نُشر في “البديل” في ٢٩ مايو ٢٠٠٨
في إطار احتفالها بالذكرى الستين لتأسيس دولة إسرائيل أفردت صحيفة نيويورك تايمز كامل صفحة الرأي في عدد ۱۸ مايو لتلك المناسبة. وبالطبع لم يكن غريبا أن تحتفي هذه الجريدة الموالية لإسرائيل بتلك المناسبة، ولكن ما كان يستحق الوقوف عنده هو طبيعة المقالات الثلاثة التي نشرتها في صفحة الرأي.
كانت المقالة الأولى لصحفي أمريكي-إسرائيلي يدعى جيفري جولدبرج كان قد سبق له الخدمة في الجيش الإسرائيلي كحارس في سجن الأنصار ۳ أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وفي مقالته التي جاءت بعنوان “المشكلة الأمريكية لإسرائيل” يحاجج جولدبرج بأن سياسة الاستيطان تمثل خطرا وجوديا على إسرائيل إذ أن تلك السياسة تقوض فرص إقامة دولة فلسطينية، فبدون دولة فسلطينية سيزيد عدد العرب الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية في المستقبل القريب عن عدد اليهود، الأمر الذي سيهدد يهودية الدولة. ويزيد جولدبرج القول إن القادة الإسرائيليين يدركون هذه الأخطار ولكن الدعم الذي يناله زعماء المستوطنين من المنظمات اليهودية الأمريكية يحول دون ضغط الإدارات الأمريكية المتعاقبة على الحكومة الإسرائيلية لتتخلى عن سياسة الاستيطان. ويقول جولدبرج “إن ما تحتاجه إسرائيل اليوم هو رئيس أمريكي يحث إسرائيل – بشكل علني ومتصل وقوي – على تهيئة الظروف لإقامة دولة فلسطينية”، الأمر الذي يستلزم ليس فقط وقف سياسة الاستيطان بل تفكيك المستوطنات القائمة بالفعل.
أما المقالة الثانية فكانت بعنوان “ميلاد أمة، ۱۹٤۸” بقلم روث جروبر. وجروبر كاتبة أمركية تبلغ من العمر ۹۷ عاما ذات شهرة واسعة في الحركة الصهيونية نتيجة تغطيتها لأوضاع اليهود في أوروبا بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وفي مقالتها في النيويورك تايمز تستعيد جروبر ذكرياتها يوم ۱٤ مايو ۱۹٤۸ وهو اليوم الذي كان منتظرا فيه أن يُعلَن تأسيس دولة إسرائيل. وكانت جروبر يومها تعمل صحفية وتغطي رد فعل واشنطن لهذا الإعلان والانقسام بين الرئيس ترومان الذي كان يؤمن بحق اليهود في دولة مستقلة وبين وزير خارجيته جورج مارشال الذي كان يفضل وضع فلسطين تحت وصاية الأمم المتحدة. وتقول لنا جروبر إنها وهي تنتظر القرار النهائي لواشنطن أخذت تسترجع ذكرياتها في لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين وزيارتها لمعسكرات النازحين في أوروبا ومقابلتها لآلاف اليهود الناجين من المحرقة. وتعيد علينا قصتها الشهيرة مع هؤلاء اليهود حين سألهم أعضاء اللجنة عن الأسباب التي تجعلهم متشبثين بفلسطين، وإذا بصبي يهودي يرد بالقول “الكل لديه وطن. الأمريكيون، والبريطانيون، والفرنسيون، والروس. نحن فقط الذين نفتقر لوطن. لا تسألونا إذن. أسألوا العالم”. وتنهي جروبر مقالتها بأن تعيدنا إلى مقر الأمم المتحدة يوم ۱٤ مايو ۱۹٤۸ ووصول التقارير الصحفية التي أفادت إعلان بن جوريون عن تأسيس إسرائيل وبعد ذلك بأحد عشر دقيقة اعترف ترومان بالدولة الوليدة.
أما المقالة الثالثة فكانت للكاتب اللبناني إلياس خوري الذي ذاع صيته أخيرا في الغرب بعد ترجمة رائعته “باب الشمس” إلى الإنجليزية (إضافة إلى الكثير من اللغات الأخرى)، الأمر الذي مكن الكثير من الأمريكيين من أن يضعوا أيديهم على البعد الإنساني لمأساة الفلسطينيين ومن أن ينصتوا ربما للمرة الأولى لرواية النكبة.
