Press "Enter" to skip to content

تعقيب وتوضيح عن دار الوثائق القومية

  نُشر في “البديل” في ١ يوليو ٢٠٠٨

التحقيق الذي كتبه أحمد الهواري عن دار الكتب والوثائق القومية والذي نشر في “البديل” في عدد ٢٩ يونيو ٢٠٠٨ جاءت عناوينه مثيرة لا تعكس بدقة الأفكار التي وردت في التحقيق ذاته ولا آراء من تحدث إليهم الكاتب بالإضافة إلى أنها لا تعبر عن حقيقة العمل داخل الدار. وبما أنني من الباحثين المترددين على الدار بانتظام إضافة إلى أنني كنت من ضمن من تحدث إليهم أحمد الهواري أرى أنه لزاما علي أن أفند ما جاءت به هذه العنواين وأصحح الكثير مما تدعيه.

يقول أحد العنواين الرئيسية: “وثائق مصر.. ما لم يسرقه اللصوص .. أتلفه الإهمال”. ولا أدري كيف تم اختيار هذا العنوان المثير؟ ففي متن التحقيق سألني أحمد الهواري عن حقيقة فقدان أكثر من ثمانين ألف وثيقة أثناء نقل الوثائق من مبنى الدار القديم في رمسيس إلى مبناها الجديد على كورنيش النيل، فرددت عليه بالتشكيك في صحة هذه الواقعة، إذ أن الدار لم تكن في رمسيس من باب الأصل بل كان مقرها السابق في القلعة. وقد أثبت أحمد الهواري كلامي هذا في تحقيقه. ثم سألني أحمد الهواري عن حقيقة سرقة وثائق الحجاز، فأوضحت له أن هذا موضوع دارت عليه تساؤلات عديدة في السابق، وأضفت أنه توجد بالفعل سوقا كبيرة لشراء الوثائق التاريخية المتعلقة بتاريخ شبه الجزيرة العربية وأن السلطات السعودية تحاول جاهدة الحصول على ما يمكن به كتابة تاريخ المملكة وأنه من الخطأ أن نظن أن هذا يحدث بشكل غير قانوني، وأفردت له واقعة شراء السعوديين لخطاب أو اثنين من خطابات الملك عبد العزيز من جامعة أوكسفورد. على أني سارعت بتوضيح ذلك لا يحدث في دار الوثائق إذ أن القوانين المصرية لا تسمح بذلك، ثم أضفت موضحا أنني عند دراستي لتاريخ الجيش المصري في شبه الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر قد استعنت بالفعل بهذه الوثائق منذ حوالي خمسة عشر عاما ثم رجعت إليها مرة أخرى مؤخرا ولم أجد أن أيا منها قد ضاع أو سُرق، وختمت قائلا إنه في حدود علمي فإن الوثائق الأصلية المكتوبة بالتركية التي اعتمدت عليها لم يضع منها شيئا. وقد نقل أحمد الهواري عني هذا الكلام بدقة ولو بشكل مختصر. وأخيرا وبخصوص نفس هذا الموضوع، أي زعم ضياع الوثائق، سألني أحمد الهواري عن حقيقة الفرق بين عدد المائة مليون وثيقة التي يقال إن الدار تحتفظ بها وبين عدد العشرين مليون وثيقة التي تبين وجودها بعد إتمام مشروع التحول الرقمي، فقلت له إن هذا التباين لا يعكس بالضرورة ضياع الوثائق بل هو نتيجة اختلاف في طريقة حساب عدد الوثائق “ففي الحصر الحالي يتم حساب بعض الوثائق المجمعة في سجل واحد باعتبارها وثيقة واحدة فيما كان يتم حصرها قبل ذلك وثيقة وثيقة حتي تلك الموجودة منها في سجل واحد”.

1

وبحكم عملي في الدار لسنوات طويلة أستطيع أن أجزم بأن الإجراءات الأمنية المطبقة بالفعل كفيلة بردع أي شخص عن السرقة بدليل أن حالات السرقة المعدودة (التي قد تحدث في أي مكتبة أو دار وثائق في العالم) قد كشفها مكتب الأمن بالدار وجرى التحقيق مع مرتكبيها وتم عمل محاضر بذلك.

