Press "Enter" to skip to content

وثائقنا محبوسة فى أدراج المسؤولين وتاريخنا صنعه المواطنون

حديث مع خلف علي حسن نُشر في “المصري اليوم” في ١١ يونيو ٢٠١٠

شغُف بالتاريخ، فأصبح مؤرخاً مرموقاً فى الأوساط الأكاديمية بالولايات المتحدة الأمريكية. ينبش فى ثناياه غير مكترث بالروايات الرسمية، بل ينشغل بأفراده العاديين الذين يطلق عليهم «الأنفار».. من اعتزازه بهم لم يكتف بنشر تاريخهم على المستوى المحلى، بل قام بتوسيع الدائرة ليُنشر فى دول الغرب وأوروبا. 

فى كل كتاباته يعتمد على المنهج والرؤية والنقد البناء. حين تجلس إليه يستثيرك هدوءه المنظم، وتنفتح شهيتك للمؤلفات الأجنبية والعربية التى تراصت فى مكتبته بتنظيم. يحدثك كثيراً عن أمور تخص مؤسسات مهمة، يضحك، ويهمس فى أذنك ويطلقها صريحة دون مواربة: «هذا ليس للنشر هو فقط للمعرفة».

الدكتور خالد فهمى الذى يعمل أستاذا لدراسات الشرق الأوسط بجامعة نيويورك، قدم نفسه للقارئ العربى منذ سنوات قليلة بكتابه «كل رجال الباشا» الذى كان أطروحته للدكتوراة من جامعة أكسفورد، فأثار نقاشًا علميًا فى الأوساط الأكاديمية والثقافية، ثم قدم كتابه المهم «محمد على والجسد والحداثة.. دراسات فى الطب والقانون فى مصر الحديثة» الذى اعتنى فيه بموقف عامة المصريين ممن تأثرت أجسادهم بالتغيرات المستحدثة فى عصر محمد على.

مؤخراً شارك فهمى فى أعمال «المنتدى السنوى السابع لتوثيق النشاط الاقتصادى لمصر والشرق الأوسط» بالقاهرة، وعقب فى ندوة أقيمت بالمجلس الأعلى للثقافة على كتاب «اللورد كرومر الإمبريالى والحاكم الاستعمارى» الصادر عن المركز القومى للترجمة، من تأليف روجر أوين، وترجمة الراحل د. رءوف عباس. «المصرى اليوم» التقت فهمى فى بيته بالزمالك ودار الحوار التالى.

 لماذا اعتبرت فى كتابك «كل رجال الباشا» أن نظام محمد على كان قمعيا رغم أن الشائع أنه انتشل مصر من حالة ترد ووضعها على طريق النهضة؟

– عندما أردت أن أكتب تاريخ هذه الحقبه المهمة من تاريخ مصر من وجهة نظر الأفراد العاديين، تساءلت كثيراً كيف يمكن ذلك؟ فقررت أن أختار المؤسسة العسكرية فى فترة محمد على، لأنها لمست كثيراً تاريخ الفلاحين والعاديين من المصريين ووجدت مصادر غنية جداً، ففى البداية استخدمت المصادر العادية والمتاحة لجميع المؤرخين «المعية السنية» وهو ديوان الخديو، فيه أوامره ومراسلاته التى كانت تدون بالتركية إلى أن ترجمها الملك فؤاد فى ثلاثينيات القرن الماضى. وبعد فترة طويلة من البحث والتنقيب اكتشفت «وثائق الشام» التى تخص حملة الشام التى قام بها الجيش فى نوفمبر عام ١٨٣١، وغزا بها محمد على الشام لمدة ١٠ سنوات.

