نُشر في “البداية” في ١١ سبتمبر ٢٠١٥
بجانب مطبعة بولاق، يعتبر مستشفى القصر العيني واحدًا من أقدم المؤسسات الحديثة التي ترجع أصولها للقرن التاسع عشر والتي مازالت تمارس دورها الرائد لوقتنا الحالي.
وتعود أصول المستشفى للعشرينات من القرن التاسع عشر، ففي أواخر ١٨٢٤ أو أوائل ١٨٢٥ عقد محمد علي باشا، الذي كان يحكم مصر وقتها لمدة عشرين عامًا، مقابلة هامة مع طبيب فرنسي اسمه أنطوان بارثيليمي كلو، ذلك الطبيب الذي سيكون له شأن عظيم في تأسيس المستشفى، بل في تأسيس الطب الحديث في مصر.
تلك المقابلة التاريخية كانت بإيعاز من القنصل الفرنسي في مصر، برناردينو دروفيتي، فالباشا كان قد طلب منه المساعدة في جلب طبيب ماهر يستطيع أن يقيه الخسائر الفادحة في الأرواح التي كان يُمنى به في حملاته العسكرية المتتالية، ففي حملته العسكرية ضد الوهابيين في شبه الجزيرة العربية (١٨١١-/١٨١٨)، ثم حملته على السودان (١٨١٨-/١٨٢٠)، ثم حملته في شبه جزيرة المورة جنوبي اليونان (ابتداء من ١٨٢٤)، ثم محاولته المبكرة في تجنيد الفلاحين عام ١٨٢١، تبين للباشا أن المرض يفتك بالجنود في المعسكرات والقشلاقات، وأن أعداد الموتى نتيجة التكدس في هذه الأماكن تفوق أعداد القتلى في المعارك، كما أن عدم وجود أي رعاية طبية أدى إلي هلاك أعداد كبيرة من الجرحى في المعارك.
دروفيتي أدرك خطورة الموقف، ووافق الباشا على ضرورة استجلاب طبيب أوربي يُعهد له بتكوين خدمة طبية ماهرة تحفظ صحة الجنود، ونظرًا لسابق معرفة دروفيتي بكلو، وهو الطبيب الفرنسي الذي كان قد درس الطب في مرسيليا بجنوب فرنسا، اصطحب القنصل الفرنسي الطبيب الشاب الذي سرعان ما أن أبهر الباشا بفطنته ورجاحة عقله.
في تلك المقابلة التاريخية بين محمد على وكلو، وافق الطبيب الفرنسي الباشا على أهمية تأسيس خدمة طبية متطورة. كما وافقه على ضرورة أن تؤسس هذه الخدمة على أسس أوربية، وفرنسية تحديدا، ففرنسا كانت من أكثر البلدان الأوربية تطورا في الطب وقتها. كما قال له إن بوسعه أن يستجلب أطباء فرنسيين ماهرين ليعملوا معه على حفظ صحة جنود الباشا في جيشه الجديد الذي كان قد شرع في بنائه عام ١٨٢١.
إلا أن الطبيب الفرنسي الشاب لفت نظر الباشا إلى أن استجلاب تلك الأعداد الكبيرة من الأطباء المهرة سيكلفه الكثير. كما لفت نظره للصعوبات التي ستنجم من عدم دراية هؤلاء الأطباء الأوربيين بلغة الجنود (العربية) والضباط (التركية)، لذلك نصحه بأنه عوضًا عن البحث عن أطباء أوربيين فإنه قد يكون من الأجدى أن يشرع في تدريب أطباء مصريين الاستعانة بهم لتكوين نواة الخدمة الطبية الجديدة، لذلك اقترح كلو على محمد علي أن يشرع في تأسيس “مدرسة للطب البشري” وأن يُعهد فيها بالتدريس لعدد صغير من الأطباء الأوربيين على أن يكون التلاميذ من المصريين، كما نصحه بأن يكون التدريس باللغة العربية حتى يتمكن الأطباء عند تخرجهم، من التواصل بنفس اللغة مع مرضاهم.
اقتنع الباشا بنصائح الطبيب الفرنسي الشاب وكلفه بوضع تخيل عام عن أحسن السبل لتأسيس المدرسة.
