نُشر في “أخبار الأدب” في ٣١ ديسمبر ٢٠١١
لدي سماعي بخبر اندلاع الحريق بمبني المجمع العلمي يوم السبت ١٧ ديسمبر لم أتردد في الذهاب هناك لأشاهد بنفسي تلك المأساة. كان المشهد مريعا بالفعل: ألهبة النيران تتصاعد من بعض أركان المبني المتهاوي. رائحة الدخان تحوم فوق المكان، ثقيلة خانقة. المتظاهرون يصدحون بالهتاف ضد النظام الذي لم يسقط وضد الشرطة والمجلس العسكري. رنين تليفوني لا ينقطع من أصدقاء عديدين يتساءلون عما يمكن عمله لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
في اليوم التالي ذهبت مرة أخري للمجمع، وهذه المرة دخلت المبني تحت وابل من الحجارة التي كان المتظاهرون ورجال الجيش يتقاذفونها علي بعضهم البعض. حاولت مع أصدقائي نقل ما يمكن نقله من كتب لخارج المبني الذي كنا نخشي أن ينهار علينا. ولكني وكاليوم السابق اندهشت من عدم اكتراثي بالمأساة، أو علي الأقل من عدم اكتراثي بما فيه الكفاية.
لم يمض وقت طويل حتي أدركت سبب تبلد شعوري. فلقد بدأت يوم السبت بذهابي لمشرحة زينهم مع أصدقائي تضامنا مع أسرة الشيخ عماد عفت وأسر ستة شهداء آخرين سقطوا في الليلة السابقة من طلقات نارية تدور شبهات حول مسئولية الجيش عنها. وفي المشرحة استمعنا لشهادات أسر الشهداء ونحيبهم الذي يدمي القلب. ثم ذهبنا مع جثمان الشيخ عماد لنصلي عليه في الأزهر، ومن هناك مشينا في جنازة مهيبة حتي مدفن الأسرة في الإمامين. وطوال الجنازة التي تحولت إلي مظاهرة لم ينقطع الهتاف ضد المجلس العسكري وأفعاله المشينة.
لذلك عندما وصلت في المساء للتحرير ورأيت حريق المجمع بعيني كانت هناك فكرة وحيدة تسيطر عليّ، وهي أننا شهدنا في ذلك اليوم ضياع ما هو أثمن بكثير من كتب المجمع العلمي، فأنا وإن كنت متخصصا في تاريخ مصر في القرن التاسع عشر ومدركا لأهمية الكتب التي تحترق أمام أعيني، إلا أنني أدرك أيضا أنه لا يوجد شيء أثمن من حياة الإنسان، وأن تساقط الشهداء يوما بعد يوم في ميادين التحرير لا يساويه حرق الكتب، مهما ندرت تلك الكتب وغلي ثمنها.
في الأيام التالية تحول عدم اكتراثي إلي غضب عميق من التغطية الإعلامية الدنيئة التي مارسها الإعلام الرسمي والتي أكدت مرارا أن “العيال البلطجية” هم المسئولون عن الحريق، بل أن هناك مخططا لحرق مصر بأكملها. أنا لم أشاهد لحظة اندلاع الحريق ولا يمكن لي أن أجزم عمن كان السبب فيه، ولكني رأيت بنفسي أعدادا كبيرة من الشباب الذين يحلو للمجلس العسكري وجوقة الإعلاميين التابعين له أن يصفونهم بالبلطجية رأيت هؤلاء “البلطجية” وهم يغامرون بدخول أتون الحريق لكي ينقذوا ما يمكن إنقاذه من كتب ويسلموها للشرطة العسكرية. فإن كانت هذه هي شيم البلطجية فأقول لهم: شكرا علي بطولاتكم وأخجلتمونا بشجاعتكم.
أما غضبي الحقيقي من الاهتمام المفاجئ بالمجمع العلمي فسببه عدم الوقوف علي المشكلة الحقيقية التي ينم عنها الحريق. إن المأساة الحقيقية في حريق المجمع العلمي لا تكمن في غياب إجراءات الأمن الصناعي في المبني، أو في تقاعس قوات الجيش عن تأمينه. المأساة الحقيقية تكمن في أن أحدا حتي من المتخصصين لم يعلم بوجود المجمع من أصله، وأن كل المتباكين علي فرادة محتوياته لم يكلفوا أنفسهم عناء الاطلاع علي تلك المحتويات أو قراءتها.
إن القيمة الحقيقية لأي كتاب لا تكمن في ندرته أو ارتفاع ثمنه، بل فيما يحتويه من معلومات. والفائدة الحقيقية لأي مكتبة لا تكمن في ضخامة عدد الكتب التي تحتويها أو تنوعها وفرادتها، بل في تردد الناس عليها والانكباب علي قراءة كتبها. أما المكتبة التي لا يرتادها أحد والتي يعلم عنها الناس فقط عندما تحترق فلا قيمة حقيقية لها. أما الأدهي والأمر هو التباكي علي المجمع العلمي واتهام أجمل شباب مصر بحرقه، بينما نغض الطرف عن النساء اللاتي يسحلن في الشورع، والأعين التي تستهدف في الميادين، والأرواح التي تزهق كل يوم.