مقال لبلال فضل منشور في العربي الجديد يوم ٧ أكتوبر ٢٠١٨
قبل أن ينجح الفساد والقمع وانعدام الكفاءة في تفريغ الوطنية والتضحية من معناهما المرتبط بحياة المصريين وأحلامهم في واقع متماسك ومستقبل واعد، كان هناك على سبيل المثال لا الحصر مقاتل الصاعقة غريب عبد التواب أحمد من أبناء أشمون، الذي شارك مع أبناء وحدته في تدمير مدفعية العدو على ممر الجدي في اتجاه جبل المر، وساهموا في قطع خطوط مواصلاته لمدة ستة أيام، ثم اشتبكوا مع احتياطي العدو الذي حاول أن يشن هجوماً مضاداً على قوات رأس الكوبري للجيش الثالث، وحين نفدت ذخيرة غريب وهو يواجه دبابات العدو، تسلل إلى دبابة متقدمة وفتح برجها وألقى بقنابله داخلها، وحين أصابته دفعة رشاش في ظهره، أسرع إليه زميله المقاتل شنودة راغب شنودة من أبناء جرجا، وفتح النار من رشاشه على أفراد العدو من المشاة الميكانيكية، محاولاً الابتعاد بأخيه غريب عن مرمى النيران، لتتسبب الدبابة التي أحرقها غريب في تعطيل حركة الدبابات التي كانت خلفها، ليتعامل معها زملاء غريب وشنودة اللذين استشهدا معاً، في مشهد مهيب كان يمكن أن تضيع أسماء وملامح أبطاله في زحام الحياة، لولا أن تتبعهما الصحافي حمدي لطفي المراسل العسكري لمجلة (المصور) الذي نشر صورتَي البطلين، وتحدث عن دور وحدتهما البطولي في تحرير منطقة الشط ـ شرق.
(البطل غريب عبدالتواب)
(البطل شنودة راغب)
كان هناك أيضاً بطل الصاعقة حازق صقال الذي انضم إلى المقاومة الشعبية عام 1967 وهو طالب بالمرحلة الثانوية، وحين دخل الكلية الحربية، ظل لمدة ثلاث سنوات يفضل التدريب على قضاء الأجازات الرسمية، وبرغم إصابته بأكثر من شظية خلال معارك حرب الاستنزاف، إلا أنه ظل مصمماً على استئناف العودة إلى الجبهة، لينال الشهادة في جنوب سيناء بعد أن أحرق دبابتين، ودمر عربتين مدرعتين، في عملية بطولية روى تفاصيلها اللواء فؤاد عزيز غالي الذي حكى لحمدي لطفي عن بطولات كثير من مقاتلي الصاعقة الذين لم ينجح المراسل العسكري في الوصول إلى صورهم وأسرهم، لكنه حكى عن بطولاتهم التي بدأت منذ أن تسللوا خلف حصون خط بارليف قبل العبور، وانتشروا بين الدفاعات الإسرائيلية في انتظار ساعة الصفر، وفاجأوا العدو بكمائن متعددة على المحاور الرئيسية في سيناء، مما أتاح للقوات البرية التي عبرت أن تحارب مراحلها الأولى بشكل أفضل، حيث وصلت قوات العدو إلى القناة بعد اشتباكات كثيرة مع كمائن الصاعقة، نجحت في استنزاف عدة لواءات مدرعة في معارك بعيدة عن خط القناة، حيث تم على سبيل المثال لا الحصر تدمير أتوبيس كان يضم أكثر من ستين مقاتل ما بين طيارين وقادة دبابات خلال تحركهم نحو قاعدتهم، وأسر 17 فرداً إسرائيلياً بعد معارك ضارية على مدخل مدينة القنطرة شرق، وتدمير عدة دبابات ومدرعات في مواقع متفرقة بشكل أربك حسابات العدو.
