Press "Enter" to skip to content

خواطر بالعامية: الملك بستان والعدل سياجه

مقال نُشر في “مدى مصر” بتاريخ ١٢ سبتمبر ٢٠١٤

“إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”.

“ساد كل من أقام العدل وشاد بنيانه، وساد كل من سار في طريق العدل ونفذ أحكامه. لا يخفى أن من خلال الكمال التي تتنافس فيها كل دولة وتفتخر بها كل أمة إيجاد القوانين التي بها تحفظ الأموال، وتحقن الدماء، وتصان الأعراض، ولا تكون تمشيتها إلا برجال عفوفي النفس طاهري الذيول لا يميلون مع الأهواء والأغراض. والسعيد من اقتدى في الكمال بغيره، واقتفى أثره في استقامة سيره”.

“سادتي: قواعد العمران المشاهدة عند غيرنا موضوعة على أساس العدل والحرية. وهما أصلان ثابتان في شريعتنا، وهما ملاك القوة والتمدن وبهما انتظام الملك ودوامه”.

سادتي: لا تحسبن الظلم منحصراً في أخذ المال من يد مالكه بغير حق، بل يعم من يستخلصه من يد الظالم ويرده للمستحق. فالتعاون على إقامة الحق من أعظم الواجبات، وإنصاف المظلوم من ألزم الحقوق. وقد اجتمعنا للشروع بما نيط بنا من هذا العمل الجسيم. فعلينا أن نتعاضد على إنجازه على الوجه المستقيم”.

الكلمات دي ألقاها إسماعيل باشا يسري في أول جلسة للجمعية العمومية لمحكمة استئناف مصر الأهلية يوم 30 يناير 1884 الساعة عشرة وربع أفرنكي صباحا.

افتكرت الكلمات دي النهارده وأنا باستعد لكتابة مقدمة كتاب عن تاريخ القضاء المصري الحديث بأحرره أنا وصديقي د. عمرو الشلقاني. الكتاب مبني على 12 بحث علمي رصين قُدمت ضمن مؤتمر نظمناه في الجامعة الأمريكية من خمس سنين، وبسبب الثورة المتنيلة بستين نيلة ومستمرة من أربع سنين ماكانش فيه وقت للالتفات للكتاب إلا ده الوقت.

الأبحاث فعلا رائعة، وبتتناول تاريخ القانون والقضاء المصري من وقت المماليك لأوائل القرن العشرين. ومن ضمن المواضيع اللي بتتناولها الأبحاث اللي كتبها، بالمناسبة، كوكبة من أحسن وألمع المؤرخين العاملين على تاريخ مصر، مواضيع زي دور محاكم القسمة (اللي كانت بتقسم التركات) في الحفاظ على أموال الأيتام والأرامل في العصر العثماني؛ ودور الديوان العالي في البت في القضايا الجنائية في أواخر القرن الـ18؛ والإرهاصات التاريخية للمحاكم المختلطة؛ والتطورات اللي حصلت للأسرة المصرية زي ما بتوضحها سجلات المحاكم الشرعية في أوائل القرن العشرين؛ وعلاقة الشريعة بالـ”سياسة” (وده الإسم القديم للي بنقول عليه ده الوقت “القانون الوضعي”) في النص التاني من القرن الـ 19؛ والتحولات المنهجية والفكرية اللي حصلت في العقلية القانونية المصرية في أوائل القرن العشرين.

أنا معنديش شك في إن الكتاب ـ بفضل المستوى العالي لأبحاث الزملاء المشاركين بأبحاثهم فيه ـ حيقدم إضافة حقيقية سواء من الناحية المنهجية والنظرية أو من الناحية الموضوعية (كيفية دراسة القانون و/أو الشريعة؛ علاقة القانون بالمجتمع؛ فهم الناس للقانون وللقضاء؛ تطور مفهوم العدالة، إلخ).

لكن أنا برضه معنديش شك في إن الكتاب حيكون له أهمية سياسية عميقة. فأكتر من نُص الأبحاث المقدمة بتتناول موضوع علاقة الشريعة بالـ”سياسة”/القانون الوضعي. ودي طبعاً نقطة في غاية الأهمية والمحورية في الخطاب الإسلاموي المعاصر. فخلف الكلام عن إعادة إحياء الخلافة وضرورة تطبيق الشريعة يكمن تخيل مثالي عن “الشريعة” اللي الإسلامويين بيتصوروها شاملة، كاملة، سامية (دي كلمات عبد القادر عودة نفسه)، وبيتخيلوا إن المجتمعات الإسلامية، قبل العصر الحديث، ما كانش عندها مشاكل لإنها كانت بتطبق الشريعة، فالجرائم الخطيرة بتواجهها عقوبات رادعة، والمحاكم الشرعية بتقدم حلول سريعة وناجزة وعادلة لكل مشاكل المجتمع، ونظام الحسبة بيحفظ الأمن ووبيحمي الاقتصاد ويصون الأخلاق كله في وقت واحد.

