نُشر في “الشروق” في ٨ مارس ٢٠١٣
فى الأسبوع الماضى كنت مدعوا لحضور مؤتمر أكاديمى هام فى دبى بالإمارات العربية المتحدة، وكنت متحمسا للذهاب والمشاركة ببحث كنت قد أعددته بالفعل عن أهم المشاكل التى يواجهها التعليم الجامعى فى العالم العربى، ولكن وقبل أيام قليلة من بداية هذا المؤتمر أصدرت حكومة الإمارات قرارا بمنع أحد الأساتذة الأجانب المشاركين فى مؤتمر أكاديمى آخر من دخول البلاد، فما كان من منظمى مؤتمرنا إلا أن اعتبروا هذا القرار تعديا خطيرا على مبدأ الحرية الأكاديمية وقرروا فى النهاية إلغاء المؤتمر، وهو موقف ارتحت أنا وبعض زملائى إليه إذ رأينا أننا بذهابنا لدبى سنكون قد أعطينا موافقتنا، ضمنا، على سياسات حكومة الإمارات التى تنتهك حرية الرأى والحرية الأكاديمية.
•••
لم يكن المؤتمر الذى كنت مدعوا لحضوره مؤتمرا أكاديميا بالمعنى المعروف ولكنه كان مناسبة لتدشين مجلة جديدة بعنوان «الفنار» معنية بأمور التعليم العالى فى العالم العربى. هذه المجلة تطلقها مؤسسة خيرية مقرها لندن تعرف باسم «وقف الإسكندرية» ومؤسسها هو صلاح خليل، وهو رجل أعمال مصرى مقيم ببريطانيا تسعى مؤسسته الخيرية، وقف الإسكندرية، إلى «النهوض بالتعليم فى المنطقة العربية ليصل مرة أخرى إلى مستويات عالمية، مستندا فى ذلك على إحياء إرث الإسكندرية العريق كمركز للعلم»، وذلك حسب موقع الوقف على الإنترنت. أما المجلة الجديدة، «الفنار» فتسعى لتغطية أخبار التعليم العالى فى العالم العربى ولربط الجامعات العربية بعضها ببعض بالإضافة إلى احتضان جيل جديد من الصحفيين المعنيين بأمور التعليم. وقد نجح صلاح خليل فى جذب واحد من أهم الصحفيين العالميين فى هذا المجال، ديفيد ويلر، ليرأس تحرير المجلة الجديدة، وكان ويلر قبل ذلك ولمدة خمسة عشر عاما رئيس تحرير صحيفة «كرونيكل أوف هاير إديوكاشن» الأمريكية وهى من أهم المجلات المتخصصة فى هذا المجال.
•••
عندما تلقيت دعوة حضور هذه المناسبة، لم أتردد طويلا فى قبولها، فهى مناسبة فريدة يقوم فيها رجل أعمال مصرى بإطلاق مشروع رائد وجاد جرى الإعداد له بدقة وهدوء ويسعى به لهدف نبيل ألا وهو الارتقاء بمستوى التعليم الجامعى فى العالم العربى. وقد اعتقدت أن المنظمين قد وفقوا فى اختيار دبى كمدينة تُدشن منها هذه المجلة الجديدة، فبالإضافة إلى كونها مدينة عربية، فإن دبى، مثل غيرها من مدن الإمارات العربية المتحدة، تسعى منذ فترة طويلة لأن تكون مركزا ثقافيا وتعليميا متميزا، واجتهدت بشكل لافت فى بناء الجامعات والمتاحف العالمية.
واستعدادا منى لحضور هذه المناسبة الواعدة قمت بكتابة بحث قصير عما أرى أنه المشكلة الأساسية التى تواجه الجامعات العربية، وهى مشكلة كنت قد كتبت عنها هنا من قبل، وهى الولع بالتخصص، وأعنى بذلك الاعتقاد الخاطئ بأن أحسن وسيلة لتدريب الطالب الجامعى هى تعميق معرفته بمادة تخصصه وليس توسيع معرفته بالعلوم الأخرى والعمل على إلمامه بمبادئ وأصول التخصصات الأخرى. فالجامعات العربية تهتم أساسا بتعميق المعارف لا بتوسيعها، ولا تكترث بالمزاوجة بين تلقين العلوم وبين غرز قيم الفضول الفكرى، والتفكير النقدى، والإبداع، والشجاعة الأخلاقية والمسئولية لدى الطلاب.