هذه الوثائق كانت موجودة فى ٦٣ محفظة مرتبة زمنياً منذ خروج الجيش حتى عودته، وبها أيضا جميع المكاتبات والمراسلات التى تخص يوميات الجيش، ومراسلات ابنه إبراهيم باشا والتعيينات والتدريبات والإمدادت، وما لفت نظرى تقارير المحاكمات العسكرية التى كانت تعقد للجنود والضباط، كذلك مشاجرات الجنود مع بعضهم ومع الأهالى من خلال هذه المصادر تبينت لى عدة نقاط أهمها: أن الجنود فى جيش محمد على كانوا يعانون معاناة شديدة،

كما ظهرت نسبة الهروب من هذا الجيش كبيرة جداً وصلت إلى الثلث فى الثلاثينيات، ولا توجد وحدة عسكرية خالية من المشاكل، مراسالات القادة كانت معنية بذلك كثيراً فنسبة الهروب أوضحت لى عدم وجود شعور قومى لدى الجنود المصريين فى هذا الجيش، كذلك «الخطب» التى كان يليقها القادة على الجنود خالية من الإيحاءات القومية ومليئة بذكر أفضال «ولى النعم» ووجدت مجموعة من الشواهد الموثقة أن نظام محمد على كان ممقوتا من قبل الفلاحين المصريين المجندين، ولا يعمل لصالح مصر بل لصالح أسرته فقط.

 وهل ذلك ما دفعك فى كتابك «تاريخ الطب والقانون فى مصر الحديثة» إلى الاهتمام بالنظام القانونى ودور الطب الشرعى والتعذيب وغيرها فى القرن التاسع عشر؟

– الكتاب مجموعة من الفصول والدراسات التى كتبتها عن تطور الطب بمعناه الحديث، وعن تطور النظام القانونى الجديد، غير المستوحى من الشريعة الإسلامية، وهو رؤية اجتماعية لتاريخ الطب والقانون ويرتبط بمفهوم التحديث والجسد، كذلك يتناول ارتباط المعرفة الطبية والقانونية بآليات وممارسات السلطة الحديثة. وهو جاء لدراسة موقف عامة المصريين، أو الأهالى، ممن تأثرت أجسادهم بالتغيرات المستحدثة، إبان حكم محمد على، وينبش فى مناطق مسكوت عنها فى تلك الفترة، كذلك يتتبع قضية العقاب الجسدى وأشكاله فى النظام القانونى المصرى فى القرن التاسع عشر، ويتعمق فى مسألة التعذيب، والدور المهم للطب الشرعى، وغيرها من الأمور التى أغُفلت فى كتابات أخرى.

 تنشغل كثيراً بالتاريخ الاجتماعى للمصريين خصوصا العاديين منهم رغم أن لدينا المدرسة الأكاديمية المصرية وعشرات المؤلفات التى تناولت هذا منذ الستينيات؟

– نعم لدينا مدرسة اهتمت بجوانب كثيرة فى تاريخ المصريين العاديين منذ محمد أنيس الذى تعلمنا منه التاريخ الاجتماعى المعاصر ثم تلاميذه، الراحل د. رؤوف عباس وعبدالخالق لاشين وعلى بركات ونيللى حنا مؤرخة العصر العثمانى وغيرهم، ومنهم من تناول جوانب عديدة تهم المصريين مثلاً تاريخ الجزية كـ«عماد هلال» وتاريخ الجريمة، والمدن، والسخرة، والمرأة وغيرها. وفيما يخصنى تناولت تاريخ الجند والمرضى أثناء حكم محمد على من زواية المؤسسة العكسرية فى هذه الفترة، وهذه منطقة تاريخية لم تطأها قدم بحثية من قبل.