ولذلك لست أدري من أين أتى واضع العنواين بهذا العنوان: “وثائق مصر.. ما لم يسرقه ؟ فالعنوان يوحي بأن دار الوثائق أصبحت قاعا صفصفا أتى عليه اللصوص وما لم يتمكنوا من سرقته ضاع نتيجة الإهمال. والحقيقة أبعد من ذلك بكثير. فالدار تشهد منذ حوالي خمس سنوات نشاطا كثيفا لم أره من قبل، وحسب ما أرى فإن الدار تمر هذه الأيام بعملية تطوير حقيقية تنبأ بطفرة حقيقية في الخدمات التي تتيحها للباحثين، وقد أشار أحمد الهواري إلى هذه الجهود عندما قال إن هناك “جهودا مبذولة حاليا في الدار …تتمثل في إنشاء مركز متطور للترميم وتطوير قاعة البحث ومشروع التحول الرقمي في أرشفة الدار.” وربما لم يستطع أحمد الهواري لضيق المساحة أن يسهب في شرح أهمية هذه المشروعات، إلا أنه يجب التأكيد على أهمية هذه الجهود غير المسبوقة: فباستطاعة أي زائر لمركز الترميم في الدور الثالث للدار أن يقف على مدى الحرفية والجدية التي يقوم بها العاملون في هذا المركز وكيف يعنون بأصغر التلفيات التي ألحقها الزمن بالمئات بل بالآلاف من الوثائق. ومقارنة بقاعة البحث الذي بدأتُ العمل فيها منذ عشرين عاما تمثل القاعة الجديدة التي ستفتتح عما قريب نقلة نوعية ليس فقط من جهة الإنارة وأجهزة التكييف والكراسي والمظهر العام ولكن أيضا من جهة إتاحة أجهزة الكومبيوتر على كل مكتب في القاعة. أما مشروع التحول الرقمي فاستطيع أن أقول بكل تأكيد ووضوح إن هذا المشروع يعد مشروعا قوميا بكل معاني الكلمة. لقد كانت لي الفرصة العام الماضي للتعاون مع الفريق الضخم العامل في هذا المشروع ووصلت لنتيجة مؤداها أن هذا المشروع الذي يطمح لفهرسة كل مقتنيات الدار التي قد يصل عددها إلى مائة مليون وثيقة وعمل قاعدة بيانات لها وإتاحتها لجمهور الباحثين سوف يحدث طفرة حقيقية في حقل الدراسات التاريخية وسوف يضع دار الوثائق القومية على خريطة البحث الأرشيفي ليس في منطقتنا فقط بل في العالم أجمع وسوف يؤدي إلى توافد الباحثين بأعداد كبيرة على الدار.

إن هذه المشروعات أبعد ما تكون عن الإهمال المتلِف الذي جاء في عنوان المقال. ولست أقصد بهذا الكلام أنه لا توجد سلبيات في دار الوثائق، ولكنها سلبيات أنا على يقين بأن المسئولين عن الدار لا يتوانون عن تداركها وإزالتها. ومن أهم تلك السلبيات هي تلك التي تطرقت إليها في أجاباتي عن أسئلة أحمد الهواري في تحقيقه الآخر المنشور في صدر الصفحة والذي جاء عنوانه هو الآخر منافيا لمحتوى التحقيق وفحواه، فالعنوان يقول “د. خال فهمي: يعتبرون الباحث حرامي محتملا أو مهملا أو واحد فاضي يقضي وقته بين الأوراق القديمة على حساب وقت مدير قاعة البحث”، والمشكلة في هذا العنوان

2

تكمن في كلمة “يعتبرون” التي توحي للقارئ أنني أقصد كل العاملين بالدار، في حين أنني أوضحت لأحمد الهواري بشكل دقيق )وهو نقل هذا بأمانة( أن ما أقصده هم العاملون بقاعة البحث. فقاعة البحث، في رأيي، هي أهم قاعة في أي مكتبة أو دار وثائق إذ بها يطلع الباحث – وهو المستخدم الرئيسي الذي أنشئت الدار أو المكتبة لخدمته – على مقتنيات الدار أو المكتبة، ومن الطبيعي أن يكون من ضمن المترددين على قاعة البحث، إن لم يكن كلهم، طلبة ماجستير ودكتوراه وأساتذة تاريخ من مصريين وأجانب، ومن الطبيعي أيضا أن يتوقع هؤلاء الباحثين أن يتلقوا مساعدة وعونا من العاملين بالقاعة. ومن الطبيعي أيضا أن يكون هؤلاء العاملون ملمين بطبيعة العمل الأكاديمي أو حتى متخصصين في التاريخ أو في علم الوثائق حتي يتسنى لهم الإجابة على استفسارات الباحثين وإرشادهم لمحتويات الدار، وبشكل عام، حتى يتمكنوا من تقديم خدمة رفيعة تليق بأهمية دار الوثائق القومية وما تحتويه من كنوز لا تقدر بمال. إلا أن الأمر عكس ذلك في قاعة البحث إذ أن العاملين بها تغلب عليهم العقلية الأمنية التي يتعاملون بها مع الباحثين والتي تجعلهم غير قادرين على الوقوف على الطبيعة الدقيقة للبحث التاريخي وللتنقيب في الوثائق.

ومرة أخرى أؤكد على أن طوال ترددي على دار الوثائق القومية لم أر نشاطا واهتماما وتطويرا قدر ما رأيته في السنوات الخمس الماضية، ومما لا شك فيه أن هذا التطوير سيكون له أبلغ الأثر على الباحثين المترددين على الدار وهو ما سينعكس بدوره على مستوى الكتابة التاريخية عن مصر وسيضع دار الوثائق في مصاف دور الوثائق الكبرى في العالم. تحفظي الوحيد والأساسي هو أن تتمكن العقلية الأمنية المهيمنة على قاعة البحث من التغلب على جهود الإصلاح تلك وتجهضها، وأن تتحطم المجهودات الكبيرة التي تبذل في المشروع القومي لفهرسة مقتنيات دار الوثائق على صخرة الأمن والروتين والبيروقراطية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.