نُشر في “الشروق” في ١٧ مايو ٢٠١٣
فجأة وفى أسبوع واحد انبرى ثلاث من أكبر الحركات الإسلامية تتحدث عن العدالة الانتقالية وتطالب بتطبيقها فورا. فهشام كمال، المتحدث باسم الجبهة السلفية، أكد أنه «كان يجب محاكمة مبارك منذ البداية على كل جرائمه وليس فقط قتل المتظاهرين». أما أسامة رشدى، المستشار السياسى لحزب البناء والتنمية وعضو المجلس القومى لحقوق الإنسان، فقد قال إن المجلس قد بدأ فى تشكيل لجنة خاصة بالعدالة الانتقالية. أما سعد عمارة، عضو الهيئة البرلمانية لحزب الحرية والعدالة، فقد قال إن «التعذيب لا يسقط بالتقادم، وأنه لا يمكن قصر المحاسبة على النظام السابق وحده، دون سابقيه، حتى ولو غادروا الحياة».
●●●
ما سر اهتمام الإسلاميين المفاجئ بموضوع العدالة الانتقالية؟ فمنذ اندلاع الثورة والقوى المدنية تطالب بضرورة فتح ملفات الماضى، وجمعيات حقوق الإنسان تعقد الكثير من الندوات تطالب بالاهتمام بهذا الملف الشائك، وتذكرنا بأنه يجب ألا نحصر اهتمامنا فى قضايا قتل المتظاهرين، على أهميتها، وفى معرفة ما حدث أثناء الثمانية عشر يوما من الثورة فقط، وتعيد نشر الإحصاءات التى تؤكد أن هناك المئات من حالات الوفاة المؤكدة التى وقعت فى أقسام الشرطة أثناء حكم مبارك. كما كُتبت المقالات العديدة التى حاولت أن توضح مفهوم العدالة الانتقالية وتقترح نماذج مختلفة لمجتمعات مرت بمراحل انتقال من الديكتاتورية للديمقراطية وتستلهم تجارب جنوب أفريقيا والمغرب ودول أوروبا الشرقية وغيرها. وألقيت المحاضرات وعقدت المؤتمرات لمناقشة أهداف العدالة الانتقالية التى تتراوح بين وقف الاعتداءات الممنهجة على حقوق الإنسان والتحقيق فى جرائم الماضى وتحديد المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان وتقديمهم للمحاكمة وإعادة هيكلة القطاع الأمنى وتقديم تعويضات للضحايا وتحقيق قدر من الوئام المجتمعى لكى يستطيع المجتمع أن يطوى صفحة الماضى ويتطلع للمستقبل.
وأثناء كل هذا الزخم الحقوقى كان الإسلاميون غائبين تماما وانصب اهتمامهم أثناء المعارك السياسية العديدة على موضوع الهوية وهو الأمر الذى انعكس فى الدستور إذ خلى ذلك النص المحورى من أى ذكر لموضوع العدالة الانتقالية اللهم إلا بعض العبارات الإنشائية فى الديباجة والمادة ٢٣٢ التى منعت قيادات الحزب الوطنى المنحل من ممارسة العمل السياسى. كما أوضح السلفيون خاصة أن إعداد قانون جديد للحسبة أهم لديهم من الانشغال بقضايا التعذيب التى وقعت فى العهد البائد، وبدا أن ما يشغلهم ليس وقف التعذيب أو محاكمة المتسببين فيه بل «غياب الشهامة من المجتمع المصرى»، كما صرح بذلك ياسر برهامى، نائب رئيس الدعوة السلفية، فى حديثه الشهير للشروق يوم ٢٧ ديسمبر ٢٠١٢.
●●●
كيف إذن نفسر تلك الصحوة الحقوقية التى أفاق عليها الإسلاميون فجأة؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال فى ظل تعدد الحركات والأحزاب الإسلامية وفى ظل الضبابية التى يغلف بها الإخوان سياساتهم وأفعالهم. ولكن يبدو أن القلق من إمكانية الإفراج عن الرئيس المخلوع هو ما يفسر ذلك الاهتمام المفاجئ بجرائمه السابقة، فكما قال أسامة رشدى من الجماعة الإسلامية «ليس عدلا أن يحاسب مبارك على الدقائق الأخيرة من حكمه ولا يحاسب على كل جرائمه التى قام بها منذ عام ١٩٨١ خاصة قضايا التعذيب الذى مورس على الكثيرين من الشباب الإسلامى». فكأن الإسلاميين فى قلقهم من إمكانية أن يأمر القضاء (الذى يرتابون فيه ويتشككون) بإطلاق سراح مبارك يقولون إن تكييف محاكمته كان خطأ من الأساس لأن التهم التى وجهت له اقتصرت على أفعاله أثناء الثمانية عشر يوما وخلت من جرائمه طوال سنوات حكمه الثلاثين.
