Press "Enter" to skip to content

الدستور والشريعة والهوية

نُشر في “الشروق” في ٢١ اكتوبر ٢٠١٢

تأتى دعوة الحركات السلفية لتنظيم مليونية يوم ٢ نوفمبر تحت اسم «تطبيق الشريعة» لتأجج الصراع بين قوى سياسية واجتماعية مختلفة حول ماهية الشريعة وكيفية تطبيقها. هذا الصراع وإن بدا الآن مرتبطا بعملية كتابة دستور ما بعد الثورة وبما احتوته مسودة هذا الدستور من مواد تتعلق بالشريعة إلا أن هذا الصراع، وكما هو معروف، صراع قديم يعود لأكثر من قرن من الزمان ويرتبط بما اصطلح على تسميته «النهضة المصرية الحديثة» وبما صاحبها من مواجهة مع الغرب، وبناء لمؤسسات الدولة الحديثة، وتحديث للنظام القانونى بشقيه التشريعى والقضائى.

المواد المتعلقة بالشريعة فى مسودة الدستور أثارت خلافا بين القوى المدنية وتلك الإسلامية، فالقوى المدنية أزعجتها مواد كثيرة من بينها المادة ٦٨ التى نصت على أن «تلتزم الدولة باتخاذ كافة التدابیر التى ترسخ مساواة المرأة مع الرجل»، ولكنها أضافت فقرة تقول «دون إخلال بأحكام الشریعة الإسلامیة»؛ والمواد من ٩ إلى ١١ التى افترضت وجود «طابع أصيل للأسرة المصرية»، والتى بالتالى يجب على الدولة الالتزام بـ«حماية تقاليدها»، و«بحماية الأخلاق»، و«التقاليد المصرية الأصيلة»، كما اعترضت القوى المدنية على نص مادة حرية الاعتقاد (٣٧) التى قصرت حق إقامة دور العبادة على أتباع الديانات السماوية دون غيرها من الديانات.

 واللافت للنظر أن المواد المتعلقة بالشريعة أثارت خلافا ليس فقط بين القوى الإسلامية والقوى المدنية بل فيما بين القوى الإسلامية ذاتها. ففى حين رحب الإخوان المسلمون بهذه النصوص، إلا أن السلفيين اعترضوا عليها بشدة وتحديدا على إضافة كلمة «مبادئ» لنص المادة الثانية، وهددوا الإخوان قائلين، على لسان الشيخ محمود عبدالحميد، عضو مجلس إدارة الدعوة السلفية، «إننا نسعى فقط لتطبيق الشريعة، وإذا لم يأت الدستور بما يوافق الشريعة فإننا سنفضح كل التيارات الإسلامية وغير الإسلامية التى وقفت ضدنا فى معركة الشريعة فى التأسيسية، وسنوضح للناس عوار من قال انتخبونا من أجل تطبيق الشريعة وهم لا يريدون تطبيقها».

من جانبها، قالت الجماعة الإسلامية على لسان المتحدث باسمها، طارق الزمر، إنها لن تعترض على النص الحالى للمادة الثانية الشهيرة إذ إنها ترى أن الأولوية هى بناء نظام سياسى جديد وتطهير المؤسسات وتحقيق العدالة الاجتماعية «التى هى من أهم أولويات الشريعة». أما جماعة أهل السنة والجماعة فقد اتهمت «التيار الإسلامى الظاهر سياسيا اليوم (أى الإخوان المسلمين) بالتقصير لافتقاده الخطاب الدعوى وبعده عن التأصيل العقدى فى هذا الجانب حتى تنحاز الأمة إلى شريعة الله تعالى من منطلق عقدى، منطلق التوحيد».

ولكن وبغض النظر عن هذا الخلاف الإسلامى ــ الإسلامى يبقى الخلاف بين الإسلاميين والقوى المدنية على موضع الشريعة من الدستور أهم وأعمق. فالقوى المدنية لديها تخوف من الإحالة للشريعة اعتقادا منها أنها ليست بالوضوح الذى يفترضه الإسلاميون، وأن الكثير مما يعتقد الإسلاميون أنها نصوص شرعية قطعية الدلالة لا لبس فيها هى فى حقيقتها نصوص تحتاج لاجتهاد فقهى حتى تتضح دلالاتها ويظهر معناها، وإذا كان الأمر كذلك وإذا احتاجت «الشريعة» لشرح واجتهاد، فكيف نحتكم لها فى الدستور الذى يفترض أن يكون المرجع الأخير لتفسير القوانين والتشريعات؟

وإضافة إلى هذا الاختلاف بين القوى المدنية والقوى الإسلامية فى معنى الشريعة وكيفية التعامل معها، يبدو لى أن الصراع بين تلك القوى فى معركة التأسيسية يرجع أيضا للاختلاف بينهما فى فهمهما للدستور نفسه. فبينما تراه القوى المدنية نصا تقوم وظيفته الأساسية على حماية الفرد وتحديد سلطة الدولة، يرى الإسلاميون فيه نصا يجب أن يعبر عن هوية «الجماعة الوطنية» ويصون حقوق الأمة.