 لماذا هذا الاعتزاز بتاريخ البشر العاديين؟

– قدرى أن أكتب عن هؤلاء «الأنفار» فى القرن التاسع عشر فهم صانعو التاريخ جنباً إلى جنب مع القادة ولا يشغلنى كثيراً تاريخ الصفوة أو هؤلاء القادة أو القضاة أو المحامين. الجنود والمرضى والمنقادون كان لهم دور كبير فى بناء الكثير من مؤسسات الدول ومنها مؤسسة محمد على العسكرية، أما تردد هؤلاء على المحاكم وقيامهم بإجراءات التقاضى وغيرها، أوجد النظام القضائى. نعم أكتب تاريخ هؤلاء باعتزاز فهم صانعو التاريخ فكيف نغفلهم؟

 وهل نحن بحاجة إلى إعادة كتابة التاريخ مرة أخرى مثلما قلت؟

– نعم، التاريخ عملية تأويل مستمرة ولا تنتهى خصوصاً كتابة السير الذاتية فيه ورغم أنه إعادة قراءة للماضى فإنه يأتى من وجهة نظر مغايرة متطورة ومعاصرة، وتكون مختلفة عما سبق وكُتب.

 كيف ترى كتاب «اللورد كرومر» للمؤلف الأمريكى روجر أوين الذى يرى البعض أنه جمّل صورة كرومر فى حكمه لمصر رغم حوادثه الشهيرة؟

– الكتاب سيرة للورد كرومر، ولا يجُمل صورته، فهو يبرز النواحى الإنسانية فى حياته كعلاقته بمرؤوسيه وأولاده وزوجته، وليست له علاقة بتاريخه مع المصريين، فمهمة الكاتب هنا تاريخ شخصية اللورد كرومر وليس كتابة تاريخ مصر أثناء حكمه، وبالمناسبة اللورد كرومر هو لقب إنما اسمه الحقيقى إفلين بارينج ، ولفظ كرومر هو اسم بلدته، فأثناء الاستعمار البريطانى حين كان يتم اختيار أحد القادة لحكم مستعمرة يطلبون منه إعطاء نفسه لقباً فاختار اسم بلدته كرومر، وبارينج ينتمى إلى عائلة رجال بنوك لمدة جيلين أو ثلاثة، ولسوء حظه جاء لقبه الذى يعنى فى الإنجليزية «شخص ثقيل» فأصبح محل سخرية للعديد من الإنجليز وزملائه،

المؤلف لا يغفل هذه الجوانب وما يدور حول كرومر من بغض وكره وغيره، إنما يتناول جوانب شخصيته المختلفة مثل كيفية تمتعه بحياته الشخصية، ولمن يحكى همومه ومشاكله، وغيرها من الأمور التى تمس جوهر الإنسان وليس شخصية القائد. الكتاب مهم لأنه لا يوضح أهمية كرومر فى تاريخ مصر فحسب، بل دوره فى الحركة الاستعمارية بشكل عام، وبعض ما تناوله المؤلف كان مخفياً عن العامة، هو يحاول أن يقدم تفسيراً لهذه الشخصية المكروهة لدى المصريين.

 هذه وجهة نظر المؤلف فى كتابه.. ماذا عن تقييمك أنت مع العلم أن المؤلف يعمل أستاذا لدراسات الشرق الأوسط مثلك؟

– الكتاب إضافة غنية للمكتبة العربية المعنية بتاريخ مصر الحديث، ويقدم مادة خام قد تفيد الكثيرين للعمل عليها، ومعتمد على مصادر غنية وكثير منها لم ينشر من قبل، فبعضها من دار الوثائق البريطانية عائلة كرومر سمحوا له بالاطلاع على أوراقه الشخصية، واطلع كذلك على المراسلات العامة فى الوثائق البريطانية، وهى ليست موجودة فى كتب، وأيضاً يتناول الكتاب دور كرومر كمراقب مالى لمصر عام ١٨٧٦ قبل أن يصبح معتمداً بريطانياً لها، وعلاقتة بالملك توفيق وعباس الأول ودوره فى حملة «جوردن» على السودان وغيرها.

