من الشعب المصري مصاب بفيروس سي ) موضوع مهم وأي كلام يتقال فيه لازم يتاخد جد. الشاب ده اسمه إسلام حسين، حاصل على دكتوراه في علاج الفيروسات من جامعة كامبريدج بإنجلترا وبيشتغل ده الوقت في جامعة إم آي تي بالولايات المتحدة، ودول من أهم وأعرق وأنجح جامعات العالم على الإطلاق.
د. إسلام كلف نفسه وسجل فيديو رفعه على يو تيوب يوم ٢٨ فبراير يفند فيه كلام عبد العاطي. الفيديو مدته ساعة وثلث واتكلم فيه د. إسلام بأسلوب هادئ يُحسد عليه. ومن أهم الّ قاله بخصوص جهاز الكشف على الفيروسات (المسدس أبو إريال) إن الجهاز ده المفروض إنه بيكشف ترددات كهرومغناطيسية صادرة من جزء صغير جدا جدا من المادة الوراثية الّ هي جزء صغير من جسم فيروس طوله على بعضه ٦٠ على المليون من المللي متر (أو ٦ على ميت ألف من المليمتر)، وإنه يمكن يميزها عن أي ترددات كهرومغناطيسية أخرى، وإنه ممكن يعمل كل ده بنسبة خطأ صفر٪، ومن على بعد نص كيلومتر. د. إسلام أبدى ريبته العميقة إن في أي جهاز في العالم ممكن يعمل ده.
وأنا باتفرج على الفيديو الساذج الّ اتعرض في المؤتمر الصحفي وعلى التليفزيون المصري، وبعد ما قرأت عن المسدس أبو إريال، خطرت في ذهني (وأنا مش متخصص) أسئلة عن الجهاز أظنها أسئلة مشروعة: لو كان الجهاز تمت تجربته قدام مستشفى الحميات في العباسية زي ما بيقول طلب تسجيل براءة الاختراع الّ مقدماه وزارة الدفاع للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (ص ٥ من الطلب)، وإن الإريال اتحرك ناحية المستشفى من على بعد، ولما دخلوا المستشفى الإريال تحرك ناحية الأوضة الّ فيها المصابين، ولما دخلوا الأوضة تحرك ناحية العيان المصاب، الأمر الّ وزارة الدفاع، مقدمة التقرير، اعتبرته دليل على دقة الجهاز، فالسؤال الّ بيطرح نفسه هو: إزاي الإريال تحرك بالانتظام ده حتى خارج المستشفى، مع العلم إن واحد من كل خمسة من المصريين مصاب بالمرض الّ الجهاز المفروض يكتشفه، وبالتالي من المعقول إن يكون موجود أكثر من مصاب واحد في محيط نص كيلومتر من الجهاز، وبالتالي لو الجهاز بالدقة الّ وزارة الدفاع بتدعيه يبقى كان من المتوقع إن الجهاز يكتشف وجود الأفراد المصابين دول؟ ولا القائمين على “التجربة” دي تأكدوا من خلو الشوارع المحيطة بمستشفى الحميات في العباسية من كل المصابين بفيروس سي عند إجراء التجربة؟ ولو فعلا القائمين على التجربة دي أخلوا المنطقة من المصابين بفيروس سي، ليه الكلام ده ما اتكتبش في طلب الحصول على براءة الاختراع؟
السؤال التاني المتعلق بالمسدس أبو إريال هو: لو الموجات الكهرومغناطيسية الصادرة من الفيروس الكامن في جسم العيان عنده القدرة على تحريك الإريال، يبقى احنا كده اكتشفنا مصدر مهم للطاقة. يعني لو كل مصاب بفيروس سي، خُمس سكان مصر، جوّاه طاقة كامنة ممكن تحويلها لطاقة محركة، فليه الجيش ما بيستخدمش الطاقة دي للقضاء على أزمة الطاقة في مصر؟ أنا مش قصدي التريقة. أنا فعلا بأسأل سؤال على مستوى التنظير العلمي الّ اتقال على لسان قيادات القوات المسلحة المصرية.