(البطل حازق الصقال)
كان هناك أيضا الجندي نشأت نجيب الشرقاوي مقاتل سلاح الإشارة الذي ضحى بحياته في معركة القطاع الأوسط بسيناء يوم 15 أكتوبر 1973، في واحدة من أعنف المعارك ضد قوات العدو المدرعة والميكانيكية ومظلاته الجوية، وكان يرافق أحد قادة وحدات المشاة في معركة اقتحام لأحد المواقع الحصينة، حاملاً جهازه ومبلغاً أوامر قائده إلى بقية المقاتلين، وحين اشتد قصف الطائرات الإسرائيلية، طلب منه قائده أن يتركه ويعود إلى المؤخرة، رفض أن يترك قائده وبقي في موقعه، حتى استشهد إلى جوار قائده، ولم يكن يعرف حمدي لطفي ديانة نشأت، إلا حين التقى بوالدته السيدة بهية جرجس يوسف التي كانت قد فُجِعت قبل أشهر فقط بوفاة زوجها، الذي كان حريصاً برغم إمكانياته البسيطة على تعليم نشأت الذي كان شغوفاً بدراسة الإلكترونيات واللاسلكي، وهي هواية بدأها منذ طفولته بإصلاح أجهزة الراديو المعطلة في منزله.
(البطل نشأت نجيب الشرقاوي)
كان نشأت الولد الخامس في ترتيب الأبناء التسعة، ستة بنات وثلاثة ذكور أكبرهم جرجس الذي سبق أن قاتل في حرب اليمن، وحين استدعي نشأت للتجنيد بعد فترة قصيرة من التحاقه بوظيفة صغيرة بوزارة الزراعة، أهلته دراسته للالتحاق بسلاح الإشارة عام 1969، وشارك في عدة عمليات في سيناء خلال حرب الاستنزاف، وانبهر قادته بحرصه على تطوير معرفته بكل ما يتعلق بمعدات الإشارة التي كان يترجم بعض ما نشر فيها من كتب عن الإنكليزية التي كان يجيدها، وحين انتهت فترة تجنيده في أول يناير 1973، وعاد إلى عمله في وزارة الزراعة، ثم حدثت وفاة والده التي لم يتم استدعاؤه للخدمة بسببها، لكنه حين علم باستدعاء بعض زملاء دفعته، ذهب إلى وحدته ليطلب استدعاءه، وكان في قمة سعادته حين وصله خطاب الاستدعاء، ليموت من أجل بلاده، التي تحول بعض أهلها بعد سنوات، إلى أعداء يقاتلون بعضهم من أجل تحرير قرية من دار عبادة لن يؤذي وجودها أحداً، أو استعادة فتاة هاربة إلى حبيبها، أو أجبار من غير دينه على البقاء فيه بالإكراه، بعد أن أفقدتهم الأنظمة المُتاجرة بالشعارات الدينية، معنى المواطنة الذي سبق لهم أن عاشوا في ظله، وماتوا من أجله دون أن تفرقهم خانة الديانة.
(نشأت بعد تخرجه مع أبيه نجيب وأمه بهية جرجس)
بالتأكيد، لم يكن جنود مثل غريب ونشأت وشنودة وآلاف غيرهم، سيقاتلون بكل هذه البسالة، لو لم يكن أمامهم وإلى جوارهم قادة مخلصين ليسوا مشغولين بالصفقات والعمولات والحفاظ على مكاسبهم الشخصية، قادة أصحاب رؤية وكفاءة مثل اللواء شفيق متري سيدراك قائد لواء مشاة والذي استشهد يوم 9 أكتوبر في القطاع الأوسط من سيناء، وكان واحداً من أبرز الحاصلين على درجات علمية في التكتيك العسكري وكان مدرساً لمادة التكتيك بالكلية الحربية وكبيراً للمعلمين بها، وكانت له بطولات مشرفة في حرب الاستنزاف. والعميد البطل مقاتل المشاة عادل يسري الذي فقد ساقه اليسرى وهو يقود معركة هجوم مضاد على مسافة 19 كيلومتر في عمق القتال، فحمل ساقه المقطوعة بعد أن قام بربط جرحه لمنع النزيف وواصل قيادة قواته لمدة 4 ساعات حتى أكملت مهمتها، لينقل بعد ذلك إلى المستشفى، وتجرى له تسعة عمليات جراحية أنقذت حياته لكنها لم تعد إليه ساقه.