وبعد سنتين من التحضير والإعداد افتتحت المدرسة الجديدة ووأقيمت بجوار معسكر كبير للجيش، اسمه “جهاد آباد”، في أبي زعبل شمال شرقي القاهرة. كانت المدرسة ذات طابق واحد على شكل مربع طول أضلاعه مائتا متر. وكان قي منتصف المبنى إيوان داخلى مفتوح به حديقة زرعت فيها النباتات الطبية التي كانت تمد المدرسة بما تحتاجه من أعشاب وعقاقير طبية.
ونظرا لقرب المدرسة من المعسكر الحربي فقد كان من اليسير على الجنود المرضى أن يُرسلوا للمدرسة للعلاج. وبمعنى آخر، فإن المدرسة كانت منذ إنشائها مستشفى حربي يفد عليه الجنود المرضى بأعداد كبيرة، وهو الأمر الذي ساعد في إضافة خبرة عملية على التعليم النظري الذي كان التلاميذ يتلقونه في المدرسة.
ولما كانت البلاد وقتها تفتقر لأي تعليم ثانوي أو إعدادي حديث فقد تم انتخاب عدد من طلاب الأزهر لكي يلتحقوا بالمدرسة الجديدة. ونظرا لعدم إلمام الطلاب بأي لغة أوربية، ولجهل المدرسين بالعربية، فقد تم تعيين بعض من المترجمين الشوام الذين كانت لديهم دراية بالفرنسية والإيطالية لكي يترجموا المحاضرات، عند إلقائها، من الفرنسية (أو الإيطالية، حسبما الحال) للعربية، في نهاية كل درس كان يُطلب من أحد الطلاب إعادة ما سمعه من المترجم على أن يقوم المترجم بإعادة ترجمة ما تلاه الطالب للغة الأصلية حتى يتأكد الأستاذ من دقة الترجمة.
وإضافة إلى مشكلة الترجمة، واجهت المدرسة مشكلة أخرى تمثلت في مقاومة الأهالي وبعض الطلاب للتشريح. فكلو (الذي عُرف وقتها باسم “كلوت” والذي ورد اسمه أحيانا في الوثائق الرسمية برسم “قلوت”) يقول في مذكراته إن مشايخ الأزهر، إضافة إلى بعض الطلاب أنفسهم، اعترضوا بشدة على قيام الأساتذة الأوربيين بتشريح الجثث، خاصة إذا كانت تلك الجثث لمتوفين مسلمين؛ كما عللت تلك المقاومة بالقول إن المسلمين يعتقدون بأن الجثث تشعر بالألم، وبأن الإسلام يحث على سرعة دفن الموتى ويحرّم فتح الجثث ويمنع العبث بمخلوقات الخالق. على أنه قد يكون من الأدق تفسير مقاومة الأهالي على أنها كانت نابعة من ربطهم بين التشريح وبين العقوبات الجنائية، إذ أن أغلب الجثث وقتها كانت لمجرمين جرى تنفيذ القصاص عليهم، وبالتالي نظر الناس للتشريح على أنه آخر مرحلة من مراحل العقاب، فنفروا منه إذ رأوا أن السلطات ليس من حقها التمثيل بالجثة حتى وإن كانت لمجرم
جرى القصاص منه حديثا.
وسرعان ما أن تغلبت السلطات على هذه المشكلة بأن منعت الأهالي من حضور محاضرات التشريح، وأكدت على ضرورة إضفاء قدر من السرية والوقار على دروس التشريح. كما
أكدت المحاضرات والكتب الدراسية على أهمية فهم الطب بمناظرة الجسم البشري من الداخل وعدم الاكتفاء بما تقوله كتب الأقدمين، من أبقراط وأرسطو وجالينوس وابن سينا. وبذلك تمكن كلو ومساعدوه من تأسيسي التعليم الطبي في المدرسة الجديدة على التشريح.
والجدير بالذكر أن لفظ “مدرسة” وإن كان عربي الأصل، إلا أن معناه في التركية كان أقرب لـ “كلية” منه لـ “مدرسة” بمعناها العربي الحديث. وبمعنى آخر، فإن “مدرسة الطب البشري” كانت بالفعل “كلية طب”، وبذلك أصبحت مدرسة ومستشفى أبو زعبل أول مستشفى جامعي حديث في الدولة العثمانية قاطبة.