أما لو اتنقلنا من موضوع المسدس أبو إريال الّ ممكن يكتشف الفيروس بدون أخذ عينة دم لموضوع جهاز علاج الإيدز وفيروس سي، فالمشاكل والخزعبلات الّ عبد العاطي قالها وال كررها اكثر من “دكتور” على التليفزيون ما لهاش آخر. يكفي ترديد كلام د. إسلام: الكلام المقتضب الّ اتقال عن القضاء على فيروس الإيدز معناه القضاء علي الخلايا الكامن فيها الفيروس، وده معناه وفاة المريض. فهل عبد العاطي قصده كده: القضاء على المريض في سبيل القضاء على الفيروس؟
د. إسلام شرح برضه، وبإسهاب، دحضه لكلام عبد العاطي عن سهولة القضاء على فيروس الإيدز مقارنة بفيروس سي، وقال بمنتهى الوضوح إن كلام عبد العاطي ده مالوش أصل في الطب وإنه غير صحيح علميًا.
باختصار، الطريقة الّ اتعرض بيها خبر اكتشاف “أحدث الابتكارات العلمية لصالح البشرية” والكلام الّ اتقال على لسان قيادات عليا في القوات المسلحة، بخصوص موضوع خطير زي ده، طريقة وكلام خلوني أتخوف بشكل حقيقي من نوايا وقدرات الجيش، الّ كثير مننا مقتنع إنه دعامة قوية وأساسية لتماسك الدولة المصرية. تخوفي وشكي نابع تحديدا من اعتماد الجيش على نصاب، تبين إنه مش مسجل في نقابة الأطباء وإن ليه سوابق كثيرة في النصب على المرضى، وإعطاؤه رتبة رفيعة جدا، رتبة لواء، والسماح ليه بالكلام باسم الجيش، وبعرض اختراعات واكتشافات تبين سريعا إنها مزيفة ومضللة وغير علمية بالمرة.
إحنا هنا قدام تفسير من اتنين ما لهمش ثالث: يا إما الجيش بقياداته العليا، بمن فيهم المشير عبد الفتاح السيسي الّ عبد العاطي قال إنه هو الّ شجعه وساعده على القيام بتجاربه، وبمن فيهم المخابرات الحربية الّ عبد العاطي قال إنه ليه معاهم علاقة قديمة ووثيقة، على علم بحقيقة النصبة دي، وفي الحالة دي يبقى إحنا بنتعامل مع نصابين بدورهم ما لهمش مكان في قواتنا المسلحة. أو القيادات دي اتنصب عليها من دجال نصاب في موضوع خطير يمس صحة خُمس سكان مصر، وفي الحالة دي تبقى القيادات دي غير مؤهلة للقيادة بل تجب محاسبتها على الإهمال الخطير ده.
لكن الموضوع أخطر من كده وأعمق.
لأن بغض النظر عن التفاصيل المتعلقة بجهاز المسدس أبو إريال أو جهاز علاج الإيدز (والّ زيدت عليه أمراض السكر والصدفية وأنفلونزا الطيور والسرطان )، الموضوع يتعلق بالقيم الراسخة جوه الجيش كمؤسسة وتعارض القيم دي مش بس مع الطب الحديث لكن مع العلم بشكل عام.
في أربعة نقاط يبان فيهم التعارض بين قيم الجيش المصري والقيم والمبادئ العلمية ويوضحوا مشاكل خطيرة تتعلق بعقلية الجيش المصري في التعامل مع المجتمع المصري.
أول النقاط دي تتعلق بالسرية الّ اتغلف بيها الموضوع كله. في أكثر من مناسبة لما عبد العاطي اتسأل عن الأسس النظرية الّ جهاز علاج الإيدز بتاعه مبني عليها، رد بالقول إنه أمور سرية. وفي حديثه مع المصري اليوم بتاريخ ٢٦ فبراير قال إن ده سر زي سر بناء الأهرامات.
في مقال ليه يوم ٣ مارس، د. علاء عوض كتب يفند الفكرة دي: “أفهم أن السرية مكانها المعامل المغلقة التى تسعى لتطوير الأبحاث والتكنولوجيا، ولكن الاعلان الصحفى ــ وليس العلمى ــ يعنى بالضرورة الخروج من مراحل السرية إلى دوائر العلنية، والاتجاه إلى التطبيق العملى للاختراع وتسويقه.”
أنا أتفق مع د. علاء في انتقاده لمنطق السرية الّ الجيش عرض بيه الخبر، أيا كان رأينا على محتواه. لكني اعتقد إن المشكلة أعمق من كده بكثير. المشكلة تكمن في إن العقلية الاستخبراتية أصبحت تتحكم في كل المؤسسات في مصر، بما فيها المؤسسات العلمية والأكاديمية.