قادة مثل البطل العميد إبراهيم الرفاعي ابن قرية الخلالة مركز بلقاس دقهلية، الذي التحق بقوات الصاعقة منذ تكوينها بعد تخرجه من الكلية الحربية عام 54، وبدأت بطولاته في حرب 56 التي شارك فيها مع أشقائه الأصغر منه سامح وسامي وسمير الذي شارك مع زملائه من طلبة التجارة بعين شمس في كتيبة 412 جامعة، وحصل على ميدالية وطنية، أما إبراهيم فقد حصل تباعاً على نوط الاستقلال ونوط النصر ونوط الشجاعة العسكري من الطبقة الأولى بعد أن قاد عدة عمليات مشرفة للمقاومة كبدت الإنجليز خسائر فادحة، وحين شارك إبراهيم في حرب اليمن مع شقيقيه سامح وسامي استشهد شقيقه سامح في مايو 63. وحين تم تكليف إبراهيم الرفاعي بعد هزيمة 67 بتدريب قوات الصاعقة، قام بعدها بتشكيل وحدة عمليات خاصة قامت بالبدء في شن غارات انتحارية على المواقع الإسرائيلية منذ نهاية الأسبوع الثاني من يونيو 1967، ليشكل صورة مدهشة للقائد الذي يجمع بين الكفاءة العسكرية والشجاعة والتخطيط وخفة الظل والتدين وعشق الفن وقراءة التاريخ والآداب ومعاملة جنوده وضباطه كأنهم إخوة له.
وحين نجح إبراهيم الرفاعي مع وحدته خلال حرب الاستنزاف في تدمير قطار محمل بالأسلحة والذخائر، ثم تدمير مخازن لتشوين الذخيرة الإسرائيلية، حصل على النجمة العسكرية الأولى في 5 أكتوبر 68، وحين توالت عمليات وحدته النوعية حصل على النجمة الثانية في 23 أكتوبر 69، ثم حصل على الثالثة في ديسمبر من نفس العام، بعد أن بدأ في تدريب الفدائيين الفلسطينيين على تكنيكات الصاعقة وقاد بعض عملياتهم، ثم يحصل في إبريل 1971 على نوط الواجب العسكري من الدرجة الأولى مرة ثانية، ثم يحصل سراً في أغسطس من نفس السنة على ترقية استثنائية تكريماً لنشاطه العسكري خلف خطوط العدو، وبسبب ابتكاراته في تطوير استخدام السلاح الخفيف يحصل على وسام نجمة الشرف العسكري الذي ظل أرفع وسام عسكري حتى نهاية عام 1973، وكان يهدى لأبرز الأبطال الشهداء فقط، وحين بدأت معركة العبور، قام الرفاعي ورجاله بتدمير خزانات البترول في بلاعيم، لتصيبه شظية وهو يواجه دبابات العدو على أرض سيناء، التي لم يكن يعلم أن أهلها سيدفعون الثمن غالياً يوماً ما، حين يتولى قيادة الحرب على الإرهاب قادة مشغولون بمصالحهم ومكاسبهم، ليس لديهم كفاءته العسكرية ولا تكوينه الثقافي ولا انشغاله بقتال أعدائه لا قمع مواطنيه.
(إبراهيم الرفاعي في طفولته)
(البطل إبراهيم الرفاعي)
(إبراهيم الرفاعي مع زوجته ناديا التهامي)
(والدة البطل إبراهيم الرفاعي مع ذكرى ولديها)
قبل كل شيء وبعد كل شيء، ستبقى الحقيقة التي يهرب الكثيرون من مواجهتها، أن النصر العظيم بعد كل هذه التضحيات التي بذلها غريب وشنودة ونشأت وإبراهيم وآلاف غيرهم، أفضى بسبب الاستبداد والفساد وغياب الرؤية وانعدام الرقابة الشعبية على من يحكم ويحمل السلاح ويشتريه ويتاجر فيه، إلى واقع مرير مليئ بالهزائم التي تسبب فيها المحتلون المحليون، هزائم لن يكون الاحتفال بنصر أكتوبر مجدياً في وقفها، طالما لم يتم استعادة التذكير بهدف العبور ومعناه وتفاصيله وبطولاته بل وعثراته أيضاً.