موقف الإسلاميين من الشريعة إذن لا يتعلق بالقوانين والتشريعات أو بالحقوق والواجبات بقدر ما يتعلق بسؤال الهوية. فالشريعة فى نظرهم هى الوعاء الأمثل الذى يجب أن يحفظ الأمة، وهى التعبير الأبلغ عن هويتها الثقافية والحضارية. وهذا الموقف بدوره، أى النظر للشريعة على أنها تجسيد لهوية الأمة، له تاريخ. وهو، إضافة، موقف نابع من رؤية لموقف النخبة المصرية، السياسية والدينية، أراها أنا قاصرة، إذ إنى اعتبرها مخلة وغير دقيقة تاريخيا.

عبد القادر عودة

 يلفت النظر أن من أهم من درس علاقة الأنظمة القانونية المصرية الحديثة بالشريعة قاضيين تدربا وعملا فى النظام القانونى المصرى الحديث. أما أولهما فهو عبدالقادر عودة الذى أعدمه نظام عبدالناصر ظلما عام ١٩٥٤. عودة تخرج من كلية الحقوق فى جامعة فؤاد الأول عام ١٩٣٠ ثم تقلد مناصب قضائية عديدة إلى أن أصبح قاضيا أمام المحاكم الأهلية. وكان قد انضم لجماعة الإخوان وتقلد مناصب قيادية مهمة فيها، الأمر الذى دفعه فى النهاية إلى أن يستقيل من عمله كقاض عام ١٩٤٩ ويتفرغ للعمل الدعوى.

فى كتابه المهم «التشريع الجنائى الإسلامى مقارنا بالقانون الوضعى» يقول عودة إنه طالما تمسك المسلمون بالشريعة كانت كلمتهم العليا «لا صوت إلا صوتهم ولا كلمة تعلو كلمتهم… ولكن بعد أن تركوها وأهملوا أحكامها تركهم الرقى وأخطأهم التقدم… فقد خيّل للمسلمين.. أن تقدم الأوروبيين راجع لقوانينهم وأنظمتهم، فذهبوا ينقلونها وينسجون على منوالها، فلم تزدهم إلا ضلالا على ضلالهم، وخبالا على خبالهم».

هذه كلمات قوية وأحكام قاسية، وأثبتت الأيام أنها أثرت فى أجيال وأجيال من الإسلاميين. على أن عودة لم يوضح بالظبط من هؤلاء المسلمون الذين انبهروا بالغرب ونقلوا عنه، ولم يقل لنا متى وكيف تم نقل الأنظمة القانونية الأوروبية لمصر. وكدارس لتاريخ القانون المصرى الحديث لا أرى أن كلمات عودة دقيقة تاريخيا، فالجيل الأول من رجال القانون والقضاء المصرى الحديث، ابتداء من قدرى باشا وانتهاء بالسنهورى باشا، كانوا، فى رأيى، متمسكين بشريعتهم واثقين من أنفسهم، وكان هذا التمسك وتلك الثقة هما اللذان أنتجا هذا الصرح القضائى العظيم الذى اعتبره، بحق، من أهم إنجازات المصريين فى العصر الحديث.

المستشار طارق البشري

أما القاضى الثانى الذى كان له دور بالغ الأثر فى ترسيخ النظرة الهوياتية للشريعة فهو المستشار طارق البشرى. فى مقال بعنوان «رحلة التجديد فى التشريع الإسلامى» نُشر لأول مرة عام ١٩٧٩ وأعيد طبعه عدة مرات يختلف البشرى مع السنهورى فى الحكم على المحاكم الأهلية التى افتتحت عام ١٨٨٣ والتى تعتبر بداية القضاء المصرى الحديث، فبينما نظر لها السنهورى على أنها سجلت «مرحلة تقدم واسعة.. وقضت على كثير من مساوئ الماضى»، اعتبرها البشرى أهم خطر على الشريعة إذ أن بها «تلقى تطبيق الشريعة الإسلامية أعنف ضربة وجهت إليه».

وبحسه التاريخى، يضيف البشرى ما لم يشرحه عودة، أى محاولة تحديد المسئول عن هذه الانعطافة الحادة من الشريعة الإسلامية إلى القوانين الغربية، فينقل عن رشيد رضا رواية شهيرة تقول إن أهل الأزهر رفضوا تلبية دعوة الخديوى اسماعيل لتقنين الشريعة، أى ترتيب مسائلها فى كتاب على نحو ترتيب كتب القوانين الأوروبية. ولا يسع قارئ هذه الكلمات القاسية سوى موافقة البشرى فى حكمه على أهل الأزهر أنهم بتقاعسهم عن تأدية رسالتهم التاريخية والحضارية كانوا «السبب فى إنشاء المحاكم الأهلية واعتماد الحكومة فيها على قوانين فرنسا». على أن البشرى لا يعرض لإمكانية أن يكون رفض علماء الأزهر تلبية دعوة اسماعيل مرده خوفهم على الشريعة من التقنين، إذ إن التقنين بطبيعته يهدد تنوع الفقه ويقضى على تعدده، وهو نفس الموقف الحذر من التقنين الذى اتخذه راشد الغنوشى، زعيم حركة النهضة التونسية مؤخرا.

إن اختزال الشريعة فى سؤال الهوية فيه إجحاف لغنى هذا النظام القانونى والمعرفى وتشويه لتاريخه. وفى الأسابيع القادمة سأحاول عرض خطورة هذا الموقف الهوياتى للشريعة ومجافاته للنظرة التاريخية الواعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.