العقلية الاستخبراتية دي شايفة إن عملية الحصول على المعلومات والنشر العلمي والإنتاج الفكري بشكل عام لازم تخضع لرقابة صارمة. وعلى مدار شغلي في الجامعة وبحثي في دار الوثائق القومية وفي دار الكتب تعاملت مع العقلية دي عن قرب. “مكتب الأمن” داخل كل مؤسسة علمية في مصر مهمته إنه يرتاب في العلم، وورا الريبة دي تكمن ريبة أعمق: عملية إنتاج المعرفة عملية خطيرة، فعلى عكس العلماء—علماء الذرة زي المتخصصين في النقد الأدبي– الّ بيعتقدوا إن كل ما الإنتاج العلمي زاد، كل ما البشرية تقدمت، والدول صاحبة الإنتاج العلمي ده قويت و ازدهرت، على عكس العقلية العلمية دي يعتقد رجال الاستخبارات إن كل ما المعلومات المنشورة زادت كل ما الأمن القومي تعرض للخطر. فالمعرفة، زيها زي الموارد الطبيعية، كميتها محدودة، وبالتالي يجب الحفاظ عليها والعمل على عدم خروجها أو تداولها.
طابع السرية الّ عبد العاطي غلف بيه “اختراعه” مش نتيجة دماغ مضروبة أو هطل بتاع واحد نصاب خايف إن نصبته تتفقس؛ دي عقلية راسخة في العقل الاستخبراتي المصري.
وكثير حاولنا، إحنا الحكوكيين الكيوت، زي أنصار الجيش ما بيقولوا علينا، كثير حاولنا إننا نقنع “الجهات السيادية” و”مكاتب الأمن” إننا لما بنتمسك بالحق في الحصول على المعلومات ما بنعملش ده ترديدا لكلام حفظناه في صربيا أو سمعنا في مؤتمرات الأمم المتحدة، إنما بنعمل كده نتيجة اقتناعنا إن مصر الّ بنحبها، زي الجيش والجهات السيادية ما بيحبوها، مش هتزدهر ولا تتطور إلا لو أعطينا للمواطن حقه في الحصول على المعلومات وتداولها وإنتج المعرفة بناء عليها.
لكن الجهات السيادية بتنظر لينا دايما نظرة تعالي (إنتم ناس طيبين مش مدركين للأخطار المحدقة بالوطن ) في أحسن الأحوال، أو نظرة ريبة وتخوين (إنتم مغررين ومضحوك عليكم وعملاء وخونة)، في أوحش الحالات.
السرية الّ كانت سمة أساسية في طريقة إعلان جيش مصر اكتشافه علاج للإيدز هي سمة أساسية من سمات الجيش ده. ودي سمة بتضر بالبحث العلمي وبتحاربه.
أما النقطة التانية الّ بتوضح التعارض بين مبادئ الجيش والمبادئ العلمية فتتعلق بالتجارب الّ الجيش عملها للوصول للاكتشاف المهم ده. ومرة تانية د. علاء عوض فيمقالة يوم ٣ مارس في الشروق بيوضح النقطة دي: “تعلمنا أيضا أن تقييم أى علاج مستحدث يستهدف بالأساس قياس درجة فاعليته وأمانه، وأن ذلك يمر عبر أربع مراحل أولاها تتم على حيوانات التجارب ثم على المتطوعين الأصحاء لقياس الأمان ثم على المتطوعين المرضى وأخيرا التجارب الإكلينيكية العلاجية على المرضى، وأن الاستمرار فى أى مرحلة من هذه المراحل مرتبط بدراسة وتقييم نتائج المراحل السابقة. فهل مر هذا الجهاز السحرى عبر هذه المراحل، وهل تم اثبات هذه النتائج ونشرها فى الأوساط العلمية من خلال المؤتمرات والدوريات، وهل يجوز القفز على هذه المراحل والبدء فى التجربة الاكلينيكية مباشرة حتى من دون الحصول على موافقة من “لجان الأخلاقيات.”