أبحاث الكتاب بتشتبك مع المقولات والتصورات الطوباوية دي، وبتقدم صور دقيقة عن مجريات العمل داخل المحكمة الشرعية، مش بناء على اللي كان المفروض يحصل زي ما كتب الفقه بتقوله، ولكن بناء على اللي حصل بالفعل زي ما سجلات المحاكم الشرعية بتوضحه. والنتيجة تقديم صورة أكثر واقعية للشريعة الممارَسة اجتماعيا مش الفقه كمنتَج نخبوي، وبالتالي الكتاب بيقدم، زي العديد من الكتب الصادرة حديثا واللي بتتناول التاريخ الاجتماعي للشريعة ـ وإن كانت ما بتدرسش مصر كنموذج ـ بيقدم صورة معقدة وموثقة عن كيفية تطبيق الشريعة تاريخيا.

السبب التاني اللي مخلليني أعتقد إن الكتاب له أهمية سياسية هو إن فصول كتيرة بتتناول اللحظة المحورية اللي جرى فيها إحلال “السياسة” (أي القانون الوضعي) محل الشريعة، وحصل فيها تقليص لدور الشريعة وحصرها في قضايا الأحوال الشخصية. ودي برضه من أهم وأخطر معتقدات الإسلامويين وسبب نقمتهم على “القانون الوضعي”. فواحد زي طارق البشري مثلا، وهو من أهم المنظرين الإسلامويين لتاريخ القضاء المصري الحديث، بيكيل الاتهامات الخطيرة للقضاء ده. فالقضاء المصري الحديث قضاء وافد حل محل الموروث، وسبب وجوده، في نظره، يعود لجهود نخبة مفتونة بالغرب، متنصلة من أصولها الحضارية، ومستعدة للتنازل عن هويتها. النخبة دي، حسب رأي الإسلامويين، نجحت في التخلص من واحد من أهم إنجارات الحضارة الإسلامية، ألا وهو الفقه، وسعت لاقتباس نظام قضائي وقانوني غربي لا يمت بصلة لهويتنا وحضارتنا، ومالوش علاقة بقيمنا وبمثلنا.

الكتاب بيفند المزاعم دي بدقة وبعمق. فالفصول المتعلقة بالقرن الـ١٩، وهو القرن اللي مفروض حصل فيه إحلال الوافد مكان الموروث (باستخدام مصطلحات البشري) ـ الفصول دي مبنية على شغل دقيق في سجلات المؤسسات القضائية المختلفة من محاكم لمجالس لنظارات لوزارات، المحفوظة كلها في دار الوثائق القومية. وبرضه كان نتيجة الشغل الدقيق ده ظهور صورة معقدة عن لحظة التحول الجوهري دي في تاريخ القضاء المصري الحديث. الصورة دي بتوضح إن سؤال الهوية اللي الإسلامويين بيركزوا عليه مالوش أثر في السجلات والمخاطبات والمداولات. الفصول برضه بتوضح إن التطور اللي حصل للنظام القضائي والقانوني المصري في القرن الـ١٩ ماكانش نابع من افتنان النخبة السياسية والقانونية بالغرب ومن اقتباس النخبة دي لأنظمة الغرب القانونية قد ما كان مبني على قرون طويلة من الممارسة القانونية العثمانية اللي، بدورها، كانت مبنية على تراث قديم وأصيل في المجتمعات الإسلامية من وقت الخلفاء الراشدين لحد القرن الـ١٩. التراث ده كان قوامه ضرورة استكمال الشريعة بالـ”السياسة” (وده بالمناسبة المبدأ اللي ابن تيمية وتلميذه وابن قيم الجوزية سموه “السياسة الشرعية”). يعني باختصار الموضوع أعقد بكتير من تخيلات الإسلامويين السطحية والطوباوية عن تاريخ الشريعة والقانون.

