نُشر في “الشروق” في ٢٦ ابريل ٢٠١٣
هل ما نشهده فى مصر الآن بوادر تحول للفاشية؟ هذا ما تناولناه أنا وبعض الأصدقاء فى جلسة نقاش ساخنة الأسبوع الماضى. لحسن حظى كان من بين الحضور صديق بريطانى يدرّس التاريخ والسياسة فى إحدى كبريات الجامعات الأمريكية فذكّرنا بأن من أهم سمات الفاشية الأوروبية، كما شهدناها فى الثلاثينيات من القرن الماضى كان التحالف الوثيق بين رجال الصناعة ونظام الحكم الذى وفر القوانين الرادعة لقمع العمال. ومن حسن الحظ أننا لا نشهد الآن مثل هذا التحالف بين أصحاب المصانع الكبيرة وبين الإخوان.
أما أنا فأضفت أن من أهم ما يفصل الإخوان عن النازيين هو افتقار الإخوان للسيطرة على وسائل العنف، أى الجيش والشرطة، فى حين أن النازيين كانوا قد أحكموا سيطرتهم على هذين الجهازين حتى قبل فوزهم فى انتخابات ١٩٣٣. فإذا أضفنا إلى هذا العامل عدم سيطرة الإخوان على القضاء والإعلام لاتضح لنا حجم الفرق الذى يميزهم عن النازيين.
وإضافة إلى ذلك فإن النازيين كانوا يحتلون أكثر مواقع الطيف السياسى تطرفا، أما فى مصر فإن السلفيين ينافسون الإخوان على احتلال ذلك الموقع المتميز. على أن أهم ما يفصل التجربتين هو خفوت الخطاب العنصرى فى مصر مقارنا بألمانيا النازية، فالخطاب العنصرى النازى لا مثيل له فى فجاجته وخطورته، ويمكن تتبعه لعقود طويلة سبقت ومهد لوصول النازيين للحكم، فكان من الممكن مثلا قراءة مقالات فى أكثر جرائد ألمانيا شهرة واحتراما تحث على تطهير الجنس الآرى، وكان من الممكن أيضا شراء كارت بوستال لفنادق كبرى تتباهى بأنها لا تقبل يهودا.
•••
عدت إلى بيتى هادئا مطمئنا إلى أننا لا نشهد بوادر فاشية فى مصر. على أنه وخلال بضعة أيام قلائل شهدتُ من الأحداث ما دفعنى لإعادة النظر فى هذا بالإطمئنان. فالرئيس الإخوانى يتودد للجيش ويكافئ كبار قادته بالترقية والأوسمة فى الوقت الذى يقبع على مكتبه تقرير لجنه هو نفسه شكلها توصلت لنتائج تدين الجيش فى حوادث اختفاء وتعذيب. وأمانة الحزب الحاكم فى كفر الشيخ تدعو لمسابقة بعنوان «دور الإعلام فى تضليل الرأى العام»، وتزداد يوما بعد يوم دعوات الإخوان للتضييق على الإعلام، وعندما اعترضت صحفية على ادعاء وزير الإعلام بوجود حرية رأى تحت حكم الإخوان رد عليها بعبارة بذيئة تنم عن احتقاره للمرأة وللصحافة معا. وفى مشهد يذكرنا بقيام آلاف الطلاب النازيين بحرق الكتب «الملوثة لتاريخ ألمانيا» فى جامعة برلين يوم ١٠ مايو ١٩٣٣ قام عشرات الآلاف من أنصار الإخوان بالنزول للشوارع مطالبين بـ«تطهير القضاء»، وهو ما لم يستطع تحمله حتى وزير العدل الذى قضى فترة وزارته كلها فى الدفاع عن الإخوان، الأمر الذى دفعه فى النهاية للاستقالة.
•••
على أن أكثر ما أزعجنى ونبهنى إلى أننا ربما نكون بالفعل أمام تحول فاشٍ هو مقطع على اليوتيوب (عند الدقيقة ٤٢:٤٠) لأحد المشايخ يفسر سورة المائدة، وخاصة الآية الخامسة التى تقول «وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ». فضيلة الشيخ المحترم فسر الآية الكريمة تفسيرا يتيح للمسلم أن يأكل من أكل المسيحى. إلى هنا ولا توجد مشكلة. على أن فضيلة الشيخ تطوع بعد ذلك وشرح بإسهاب لماذا لا يأكل هو نفسه مع جيرانه أو معارفه الأقباط. الموضوع لا يتعلق بالورع، يقول الشيخ بكل وضوح، إنما بالقرف. «أنا بأقرف يا راجل. شوف ولا ريحتهم ولا.. يا أخى أنا ما بحبهمش. أنا حر. أنا بأقرف منهم، ريحة وشكلا وكله» ثم أمسك بكوب مياه موضوع أمامه، وقال «لو مسك كوباية مية كده ما بشربهاش».