بالإضافة لعدم وجود إشارات واضحة سواء في كلام عبد العاطي أو في طلب الحصول على براءة اختراع المسدس أبو إريال للتجارب المعملية، في إشارات مريبة لخضوع المجندين للتجارب دي. د. جمال شيحة، مخترع المسدس أبو إريال، كتب مقال في دورية رقمية عرض فيها التجارب دي. بغض النظر عن إن الدورية دي مش دورية محكمة وسمعتها في الأوساط العلمية مضروبة، د. جمال شيحة وزملاؤه بيعترفوا في المقال ده (ص. ٧٣٧ من المقال) إن ٧٩ شخص، كلهم ذكور “جُندوا من المعسكر الحربي التابع للقوات المسلحة في العباسية للخضوع للتجربة دي” (الأصل الإنجليزي بيقول were recruited). ده انتهاك صارخ للمبادئ والقيم العلمية الّ بتحتم الحصول على موافقة الشخص قبل إجراء التجارب العلمية عليه. وحتى لو فرضنا إن الجيش حصل بالفعل على موافقة الشباب دول، فهل يُعقل إنهم أعطوا موافقاتهم المكتوبة بشكل طوعي؟ أي واحد فينا دخل الجيش عارف إن المجند “نمرة” ما لوش أي حقوق، وأن في “نسبة فاقد” الظباط مسموح ليهم يشتغلوا فيها.
ومرة تانية بنقول إن دي مش هفوة ولا غلطة صغيرة. ده تعبير عن عقيدة راسخة وقديمة في الجيش المصري. أنا درست تاريخ الجيش المصري أيام محمد علي، وعندي وثائق عديدة لتجارب قام بيها الدكاترة على أجساد الشباب المجندين، منها تجارب للتأكد إذا كان الطاعون بينتشر باللمس ولا عن طريق الهواء. طبعا الجيش المصري الحديث ما لوش ارتباط مباشر بجيش محمد علي. إنما العقلية الدولتية واحدة: الدولة المصرية، الّ عمادها الجيش، تمتلك أجساد المصريين، وممكن تعمل فيها ما بدا لها.
النقطة الثالثة برضه أشار ليها د. علاء عوض في مقال ٣ مارس بالشروق، وتتعلق بالسياق العلمي المحلي الّ الاكتشاف ده، بفرض صحته، تم بيه. د. علاء بيقول: ”كانت المفاجأة الكبرى أن يعلم أساتذة الكبد وباحثيه فى مصر هذا الخبر من خلال أجهزة التليفزيون والصحف ومن خلال مؤتمر صحفى غاب عنه الأطباء بالرغم من أنه يعرض اختراعا علاجيا.” يعني الجيش جاه يعلن عن اكتشاف يهم مئات الدكاترة والعلماء والمتخصصين دون ما يحاول يتواصل مع العلماء دول أو يعترف بدورهم وإنجازاتهم وجهودهم المضنية في الموضوع ده على مدار سنوات وعقود.
مصر عندها جيش صحيح، ولكن عندها مؤسسات تانية محترمة. عندها مستشفيات وجامعات ومعامل بيشتغل فيها ناس مخلصين وهبوا عمرهم للتصدي لفيروس سي. الجيش مش بس ما دعاش الناس دي للمؤتمر الصحفي؛ الجيش قرر يروح لواحد نصاب بتاع أعشاب علشان يقدم بيه للمصريين الغلابة المصابين بالمرض ده علاج وهمي. وأظن إن الدكاترة الّ شغالين بجد في مكافحة فيروس سي هيعانوا سنين من تبعات النصبة الكبرى دي.
ومرة ثالثة، الموضوع مش هفوة ولا غلطة صغيرة. الطريقة الّ الجيش تناول بيها الموضوع الخطير ده بمعزل عن علماء مصر وأطبائها الحقيقيين تعبير عن عقيدة راسخة عند الجيش: احنا بس الّ بنشتغل بجد في البلد دي. احنا عندنا رجولة وانظباط وجدية. أما القطاع المدني فمترهل وبليد ومتخبط. فلو احنا حطينا في دماغنا فكرة التصدي لمرض خطير زي الإيدز وفيروس سي، يبقى هننجح في المهمة دي من غير ما نرجع لأي جهة تانية.
المشكلة في العقلية دي مش بس إنها أنتجت كفتجي زي عبد العاطي. المشكلة إنها بمثابة إعادة إنتاج العزبة. يا سيادة اللواءات والظباط، البلد مليانة كفاءات ومليانة ناس مخلصين، والوطنية والإخلاص والتفاني والجدية مش حِكر على الجيش. صحيح البلد بتاعتكو وأنتم أسيادها، لكن ممكن برضه نساعدكم في الّ انتم عاوزين تعملوه. مش لازم يعني تروحوا لكفتجي علشان تقهروا بيه الإيدز.