أما السبب التالت اللي بيخلليني أعتقد إن الكتاب له أهمية سياسية هو إنه بيلقي الضوء على تاريخ مؤسسة القضاء المصري الحديث. الكتاب بيقدم معلومات وحقائق أعتقد أن عدد صغير جدا حتى من قضاة مصر ومحاميها يعرفوه عن تاريخ مؤسستهم. فطالب الحقوق في مصر، من يوم تأسيس مدرسة الحقوق الخديوية في أواخر القرن الـ١٩ لحد ده الوقت، ما بيدرسش حاجة عن تاريخ مهنته. صحيح بيدرس مواد عن تاريخ القانون، ولكن المواد دي بتدرّس تاريخ الشريعة وتاريخ القانون الروماني وتاريخ كود نابليون، مش تاريخ القضاء أو القانون المصري. طالب الحقوق في مصر ما يعرفش أصلا إن مهنته لها تاريخ، ما بالنا بدرايته إن التاريخ ده طويل ومشرّف. (وبالمناسبة، الكلام ده ينطبق على المهن الأخرى برضه، فطالب الطب أو طالب الهندسة في مصر ما بيدرسش أي حاجة عن تاريخ مهنته).

أنا أعتقد إن القاضي أو المحامي المصري، زي المهندس أو الطبيب المصري، لو عرف إن مهنته لها تاريخ، ولو عرف إن أسلافه (مش قصدي السلف الصالح) كانوا أصحاب مواقف مبدئية مشرفة، وكان لهم صولات وجولات للإعلاء من قيمة مهنتهم ووظيفتهم، وكان لهم آراء وأفكار في السياسة والأخلاق والفن والأدب في غاية الاعتبار ـ لو عرف القاضي المصري (أو الطبيب أو المهندس المصري) كل ده، أعتقد إنه كان هيحذو حذو أسلافه في الاعتداد بالنفس والدفاع عن المهنة، وكان حيقدّر قيمة المجهود المضني والتضحيات الثمينة والإنجازات المبهرة اللي أسلافه بذلوها.

طبعا أنا فاهم إن التردي اللي بتشهده منظومة العدالة في مصر مش نابع بس من غياب الرؤية التاريخية عن أكتر القضاة علما وثقافة واطلاعا، وعارف إن التردي والتدهور اللي بتعاني منه منظومة العدالة في مصر له أسباب عديدة وله أصول قديمة، كتب عنها باقتدار عمرو الشلقاني في كتابه المهم “تاريخ ازدهار وانهيار النخبة القانونية المصرية” (الشروق، ٢٠١٢).

لكن مش قادر أمنع نفسي من إني أتحسر على مقدار الانهيار والتدهور اللي منظومة العدالة في مصر بتعاني منه مقارنة مش بانجلترا أو فرنسا أو الولايات المتحدة، وإنما مقارنة بمصر نفسها. الانهيار والتردي اللي الدولة المصرية حققته وبتحققه بقى لها أكتر من ستين سنة شيء مروع ومبكي. ومحير برضه. فاللي بيعمله القضاة ورجال النيابة ورجال الشرطة في المنظومة القانونية اليومين دول شيء فعلا ما يصدقهوش عقل. جلسات محكمة ما بتستغرقش أكتر من نص ساعة تصدر فيها أحكام إعدام بالمئات من غير ما الشهود حتى يدلوا بشهاداتهم؛ تبرير الأحكام دي بالقول إنها قابلة للنقض مع العلم بأن النقض حيستغرق سنوات طويلة حيقضيها المظاليم في السجن؛ جلسات محاكمة بتعقد في معاهد شرطة ومعسكرات أمن مركزي دون أن يسترعي الموضوع ده انتباه أي قاضي غيور على مبدأ استقلال القضاء؛ التوسع في محاكمة المدنيين قدام محاكم عسكرية وتداول فكرة محاكم شرطية في تراجع واضح وخطير لمبدأ توحيد القضاء اللي كافح لتحقيقه رجال القضاء على مدار قرن ونص من الزمن (ضد القضاء القنصلي، ثم المختلط، ثم المجالس الحسبية، ثم المحاكم الشرعية)؛ تعيين أعداد متزايدة من قضاة بخلفيات شرطية على منصة القضاء (برضه عكس المنحى التاريخي اللي أكد فيه رجال القضاء على مهنيتهم وجاهدوا للدفاع عن حرفيتهم وتخصصهم)؛ انهيار مؤسسة الطب الشرعي (اللي أنا قضيت سنين طويلة في دراستها واللي أقدر أشهد بأسبقيتها وكفاءتها ومهنيتها ـ لكن من ماية وخمسين سنة)؛ تواطؤ النيابة السافر مع السلطة التنفيذية وإهمالها لأبسط واجباتها واستهتارها بقواعد العدالة (جلسة قضية علاء عبدالفتاح إمبارح مثال جيد على ده وقت ما النيابة قررت تعرض مقاطع من أفلام فيديو فيها مشاهد عائلية شخصية مسروقة من كومبيوتر زوجة علاء اللي الشرطة حصلت عليه دون إذن من النيابة، واللي النيابة عرضتها مع علمها إن مفيش فيها شيء له علاقة بالقضية محل النظر)؛ الاستخفاف بالدستور وبنصوص القوانين وخاصة في عدم تنفيذ مبدأ تعويض المواطنين عن الأخطاء اللي بترتكبها المنظومة القانونية في حقهم.