وبعد خمس سنوات من تلقي أحدث العلوم الطبية تخرجت أول دفعة من مدرسة الطب البشري بأبي زعبل عام ١٨٣٢. وقام كلو- الذي حاز على رتبة البكاوية في نفس السنة وعُرف من وقتها بـ”كلوت بك” مكافئة له على صموده أمام انتشار وباء الكوليرا في نفس العام وعدم هروبه من وظيفته كما فعل الكثير من زملائه وبالتالي نجاحه في الحد من انتشار المرض الفتاك لمعسكرات الجيش – قام بانتخاب أمهر الطلاب وأرسلهم في بعثة طبية لفرنسا لكي يكملوا تعليمهم الطبي هناك.
وكان لأعضاء تلك البعثة الطبية الأولى، البالغ عددها إثنى عشر طالبًا، دور كبير في الارتقاء بمدرسة الطب – المستشفى بأبي زعبل، إذ أنهم تعمقوا في دراساتهم في فرنسا، وقام كل منهم باختيار كتاب أساسي من الكتب التي درسوها هناك وترجموها للعربية. وكان ذلك شرطا أساسيا لتوظيفهم في المصالح الحكومية عند عودتهم من بعثاتهم. وقامت مطبعة بولاق، التي أسست عام ١٨٢١، بنشر تلك الكتب بعد تنقيحها وتهذيب لغتها على أيدي مصححي لغة مهرة، ووزعت تلك الكتب على الدفعات الأحدث من الطلاب للتعلم منها عوضا عن الكتب الإفرنجية. وسرعان ما أن ظهرت عشرات الكتب الطبية العربية التي تناولت أحدث ما وصل إليه الطب في شتى الفروع والتي تميزت بأناقة طباعتها ودقة لغتها وعذابة عباراتها وسعة علومها.
وبعد عشر سنوات من تأسيس المدرسة أقنع كلوت بيك محمد على بضرورة نقل المدرسة، المستشفى من أبي زعبل. فمعسكر جهاد آباد أمسى خاليًا على عروشه بعد ارتحال أغلب الجيش إلي الشام في حملة الشام الشهيرة (١٨٣١-١٨٤٠) كما أن بعدها عن المحروسة (كما كانت تعرف القاهرة وقتئذ) كان يسبب الكثير من المشاق على التلامذة. وفي ١٨٣٧ وافق محمد على علي اقتراح كلوت بك وُنقل المستشفى إلى شاطئ النيل عند قصر العيني وبذلك عُرف المستشفي باسم موقعه الجديد، واحتفظ بهذا الاسم حتى يومنا هذا.
وسرعان ما أن تطور قصر العيني ليكون مركزًا طبيًا ذا مهام عديدة بعد أن كان دوره محصورا في كونه مستشفى عسكريا في أوائل سنوات تكوينه. فبالإضافة إلى كونه كلية للطب، ومستشفى عسكريا، أصبح قصر العيني مركزا طبيا يشرف على الكثير من المؤسسات الطبية الأخرى التي شُرع في تأسيسها في تلك الفترة والتي كان من أهمها معمل كيماوي يقوم بتركيب الأدوية والعقاقير وكان موقعه في قصر العيني نفسه، ومستشفى مدني عُرف باسم “الإسبتالية المُلكية” بالأزبكية، و”مدرسة الولادة” أيضا بالأزبكية (وكانت تلك تدرّس مبادئ الطب لعدد صغير من البنات).
وكان أغلب الأطباء يُرسلون فور تخرجهم للوحدات العسكرية المقاتلة في جبهات القتال المختلفة في الشام والحجاز واليمن والسودان، وبذلك أكسبتهم تلك التجربة خبرة ثمينة إذ تمكنوا من مناظرة عدد كبير من الحالات وقاموا بمئات العمليات الجراحية.
وعند انتهاء المواجهة المسلحة بين محمد على والسلطان العثماني عام ١٨٤٠، وعند تسريح الجيش وتقليص عدده بعدها بعام واحد، رأى كلوت بك أن أمامه فرصة ذهبية للاستفادة من الأعداد الغفيرة من الأطباء المسرّحين الذين اكتسبوا خبرات عملية في أثناء خدمتهم العسكرية.