بدون أن يستعيد النصر وجهه الإنساني، سيظل السادس من أكتوبر بالنسبة للكثيرين مجرد يوم إجازة يزدحم بالأفلام البايخة والأغاني الكذابة، خصوصاً من أبناء الأجيال التي لم تشهد سنوات الهزيمة المريرة التي سبقت العبور، والتي ضاعفت من أثر النصر الذي هز إسرائيل كما لم يحدث لها من قبل، ولأن هذه الأجيال لم تعرف من نصر أكتوبر عبر السنين إلا تحوله إلى مناسبة للخطابة والنفاق والتأتيت والطنطنة والرقصات الكذابة، كان من الطبيعي أن يتضاءل إدراك أغلبها بأن النصر بكل ما ارتبط به من بطولات وعثرات وتضحيات، كان يهدف لتحقيق معنى مهم، هو أن تعود سيادة المواطن المصري على أرضه ومقدراتها، لا أن تكون حكراً على فئة من الضباط لم تشارك في صناعته، وهاهي الآن تتشارك في استثماره مع من يدفع أكثر، ولن يتحقق هذا المعنى إلا بإحياء سيرة المواطنين الذين صنعوا ذلك النصر، فبهم وحدهم يستعيد العبور وجهه الإنساني، ويتوقف عن كونه عاملاً حفازاً على زيادة المرتبات والمعاشات والامتيازات وعمولات صفقات السلاح، لعل مصر حينها تعود كما تمنّاها الذين عبروا: “دولة مش معسكر”.
هذا المقال لبلال فضل ومنشور في العربي الجديد في ٧ أكتوبر ٢٠١٨
تحية لآلاف الأبطال المقاتلين المجندين والاحتياط حاملى المؤهلات العليا من أشرف وأطهر وخير من أنجبت مصر الذين شاركوا فى معركتى الإستنزاف وأكتوبر وقاتلوا وضحوا بأرواحهم وسقط منهم آلاف من الشهداء دفنوا حيث إستشهدوا فى ساحات القتال بعد إختلطت دمائهم الزكية بتراب الوطن ولم تكفن جثامينهم الطاهرة بأعلام مصر لتنقل فى طائرات الى ذويهم لتقام لهم الجنازات العسكرية ولم تكرم أسمائهم وتطلق على الشوارع والمدارس تخليداً لذكراهم ومنهم من فقد بصره أو ساقه أو ذراعه ولم يستقبلوا إستقبالاً شعبياً حافلاً عند عودتهم منتصرين من ميادين القتال وتميزوا بالزهد فى الدنيا والرضا بالقليل فلم يتمتعوا بأى شيء يذكر من متاع الدنيا وخرجوا بعد إنتهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل يبحثون عن عمل بعد سنوات طويلة عانوا فيها من حياة التقشف ومعيشة الخنادق تحت نيران مدفعية العدو وطائراتة ومنهم من يعيش الآن من معاش لا يجابه طغيان الأسعار وظروف الحياة الصعبة ولايتمتعون بأى إمتيازات مالية أو إجتماعية أو صحية أسوة بغيرهم ممن لم يشاركوا طوال فترة خدمتهم العسكرية إلا فى مناوارات عسكرية ومشاريع تفتيش حرب ولم يخوضوا حروبا أو يشاركوا فى عمليات عسكرية إلا من خلال ممارسة لعبة “البلاى ستيشن” ورغم ذلك يستأثرون لأنفسهم بالإستثناءات والإمتيازات الإجتماعية والصحية دون غيرهم من المصريين رغم المرتبات العالية والمكافئات والحوافز التى يتقاضوها