السبب التاني اللي مخليني أسترجع الكلام ده عن التاريخ والماضي مش التحسر على اللبن المسكوب، ولكن التعجب من سياسة الدولة في مواجهة جماعات الإسلام السياسي. فبعد أكثر من تمانين سنة من المواجهات الدموية مع الجماعات دي لسه الدولة مش عاوزة تفهم إن التصدي للجماعات دي حيفشل طالما فضل محصور في البعد الأمني. فبعد سنين طويلة من تجييش الجيوش، وإعلان الحرب على الإرهاب، وفرض الطوارئ، والبطش والتعذيب، وسحب كل أنواع الحماية القانونية من اللي الدولة بتعتبرهم إرهابيين (ومن قرايبهم ونسايبهم وجيرانهم وأصحابهم وكل اللي يتشدد لهم)، بعد كل ده ظاهرة التطرف الديني بتزيد مش بتقل، وإحساس قطاعات كبيرة من شبابنا بالغربة في أوطانهم بتتعمق مش بتخف، ونوعية العنف والإرهاب اللي الشباب دول مستعدين يستخدموها بتزداد دموية وبربرية مش العكس.

بعد سنين قضيتها في التفكير في مشكلة التطرف الديني سواء في مصر أو في أمريكا ماعنديش أدنى شك إن الحلول الأمنية ما تنفعش لا في حل المشكلة دي ولا حتي في التصدي ليها. المشكلة فكرية بالأساس ويجب مواجهتها بالفكر والانفتاح مش بالبطش والسلاح. دي مشكلة مجتمعية ومعرفية عميقة ومركبة، والجدير بالتصدي ليها مش لواءات شرطة ولا ظباط جيش ولا موظفين في “جهات سيادية”. دي مشكلة لازم يتصدى ليها أولا وقبل أي حد تاني مثقفينا ومفكرينا وفنانينا، وده ييجي بالانفتاح والتأليف ونشر الفكر والمناقشة المفتوحة والاشتباك مع أعقد الأفكار “التكفيرية” و”الإرهابية”.

ممكن واحد يرد علي ويقول: “يعني يا عم خالد هو نشر مقالة عن دور محكمة القسمة العربية في حفظ مال الأيتام والأرامل هو اللي حيخلصنا من الإخوان ويقضي على داعش؟” ردي ببساطة: “أيوه. البيئة الفكرية المنفتحة اللي بتسمح بتداول كل الأفكار هي اللي حتخلينا نقدر نواجه الفكر المتطرف. البيئة الفكرية المنفتحة هي اللي ممكن تخلينا، كمجتمع، قادرين إننا ننتج فكر ومعرفة نواجه بيها الأفكار البراقة بتاعت الإسلامويين ونبين خطأها وسطحيتها. لكن الدولة مصممة مش بس على استخدام العنف كحل أساسي ووحيد لمواجهة التيار الفكري ده، ولكنها كمان قاعدة تقفّل في المجال العام وتصادر الحقوق وتمنع الناس من التعبير عن آرائها ـ ودي بالظبط البيئة اللي بيزدهر فيها التطرف وبتنتشر فيها الأفكار السطحية والتكفيرية بتاعت الإسلامويين”.

“يا عم، انت يا عبيط يا بتستعبط. الكلام ده مثالي، في أحسن الأحوال، وخطير في أسوأها. إحنا بنواجه ناس ناوية على إسقاط الدولة وعاوزة تخلينا زي سوريا والعراق”.
وأنا بأرد وأقول “وهي السياسة الدموية اللي ثورة ٣٠ يونيو المجيدة بتتبعها مش برضه نتيجتها إسقاط الدولة؟ لما الدولة تقرر تضحي مش بس بحقوق الإنسان، وبحرية الرأي، وبحق التظاهر، ولكن برضه بمنظومة العدالة برمتها، يبقى في إيه دليل أكبر من كده على إن السياسة دي هي اللي بتسقط الدولة؟”.

أخيرا استشهد بجملة بليغة من خطبة إسماعيل باشا يسري، رئيس محكمة استئناف مصر، سنة ١٨٨٤:
“سادتي: المُلك بستان والعدل سياجه، وما لا يصان لا يدوم حفظه”.

One Comment

  1. يوسف هشام
    يوسف هشام 05/05/2023

    هل الكتاب الي حضرتك أشرت له وكنت بتعمل على تحريره بالتعاون مع بعض الزملاء توافر باللغة العربية؟ ولو لأ فممكن تشيّر لإسمه باللغة الإنجليزية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.