النقطة الرابعة تتعلق يالتأكيد على عدم تصدير جهاز علاج الإيدز. في مقال منشور في بوابة الأهرام بتاريخ ٢٣ فبراير قال “مصدر عسكري” :إن فريق العمل بالقوات المسلحة يعمل على تجهيز الجهاز الخاص بالعلاج منذ فترة طويلة بلغت 22 عامًا ورفضت خروجه من مصر وتصديره لأي دول أخرى.”
يعني القوات المسلحة المصرية اخترعت جهاز هي نفسها بتقول إنه هيفيد البشرية، ولكنها في نفس الوقت مش مستعدة تشارك البشرية فيه. بصراحة دي أكثر حاجة وجعتني في الموضوع ده كله. الجيش كأنه بيقول: الجهاز ده مصري ١٠٠٪، احنا الّ اكتشفناه بعقول وسواعد وجهود أبناءنا من القوات المسلحة. ممكن طبعا المصريين المدنيين يستفيدوا منه، فإحنا في النهاية بنعمل ده لمصر. إنما بقية البشرية ما لناش دعوة بيها ومش هنشركها في الاكتشاف ده. وبخصوص مرضى فيروس سي والإيدز والسرطان والسكر والصدفية الّ مش مصريين فسوري قوي. دول ما لهمش م الحظ جانب ولا لينا مسئولية تجاههم.
ومرة رابعة المشكة هنا تعبير عن عقيدة راسخة في العقلية العسكرية المصرية. الوطنية تجُب كل شيئ. الجيش ده جيش وطني مصري بيخدم مصر وبس. أما القيم والأعراف العلمية والمبادئ الإنسانية السامية، فدي تيجي بعد الوطنية، إن جت من الأساس.
ردي على العقلية دي استقيه من واحدة ست، مش مصرية، ولا عسكرية، أعدمت سنة ١٩١٥. الست دي اسمها إيديث جافيل.
إيديث كانت ممرضة في إنجلترا، وأبوها كان راعي في الكنيسة الأنجليكانية. إيديث قررت تشتغل ممرضة لما كانت مهنة التمريض لسه مهنة مش محترمة. نجحت في مهنتها واشتغلت في مستشفيات وعيادات كثيرة، وكمان أشرفت على عيادات وممرضات تانيين. في سنة ١٩٠٧ انتقلت للعيش في بلجيكا واشتغلت هناك ممرضة وأشرفت على ثلاث مدارس تمريض.
المهم في القصة إن لما الحرب العالمية الأولى اندلعت في أغسطس ١٩١٤ إيديث كانت في زيارة لوالدتها في إنجلترا، لكنها رجعت لبلجيكا وكملت شغلها كممرضة هناك. وشوية وألمانيا، عدوة إنجلترا في الحرب، غزت بلجيكا، وبالتالي لقيت إيديث نفسها بتخدم في أرض العدو. ولكنها كممرضة ما كانتش شايفة فرق بين أجساد الألمان وأجساد الإنجليز أو حلفائهم الفرنسيين، وكانت بتعالج كل الحالات الّ بتجيلها في المستشفي بغض النظر عن جنسية أصحابها.
إيديث اتقبض عليها سنة ١٩١٥ بعد السلطات الألمانية ما شكت في إنها بتهرب جنود إنجليز وفرنسيين وحتى ألمان لهولندا المحايدة. السلطات وجهت ليها تهمة الخيانة وأعدموها يوم ١٢ أكتوبر ١٩١٥.
ليلة إعدامها، إيديث قالت إنها مش ندمانة على أي حاجة عملتها. آخر كلماتها كانت “الوطنية مش كل حاجة”.
هذا المقال ضمن سلسة مقالات يكتبها خالد فهمي لمدى مصر تحت عنوان: “خواطر بالعاميه”.
[…] وجود، ولا بالمخترع ال ما اخترعش حاجة، فبعد ال شفناه من جهاز الكفتة، وبعد تأكيد مدير المتحف الحربي على إن أهم معارك الجيش […]
[…] وجود، ولا بالمخترع ال ما اخترعش حاجة، فبعد ال شفناه من جهاز الكفتة، وبعد تأكيد مدير المتحف الحربي على إن أهم معارك الجيش […]