ثم تلى علينا فضيلة الشيخ قصتين لتوضيح رأيه عن الفرق بين الورع والقرف. القصة الأولى عن دخوله محل للحلويات لشراء جاتوه لأولاده. بعد أن قدم طلبه للعامل التفت وراءه فهاله ما رأى. «لقيت الصور اللى انت عارفها بتاعتهم دى، وأبوهم، واللى ماسك تعبان بيديه. كل اللى فى المحل (راسم على رسغه) صلبان، صلبان، صلبان» فما كان من شيخنا الجليل إلا أن خرج مسرعا من المحل وتخلص من الجاتوه الذى اشتراه لتوه. ثم أضاف شارحا «أنا بأقرف يا عم. مجيش بقى أقول للناس أنا عندى ورع. ده مش ورع. ده قرف».
القصة الثانية تتعلق بجاره القبطى الذى أتاه مشتكيا من تسريب مياه أفسد سقف الحمام. بالرغم من قرفه من جاره القبطى فقد تحامل شيخنا الجليل على نفسه ونزل لشقة جاره حتى يرى الضرر بنفسه، فما أن أبصره حتى تعهد بإصلاحه على نفقته. بعد يومين التقى الرجلان فى الشارع فشكره جاره القبطى على سرعة استجابته «قال لى: إنت صديت عنى ضرر. قلت له: دينى علمنى كده.. قال لى: آه طبعا، إحنا جيران واخوات. قلت له: اخوات لأ.. اخوات دى عندكو انتو.. عندى أنا لأ. أخدت حقك، لكن متطالبنيش بحبك.. انت مش هتاخد حقك ألا عندنا احنا، مع بُغضى ليك».
•••
الشيخ الجليل يعلمنا هنا درسين. الدرس الأول هو أن قرفه من المسيحيين شعور طبيعى، أى ناتج من طبيعتهم (رائحتهم، شكلهم) وليس ناتجا من ثقافة مجتمعية. فالقرف هنا، أقرب للشعور بالجوع أو العطش أو الشبق منه للشعور بالندم أو الغضب أو الغيرة. وبما أنه شعور غرائزى فمن الجائز الاهتداء به بل تزكيته وتقويته. وبالتالى وإن ثبت على الرسول أكله من أكل أهل الكتاب إلا أن شيخنا يفضل عدم مخالطتهم، ليس ورعا بل قرفا (ومن الجدير بالذكر أن القرف، لغة، هو مخالطة الوباء).
أما الدرس الثانى فهو أنه لا مجال للحب أو الألفة بين المسلمين والأقباط. العلاقة بينهما يحكمها العدل وليس الحب. فالشريعة تضمن للذمى حقوقه، «لكن تيجى تقول لى حبه واحنا اخوات والكلام الأهبل ده، لأ. لا إحنا إخوات ولا باحبه».
•••
منطق شيخنا الجليل لا يوصف فقط بأنه طائفى. إنه منطق عنصرى فج يصلح بامتياز لنظام سياسى فاشٍ. كيف يمكن التصدى لهذا المنطق الخطير؟ لا أرى الحل فى مصادرة حق الشيخ فى التعبير عن آرائه، وقد كتبت هنا من قبل مدافعا عن قناة الحافظ التى يظهر فيها الشيخ بشكل منتظم. ولا أظن أن الحل يكمن أيضا فى مقارعة الآيات التى يستشهد بها الشيخ بغيرها، فهو يعترف أن موقفه مبنى على القرف وليس الورع.
أثناء انشغالى بالبحث عن جواب لهذا السؤال زارتنى فى مكتبى طالبتان تحضران بحثا عن صعود الخطاب الطائفى تحت حكم الإخوان. عرضت عليهما الفيديو وبعد أن فرغنا من مشاهدته قالت إحداهما «الراجل ده قليل الذوق». عندها أدركت أننى وجدت ضالتى. الحل فى التمسك بالذوق. فالذوق عكس القرف، فمن ناحية يحمل الذوق معنى الاستطعام، أما القرف فيوحى بالاستفراغ، ومن ناحية أخرى فإن الذوق شعور لا يقبل بالغرائز الحيوانية التى يهتدى بها شيخنا الجليل بل يسمو بها ويرتقى. وفى النهاية فإن الذوق فضيلة مصرية بامتياز. الشعب المصرى شعب عنده ذوق، وهذا الشيخ، مثل الكثيرين غيره الذين طلوا علينا فى الفضائيات، معندوش ذوق.
يا فضيلة الشيخ، سيبك من الورع ومن القرف. خللى عندك شوية ذوق.