وإن كان الإسلاميون يُشكرون على صحوتهم تلك، على تأخرها، إلا أن هناك نقطتين تثيران القلق فى موضوع اهتمامهم المفاجئ بالعدالة الانتقالية. النقطة الأولى هى تعريفهم الضيق لمفهوم العدالة الانتقالية، إذ إن تصريحانهم المتعاقبة على مدار الأيام القليلة الماضية توحى بأنهم يعنون بها «الانتقام»، وهو المعنى الذى نجد له صدى فى تعبير «تطبيق العدالة الانتقالية على مبارك» وهو ما طالبت به الجماعة الإسلامية أخيرا، وكأن مصطلح العدالة الانتقالية مرادف لـ«القصاص» أو لـ«عقوبة الإعدام»، وهم بذلك يغفلون الأهداف الأخرى السامية من أهداف العدالة الانتقالية مثل تحقيق المصالحة الاجتماعية وتعويض الضحايا أدبيا وماليا ووقف انتهاكات حقوق الإنسان. أما النقطة الثانية المثيرة للقلق فهى احتكار موقف الضحية وعدم الاهتمام بضحايا نظام مبارك من غير الإسلاميين. وفى هذا المضمار يتنافس الإخوان على موقع الصدارة ويؤكدون أن ما نالوه من بطش وظلم على أيدى النظام يفوق ما ناله الآخرون، حتى الإسلاميون منهم، وهو ما يفسر إصرار سعد عمارة، عضو الهيئة البرلمانية لحزب الحرية والعدالة، على أنه وإن تصادف أن قامت الثورة على مبارك فإن «هناك تراكما للمظالم وانتهاكات حقوق الإنسان حدثت خلال عهد حكام سابقين فى مصر.. فقد شهد عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر محاكمات صورية وتعذيب. وبما أن التعذيب لا يسقط بالتقادم فهل يعنى ذلك إمكانية محاسبة الأنظمة السابقة حتى وإن فارق الرئيس الحياة أم سيقتصر فقط على ما قامت عليه الثورة؟»
●●●
على مدى سنوات طويلة بنت منظمات حقوق الإنسان موقفها المبدئى فى موضوع التعذيب على عدم التفرقة بين الضحايا فلا مجال للحديث عمن يحمل صليبا أثقل أو أقسى من الآخر. كما اعترفت بأنه وإن كان صحيحا أن الإسلاميين نالهم من الظلم جانبا كبيرا ليس فقط فى الثلاثين سنة الأخيرة بل أيضا طوال ضعف هذه المدة إلا أن التعذيب تحت حكم مبارك وصل لمدى شمل الإسلاميين وغير الإسلاميين وأصبح منهجيا بحيث لم يقتصر على أعداء النظام السياسيين بل تعداه ليشمل المواطنين العاديين. وبالتالى فإن أى حديث عن العدالة الاجتماعية يجب أن يشمل الجميع ولا يقتصر على فئة واحدة من ضحايا التعذيب والقتل الذى مارستهما أجهزة الدولة.
كما وسعت القوى المدنية من تعريفها للعدالة الانتقالية بحيث لا يقتصر على مجرد الانتقام فأكدت مرار أهمية البدء بالوقف الفورى للانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان وإعادة هيكلة القطاع الأمنى وتعويض الضحايا والاعتراف بمأساتهم. على أن الإسلاميين، وفى مقدمتهم الإخوان المسلمون، المستأثرون بمقاليد الحكم، صموا آذانهم عن أهمية هذه الخطوات وصبوا جام غضبهم على القضاء وليس الشرطة وتغاضوا عما ترتكبه أجهزة الأمن بحق المواطنين ما بالنا بفتح الملفات القديمة للتعذيب.
وأذكر هنا واقعة المواطن وائل حمدى محمد رشدى الذى لقى حتفه فى قسم مصر الجديدة يوم ٢٤ أبريل ٢٠١٣. الشرطة تقول إنه شنق نفسه فى الزنزانة أثناء الليل، هذا مع وجود ستة محابيس آخرين فى نفس الزنزانة، ومع عدم تفسير كيفية حصوله على السكين أو المطواة التى قطع بها طرف البطانية ونسج منها الحبل الذى لفه حول عنقه ومع عدم وجود كرسى يقف عليه. وتدل جميع الشواهد على أن المتسبب فى الوفاة هو الضابط المسئول ليلتها الذى ضرب وائل بشومة على رأسه. هذه واقعة قتل فى قسم شرطة أثناء حكم الرئيس محمد مرسى وليس الرئيس جمال عبد الناصر. فإذا كان الإخوان وغيرهم من الإسلاميين جادين فعلا فى تطبيق العدالة الانتقالية هل يتعاونون مع منظمات حقوق الإنسان المضطلعة بهذه القضية ويضعوا حدا للتعذيب الذى مازالت تمارسه الشرطة؟