يبدأ إلياس خوري مقالته بالتأمل في لفظ “النكبة” ودلالته، ويقول إنه كان في الماضي لا يستحسن هذا اللفظ الذي يجعل الجاني مجهولا في النفس الوقت الذي يبرئ المجني عليه من تحمل بعض المسئولية؛ ولكن بمرور الوقت أدرك أن لفظ “النكبة” عندما صُك أثناء حرب ۱۹٤۸ وبعد أن اتضحت معالم المحرقة كان يعبر بالفعل عن استحالة منع مشروع الدولة اليهودية. ثم يدلل إلياس خوري على ذلك بسرد تجاربه مع الفلسطينيين في مخيماتهم وكيف اكتشف حقيقة النكبة هناك. ثم يضيف إنه “بعد المحرقة أصبح من شبه المستحيل إدانة إسرائيل على أي عمل تقوم به. فبتأسيس دولة إسرائيل استطاع الغرب أن يجد حلا لمشكلاته الأخلاقية وأن يتحرر من عبئ النازية الثقيل. لا يوجد أحد يود الاستماع لقصة فلسطين”.
هناك أمران جديران بالملاحظة في هذه المقالات الثلاثة. الأولى هي أن كل منها يتناول موضوعه من وجهة نظر أخلاقية. فجولدبرج وهو المهموم بنقاء إسرائيل يرى في الاحتفاظ بالمستوطنات خطرا على الإبقاء على يهودية إسرائيل وديمقراطيتها معا، ولذلك فهو ينطلق من نقطة أخلاقية عندما يطالب كيهودي أمريكي بالقضاء على المستوطنات حتى تتاح الفرصة لإقامة دولة فلسطينية لأن ذلك هو الضمان الوحيد لاستعادة إسرائيل نقاءها وطهوريتها. أما جروبر فعن طريق توليف قصة اعتراف ترومان بإسرائيل مع قصة يهود أوروبا الناجين من المحرقة تريد القول إن عمل ترومان هذا كان عملا أخلاقيا. ومن ناحيته يؤكد إلياس خوري على أن هذا العمل الأخلاقي الذي حاول به الغرب أن يتخلص من عقدته تجاه يهود أوروبا هو الذي تسبب في مأساة الفلسطينيين ونكبتهم.
أما الأمر الثاني الجدير بالملاحظة فهو الجديد الذي أضافته تلك المقالات الثلاثة. فجولدبرج ربما ظن أنه أظهر شجاعة نادرة عندما طالب بالضغط الأمريكي على إسرائيل لكي تتخلص من المستوطنات، ولكن ما يسترعي الانتباه هو صمته المطبق عن الأضرار الأخلاقية للاحتلال، وعدم قدرته على الاعتراف بأن إدانة الاحتلال واجبة وضرورية ليس فقط لإنقاذ إسرائيل من الخطر الذي يهدد مستقبلها بل لما يتضمنه الاحتلال من قهر وظلم وشر. ومن ناحيتها لم تأت جروبر بأي جديد، ففي محاولتها التأصيل لحق إسرائيل في الوجود لم تستطع إلا الرجوع إلى أفكار مضى عليها ستون عاما وكأن الصهيونية أفلست ولم تعد قادرة على تقديم أي ذرائع جديدة لضرورة إسرائيل.
الجديد حقا كان مقالة إلياس خوري الرائعة ليس فقط لأن استكتاب النيويورك تايمز لكاتب عربي موال للفلسطينيين ومعبر عن مأساتهم ببلاغة فريدة هو عمل غير مسبوق بل الجديد هو محتوى المقالة. ربما كان الغرض من استكتاب نيويورك تايمز لإلياس خوري الإيحاء بأن صفحاتها تتسع للتعبير عن وجهة نظر طرفي النزاع وأن لكل منهما حجته الوجيهة، إلا أن إلياس خوري تحاشى عرض القضية وكأن هناك تكافؤا بين المسئولية الأخلاقية للغالب والمغلوب، فقد أكد على أن السبيل للخروج من هذا النفق المظلم لا يكمن فقط في “الاعتراف بمأساة الضحية، وإن كان المتسبب في هذه المأساة ضحية أخرى” ولكن أيضا في إدراك حقيقتين، الأولى هي أن إقامة إسرائيل تمت على أشلاء شعب آخر، أي الفلسطينيين (الأمر الذي قد يستغرب البعض منا أن كثيرين في الولايات المتحدة لا يدركونه). والثانية هي أن “استمرار احتلال إسرائيل للأجزاء المتبقية من فلسطين قد حول النكبة من حدث تاريخي إلى حقيقة يومية”، وبالتالي فإن كانت مأساة يهود أوروبا قد انتهت فأن مأساة الفلسطينيين حاضرة ومستمرة.
إن قوة إسرائيل الحقيقية لا تكمن في هيمنتها العسكرية أو في اقتصادها المزدهر بل في قدرتها على تقديم نفسها للرأي العام الغربي كقوة أخلاقية. وإن عبرت صفحة الرأي في النيويورك تايمز فإنما تعبر دون أن تدري عن انهيار هذا المنطق وعن الإفلاس الأخلاقي للصهيونية وعن ظهور خطاب عربي قوي في أخلاقيته، سامي في مبادئه لا يرتكن على حقائق التاريخ فقط ولا ينطلق من منطلقات قومية ضيقة بل يرتكز على قواعد أخلاقية راسخة ويعتمد على منطق إنساني رحب.