نُشر في “الشروق” في ١٣ سبتمبر ٢٠١٣
كان صوت الانفجارين عنيفا زلزل المدينة بأكملها. رائحة الدخان تزكم الأنوف، وأصوات عربات الإسعاف والشرطة والمطافئ تصم الآذان. الناس نظراتهم شاردة، غير مصدقين الأحداث المأساوية التى تشهدها مدينتهم. السائقون توقفوا فى منتصف الشوارع وفتحوا أبواب سياراتهم لكى يتمكن المارة من الاستماع لآخر أخبار الراديو.
فى اليوم التالى نزلت أتفقد الشوارع، وإذ بها خالية مقفرة. المطارات توقفت عن العمل، والقطارات كذلك. كما أغلقت الجسور أمام حركة السيارات. شوارع مانهاتن التى تعج عادة بالسيارات والحافلات أصبحت ملاعب لكرة السلة وللعدائين ولراكبى الدراجات.
ثم رأيت الجرافيتى على الجدران. فى تقاطع فيفث أفينيو مع شارع رقم 8 قرأت: «تبا للفلسطينيين»، وقد شطبت كلمة «الفلسطينيين» وكتب تحتها «العرب»، لتشطب هذه الكلمة هى الأخرى وليكتب تحتها «المسلمين».
•••
فى الأسابيع والشهور التالية اشتركت مع زملائى فى قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة نيويورك حيث كنت أعمل فى تنظيم محاضرات وندوات لشرح الخلفية التاريخية والسياسية لتلك الهجمات الإرهابية. على أن أجواء «الحرب على الإرهاب» التى أعلنها الرئيس بوش لم تكن تسمح بأى خطاب عقلانى، فأى حديث عن «أسباب» أو «خلفية» هذه الهجمات كان ينظر له على أنه تبرير لـ«الإرهاب» ودعم له. (لا أتذكر أن مصطلح «الطابور الخامس» كان مستخدما وقتها). وحتى القلائل منا الذين نجحوا فى الظهور على التليفزيون لتقديم رؤية معقدة بعض الشىء عما يحدث جرى استبعادهم واستبدالهم بـ«خبراء استراتيجيين» متخصصين فى «الإرهاب الإسلامى» أخذوا يطعموا حججهم الواهية باقتباسات من كتاب سرعان ما أن احتل صدارة قائمة الكتب الأكثر مبيعا فى الولايات المتحدة: القرآن الكريم.
على أن أكثر ما يعلق بذهنى من ذكرى هذه الأيام التعيسة هى تلك المشاهد التى كان التليفزيون يبثها عن جلسات الكونجرس وهو يناقش قانون مكافحة الإرهاب. فى هذه الجلسات شاهدت ما لم أكن أتوقع مشاهدته. نواب ديمقراطيون، عتاة فى توجهاتهم الليبرالية والتقدمية، يكنون عداءً عميقا لبوش ولحزبه الجمهورى، يقدمون التنازل تلو الآخر عن مكتبسات وانتصارات حقوقية كافح المجتمع الأمريكى لتحقيقها على مدار عقود طويلة. لم تطلب الـ«سى أى إيه» هذه التنازلات، ولم تتقدم بها غيرها من الجهات الأمنية، ولكن قدمها نواب الشعب طواعية للدولة بجهاتها الأمنية المتعددة (لا يوجد فى الخطاب السياسى الأمريكى مصطلح مرادف لمصطلح «الجهات السيادية» العبقرى).
•••
المبادئ الدستورية انتهكت، والحقوق القانونية علقت، وساد خطاب جديد، طاغ، لم يتح الفرصة لأى صوت آخر أن يعلو عليه. لم يكن الخطاب الجديد خطاب أمن، أو خطاب قوة، أو خطاب نصر. كان خطاب خوف. الخوف كان سيد الموقف. الخوف من «القاعدة»، الخوف من «الإرهاب»، الخوف من «الإسلام». وأمام مشاعر الخوف والجزع التى أججتها وسائل الإعلام ضاع العقل وانهارت القدرة على التفكير.
والنتيجة كانت حربين طويلتين باهظتى التكاليف على بلدين بعيدين تم تدميرهما بالكامل، وحربا عالمية على «الإرهاب» مازالت رحاها تدور حتى الآن دون هدف واضح أو نهاية محددة. الولايات المتحدة تدعى أنها انتصرت فى حروبها تلك، فالديمقراطية حلت بالعراق، والاستقرار عاد لأفغانستان، أما تنظيم القاعدة فقد تكبد خسائر جسيمة، بعد تجفيف مصادر تمويله، ودك معسكرات تدريبه، وحبس أعضائه فى جوانتانامو، وقتل زعيمه وإلقاء جثته فى البحر.
ولكن بأى تكلفة جاء هذا «الانتصار»؟ لا أقصد بـ«التكلفة» أرواح العراقيين أو الأفغانيين أو «الإرهابيين»، فهؤلاء لا قيمة لهم فى عرف المنتصر، ولا أقصد آلاف المليارات من الدولارات التى أنفقت على هذه الحروب اللانهائية. بل أقصد التكلفة الأخلاقية والقانونية التى يتكبدها المنتصر. كل يوم يصحو الأمريكيون على اكتشاف الثمن الباهظ الذى دفعوه للـ»قضاء على الإرهاب». فالدستور الأمريكى، الذى يتباهون به، عن حق وجدارة، جرى تنحيته جانبا بدعوى استثنائية اللحظة، والمحاكم الأمريكية التى يتباهى بها أيضا الأمريكيون اعترف ضمنا بعدم قدرتها على التعامل مع «الإرهاب»، والتعذيب أمسى غير قاصر على دول العالم الثالث المتخلفة بل يمارس بشكل منهجى بمباركة من رأس الدولة نفسه، ومعسكر جوانتانامو بانتهاكاته أصبح رمزا للنظام القانونى الأمريكى، والمواطن الأمريكى لم يعد متأكدا من أن مراسلاته ومحادثاته أو حتى الكتب التى يستعيرها من المكتبات فى منأى عن رقابة الدولة وتحكمها.
•••
ما يحزننى حقا فى استرجاع تلك الأيام السوداء التى تحل ذكراها الثانية عشرة اليوم والتى يبدو أننا نستلهمها فى مصر الآن هى محاولاتنا وقتها، أنا وزملائى المتخصصين فى تاريخ منطقتنا، التذكير بتجربتنا فى مصر فى مواجهة «الإرهاب» فى تسعينيات القرن الماضى والاتعاظ بها، والقول إن مشكلة الحلول الأمنية، فى مصر كما فى الولايات المتحدة، ليست أنها غير ناجعة بل أن تكلفتها الأخلاقية والقانونية باهظة، والتساؤل عما إذا كنا فى حاجة لقانون طوارئ أو لإجراءات استثنائية لمواجهة هذا الخطر أم أن الدستور وترسانة القوانين الموجودة بالفعل كافية لحمايتنا.
ترى لو كان خطاب القانون والحقوق انتصر على خطاب الخوف، ليس فى بلدنا فقط، بل فى العالم بأسره، هل كان يمكننا تحقيق الأمن ومواجهة خطر الإرهاب مع الاحتفاظ، فى نفس الوقت، بإنسانيتنا؟