•••
ولكن قبل يومين اثنين من بداية مؤتمرنا الصغير وصلتنى أنباء بأن الإمارات قد منعت أستاذا جامعيا من دخول البلاد ومن إلقاء بحث فى مؤتمر أكاديمى آخر. فقد حدث أن الجامعة الأمريكية بالشارقة، وهى إحدى الجامعات الجديدة التى سعت حكومة الإمارات لبنائها، قد نظمت مؤتمرا علميا بعنوان «الشرق الأوسط الجديد: التحولات فى العالم العربى» بالاشتراك مع كلية لندن للاقتصاد، وهى من أهم جامعات بريطانيا قاطبة، وكان من ضمن المدعوين لإلقاء ورقة فى هذا المؤتمر الدكتور كريستيان أولريخسن من كلية لندن للاقتصاد والمتخصص فى الشأن البحرينى. ولكن عند وصول الدكتور أولريخسن لمطار دبى جرى التحقيق معه ثم أُخبر أنه ممنوع من دخول البلاد وعليه العودة مرة أخرى للندن على حسابه الخاص. وقد أصدرت حكومة الإمارات توضيحا قالت فيه إن «الدكتور أولريخسن نشر مرارا البحرين بنشر آراء غير بناءة عن الأوضاع فى مملكة البحرين من داخل دولة أخرى من دول مجلس التعاون الخليجى». وكان من نتيجة هذا القرار أن ألغت الجامعة الأمريكية فى الشارقة مؤتمرها، كما قرر منظمو مؤتمرنا أن يلغوا مناسبة تدشين «الفنار» من دبى بعد مشاورات مع المشاركين وبعد أن أبديت أنا، مع أحد زملائى، معتز عطا الله، مسئول الحق فى التعليم فى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، عدم استحساننا لفكرة الذهاب لدبى إذا كانت حكومة الإمارات لا تتردد فى التدخل السافر فى شئون الجامعات المقامة على أراضيها. وقد أحسن المنظمون صنعا بإلغاء تدشين «الفنار» من دبى، إذ لا معنى لتدشين مجلة معنية بالتعليم العالى فى العالم العربى من دولة لا تكترث بمبدأ الحرية الأكاديمية.
•••
بمناسبة 9 مارس وهو عيد استقلال الجامعة عندنا فى مصر، يجب علينا التنبه لمخاطر انتهاك الحرية الأكاديمية بدعوى الحفاظ على الأمن القومى، وهى دعوى تعانى منها الجامعات المصرية قبل الجامعات الإماراتية، وبشكل قد يكون أكثر فجاجة مما حدث فى مؤتمر الجامعة الأمريكية بالشارقة. على أن هناك بعدا خاصا فى الشأن الجامعى الإماراتى والخليجى بشكل عام يجب الانتباه له، وهو ذلك التكالب على استقطاب كبريات الجامعات الأمريكية والأوروبية لفتح فروع لها فى الخليج.
أنا لست ضد استخدام الجامعات كوسيلة لبناء «القوة الناعمة» لدول الخليج، فالاستثمار فى التعليم، فى نهاية المطاف، خير من بناء ترسانة أسلحة. على أن السؤال يبقى: ما هو المقصود من هذه الاستثمارات التعليمية الضخمة؟ وهل من الأفضل توجيهها لدعم الجامعات الوطنية المقامة بالفعل، أم لاجتذاب هذه الجامعات الأجنبية للعمل فى الخليج؟ وفى النهاية، من المستفيد الحقيقى من هذه الجامعات؟ إن نظرة سريعة للتركيبة الطلابية للكثير من هذه الجامعات الأجنبية توضح أن الـ«بدون» والعمال الأجانب محرومون من دخولها، وأن المستفيد الحقيقى من المنح الهائلة التى تتيحها تلك الجامعات، بدعم سخى من الحكومات الخليجية، هم طلاب من «العالم»، أى من أماكن مثل روسيا وأستراليا وآسيا وأوروبا والأمريكتين. وتركز بعض الجامعات على اجتذاب أحسن الطلاب من «العالم» لتلقينهم أحسن العلوم على أيدى أمهر الأساتذة المجتذبين بدورهم من «العالم» وذلك لبناء «المواطن العالمى». كل ذلك جميل ورائع، ولكن ماذا عن السياق المحلى والإقليمى؟ هل يحق لهذه الجامعات أن تناقش المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى تعانى منها دول الخليج؟ أم أن ثمن هذه الاستثمارات الضخمة التى توفرها حكومات الخليج لهذه الجامعات هو أن تنأى هذه الجامعات بنفسها عن «المحلى» وتهتم فقط بـ«العالمى»؟
تلك بعض الأسئلة التى يطرحها قرار حكومة الإمارات بمنع دخول الدكتور أولريخسن بسبب آرائه عن «النظام الملكى فى البحرين». ويبدو من هذا القرار أن المقصود أن يكون وجود هذه الجامعات الأجنبية على أراضى الإمارات وجودا عرضيا لا علاقة له بالسياق المحلى أو الإقليمى، وهو الأمر الذى يفرغ هذه الجامعات من محتواها ويقوض رسالتها الاجتماعية والتعليمية معا.