يضم كذلك دوره فى حادثة «دنشواى» الشهيرة وكيفية نجاحه فى توفيق أوضاع الميزانية المصرية. للعلم روجر أوين أصدر فى هذا الكتاب أحكاماً قاسية على كرومر ليست موجودة فى الترجمة العربية التى بين أيدينا، فجاء فيها أنه المسؤول عن الإخفاقات السياسية التى مرت بمصر فى تلك الفترة، دوره فى خفض إنتاجية الفدان نتيجة لسياسته غير الرشيدة فى الرى، وتشجيعه لظهور ملكيات فلاحية كبيرة فظهر الإقطاع المصرى، مع إصراره على عدم تشجيع الصناعة المصرية، كذلك يوضح الكاتب أن لكرومر دوراً كبيراً فى استمرار الإنتداب البريطانى على مصر.

 طالبت كثيرا بالإفراج عن الوثائق التى تخص مختلف الوزارات والهيئات وإيداعها فى دار الوثائق القومية حتى يتمكن المؤرخون من كتابة فترات تاريخنا؟

– طالبت وأطالب بذلك، فمصر بلد ذو تراث عريق به الكثير من الوثائق التى نستطيع من خلالها كتابة حقب تغيب عنا، ونرجع إلى فترة حكم محمد على التى كانت الإدارة فيها مركزية تجمع الأوراق، فلدينا الكثير من السجلات والوثائق خلال فترة الحكم العثمانى والأيوبى والمملوكى وغيرها، ولدينا دار للوثائق تحولت، بمقتضى قانون صدر عام ١٩٥٤ من دار للمحفوظات الملكية إلى دار للوثائق القومية تفتح للجمهور العام، للاطلاع على تاريخ مصر، وهو قانون مع وقف التنفيذ وهنا تكمن المأساة: تاريخ أهم وأقدم دولة فى المنطقة غير متاح بالشكل الكافى للجمهور العام، وليس للباحثين كذلك الحرية فى هذا الاطلاع،

رغم أن القانون يجيز ذلك «بعد انقضاء مدة ٣٠ سنة تنقضى عن الوثيقة فترة السرية ويجوز الاطلاع عليها»، كذلك الإدارات الحكومية تمتنع عن إمداد دار الوثائق بسجلاتها لا أعرف السبب فى ذلك، أيضاً «هناك محاذير أمنية تمنع ذلك حتى حرب أكتوبر و٦٧ و٤٨ رغم انقضاء مدة السرية عنها ليست متوافرة»، وهو ما جعل تاريخ الصراع العربى – الإسرائيلى يكتب من وجهة نظر إسرائيلية فقط لأنها أفرجت عن وثائقها للباحثين، هذا الأمر يهدد الأمن القومى نعتمد فى كتابة هذا الصراع على المقابلات الشخصية أو المصادر الفرنسية أو الأمريكية أو الروسية فقط.. عدم وجود الوثائق يجعل إسرائيل تكتب تاريخ الصراع العربى معها من وجهة نظر إسرائيلية فقط.

 يتردد أنك ستترك العمل فى جامعة نيويورك لترأس قسم دراسات الشرق الأوسط فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة؟

– نعم، قررت العودة والعمل فى مصر بعد رحلة استغرقت ١٧ عاماً، لترأس قسم دراسات الشرق الأوسط بقسم التاريخ بالجامعة الأمريكية هنا، ووجدتها فرصة عمل مناسبة لأعمل مع مجموعة من الباحثين المتميزين فى مجال دراسات الشرق الأوسط وأتشرف بالعمل معهم، فهم يتناولون تاريخ مصر الاجتماعى بدراسات عميقة وموثقة مثل تاريخ الأسر المصرية فى القرن العشرين، وتاريخ الثروة فى مصر والزواج فى القرن العشرين، وتاريخ الإسكندرية فى القرن التاسع عشر، وأيضاً تاريخ الطبقة البرجوازية لمصر تحت الانتداب البريطانى وغيرها من الدراسات الجادة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.