الحملة المستعرة الآن ضد الأطباء والتي يمثلها استدعاء مني مينا للنيابة والحكم على محمد فتوح بالسجن سنة مع النفاذ يجب أن توضع في السياق العام، سياق يوضح سعي الدولة لقتل الحراك المجتمعي بكافة أشكاله وتسخير كل طوائف المجتمع وقواه لخدمة الدولة وأجهزتها.
ففي أعقاب توجيه ضربات موجعة لجماعة الإخوان وللإسلام السياسي بشكل عام في ٢٠١٣ و٢٠١٤ وجهت الدولة جل اهتمامها للقضاء على الحركة الحقوقية وجمعيات حقوق الإنسان طوال ٢٠١٥ و٢٠١٦، فبعد أن استهدفت رموز الحركة وأنشط قياداتها بتلفيق التهم ضدهم وتحريك الدعاوى الكيدية ومنع بعضهم من السفر دون سند قانوني، توجت جهودها اليوم بإصدار قانون الجمعيات الذي يبغي ليس فقط القضاء على المجتمع المدني تماما بل أيضا شل يد وزارة التضامن وإخضاع جمعيات المجتمع المدني لرقابة الأجهزة المسماة بالسيادية (وأرى أن تقدم الوزيرة غادة والي استقالتها حفاظا على ماء الوجه بعد أن اتضح أن مجلس النواب المسيطرة عليه الأجهزة المسماة بالسيادية أصدر القانون
دون عرضه على الوزيرة أو استشارتها فيه).
أما وقد اعتقدت الدولة أنها قضت على الإسلاميين والحقوقيين فقد عقدت العزم على أن تدور على النقابيين وتقمع أي حركة نقابية تدافع عن استقلال النقابات وتعلي من شأن المهنيين. فما الذي قامت به منى مينا ومحمد فتوح سوى المطالبة بحق المواطنين في علاج مشرف وناجع والدفاع عن الأطباء إزاء ما يتعرضون له من مهانة وخطر؟
منى مينا صاحبة سجل طويل ومشرف من العمل النقابي النبيل، لا يهمها مال ولا تسعى لشهرة. تصدت للإخوان بشراسة عندما كانوا يتحكمون في نقابة الأطباء دون اهتمام منهم لجموع المواطنين ولحقهم في العلاج. كما تصدت بشراسة لأجهزة الدولة عندما اعتدى أمناء الشرطة على أطباء مستشفى المطرية في يناير الماضي وطالبت بمحاسبة المعتدين. وفي الأزمة الأخيرة لفتت النظر للمشاكل الجوهرية التي تعتري قطاع الصحة بأكمله، من إنعدام مظلة تأمين صحي، لتدهور حال المستشفيات، لضعف التعليم الطبي، لنقص الدواء مثل أدوية الأنسولين والسرطان والضغط والدم. وبما أن منى مينا ضغطت على وتر حساس لجموع عريضة من المواطنين وعبرت بقوة وصلابة عن معاناتهم قررت الدولة بأبواقها الإعلامية أن تشن حملة شعواء عليها وتحويل النظر عن القضايا الجوهرية التي كانت ثيرها والتركيز على نقطة السرنجات.
أما محمد فتوح فهو يواجه الآن حكما بالحبس سنة مع النفاذ لأنه انتصر لشرف مهنته وطالب النقابة بمحاسبة الأطباء المتورطين في فضيحة جهار الكفتة الذي وقف وراءه الجيش بقياداته العليا. محمد فتوح لم يرفع دعوى حسبة ولم يقدم اتهاما للنيابة، بل اكتفى بحث النقابة أن تحرك ساكنا. محمد فتوح رأى، وبحق، أن فضيحة جهاز الكفتة ليست زلة أو هفوة بل خطأ مهني فادح قام به أعضاء في نقابة الأطباء. أما الخطأ فهو الاشتراك مع الجيش في بيع وهم وجود علاج سحري ورخيص لملايين المصريين المصابين بمرضي نقص المناعة وبفيروس سي، الأمر الذي حدا ببعضهم أن يوقف علاجه السليم في انتظار العلاج الوهمي الذى أعلنه اللواء عبد العاطي كفتة، وهو ما أدى إلى وفاة بعض هؤلاء المرضى. (الأمر مش نكتة يعني.) محمد فتوح اعتبر، وبحق، أن المسألة مسألة حياة وموت، فلم تهن عليه مهنته ولم تهن عليه نقابته، وطالب النقابة بمحاسبة الأطباء الذين تورطوا في هذه الفضيحة. وبدلا عن أن يرى مجلس النقابة يحاسب هؤلاء المحتالين نظير ما قاموا به من تشويه لسمعة الطب في مصر وجد نفسه متهما بالسب والقذف ومحكوما عليه بسنة سجن مع النفاذ.
ولكن وكما قلت، مشكلة الدولة مع منى مينا ومحمد فتوح ليست مشكلة شخصية. صحيح أن الأجهزة المسماة بالسيادية ترى فيهما شجاعة وعزة نفس خطيرتين، لكن الموضوع مؤسسي وهيكلي في المقام الأخير. منى مينا ومحمد فتوح يمثلان اتجاها ترى الدولة بأجهزتها أنه يمثل خطرا وجوديا عليها، أي احترام الذات والاستعداد للدفاع عن شرف المهنة واستقلال النقابة. وبالتالي فالعمل النقابي برمته هو الذي على المحك.
وإذا أضفنا لما سبق هجوم الدولة على نقابة الصحافيين وإصرارها على حبس أحمد ناجي وغيره من الكتاب لاتضحت لنا الصورة كاملة : هذا نظام فاشي بمعنى الكلمة. نظام يدعى، زورا وبهتانا، إنه يواجه الإرهاب ويقضى على نشطاء يناير ويعيد الأمن والاستقرار، ولكنه، في الحقيقة، نظام يبغي القضاء على المجتمع بحراكه ونشاطه وإبداعاته وآماله. نظام يرى في الإسلاميين المدافعين عن حقوقهم، وفي منظمات المجتمع المدني المنتصرة للضعفاء والمهمشين، وفي النقابات التي تتمسك باستقلاليتها حتى تقدم خدماتها لجموع المواطنين، وفي الصحافيين الذين يتشبثون بمهنيتهم وبرسالتهم في توصيل معلومات دقيقة وصحيحة للقراء، وفي الكتاب والفنانين الذين يستلهمون خيالهم ومبادئهم – يرى في كل هؤلاء خطرا وجوديا عليه، لذا يعمل جاهدا على القضاء عليهم.
معركة منى مينا ومحمد فتوح معركة حياة أو موت، حياتنا كلنا، أو موتنا كلنا.