كان عدد هؤلاء الأطباء والصيادلة وقتها يقارب الخمسمائة طبيب وصيدلي، واقترح كلوت بك على الباشا أن يشكل منهم خدمة طبية مدنية تحفظ صحة الأهالي وترتقي بأحوال الصحة العامة.
وبالفعل وافق الباشا على اقتراح كلوت بك ووجه القصر العيني اهتمامه كمركز طبي للقطاع المدني، وإن احتفظ بطابعه العسكري، فكلوت بك ظل محافظا على لقبه كـ”حكيمباشي الجهادية”، وخريجو القصر العيني كانت لديهم رتب عسكرية (وكذلك خريجات مدرسة الولادة)، ومرضى المستشفى كانوا يخضعون لانظباط عسكري صارم.
وكان لجهود كلوت بك الناجحة في تحويل قصر العيني من مستشفى عسكري للعناية بالقطاع المدني أبلغ الأثر في تحسين الظروف الصحية لعموم المصريين، بعد أن كان قاصرا على العناية بأحوال الجنود والظباط. وكان من أهم أمثلة تحول قصر العيني من مستشفى عسكري لمركز طبي مدني تأسيس إدارة طبية عرفت بـ”شورى الأطبا” أو “مشورة الطب” كان مركزه القصر العيني وأشرف على خدمات طبية بالغة الأهمية في شتى أنحاء البلاد. فافتتح في كل بندر في الأرياف وفي كل حي في المدن (وكان الأحياء تعرف في القاهرة بـ”الأتمان”) مركزا طبيا عرف باسم “مكتب الصحة” يقدم الخدمة الطبية للأهالي مجانا. كما افتتحت المستشفيات الإقليمية في المدن الكبيرة في طول البلاد وعرضها. وأشرفت “شورى الأطبا” في قصر العيني على برنامج طموح لتطعيم كل الأطفال ضد الجدري الذي كان يعصف بصحتهم ويهدد حياتهم، وأصبحت مصر بذلك من أوائل البلاد في العالم التي نجحت في إجراء مشروع قومي للتطعيم ضد الجدري.
ونجح قصر العيني كذلك في وضع إجراءات احترازية لحفظ الصحة العامة، كان من أهمها فرض الحجر الصحي، الكورنتينا، للحد من انتشار الأوبئة، وأخطرها الطاعون والكوليرا. وبالفعل كانت لهذه الإجراءات أبلغ الأثر في تقليل الإصابة بهذين الوبائين الذين اختفيا من مصر بشكل شبه نهائي بحلول الثمانينيات من القرن التاسع عشر. وفي عام ١٨٤٨ كللت جهود القصر العيني بالنجاح عند إقامة أول تعداد عام للسكان وبذلك أصبحت لدى السلطات الصحية قاعدة بيانات دقيقة تبني عليها سياساتها الصحية على مستوى القطر كله. وتحتفظ دار الوثائق بسجلات هذا التعداد البالغ عددها أكثر من سبعة آلاف سجل والتي تشمل معلومات دقيقة عن السكان: أعمارهم، محل إقامتهم، ووظائفهم، وديانتهم، وجنسهم (إثنيتهم)، وأحوالهم الصحية. وسبقت مصر بذلك الدولة العثمانية بل كانت من أوائل الدول في العالم التي نجحت في القيام بتعداد حديث ودقيق للسكان .
واختصارا، يمكن القول بثقة إن قصر العيني كان أهم وأنجح مؤسسة عرفتها مصر في القرن التاسع عشر، فقد استطاع أطباء وطبيبات هذا الصرح الطبي العملاق من القيام بمشروعات طبية بالغة الأهمية وجليلة الأثر.
ومن أهم هذه المشروعات: تعريب الطب، القضاء على الأوبئة، وضع قاعدة بيانات دقيقة عن السكان، العناية بالصحة العامة، التطعيم ضد الجدري، الحد من خطر وبائي الطاعون والكوليرا، التقليل من معدل وفيات الأطفال وزيادة متوسط عمر الرجال والنساء، والارتقاء بمستوى معيشة الأهالي.
تحياتي على الدراسة الوافية ولكن
لم يختف مرض الكوليرا نهائيا فقد ظهر في مصر في عام 1902 كما يذكر طه حسين في الأيام وظهر في 1947