Press "Enter" to skip to content

مَنْ الذى يهدم الدولة يا معالي الوزير؟

نُشر في “الشروق” في ١٥ فبراير ٢٠١٣

فى يوم 26 يناير الماضى وقبل ساعات قليلة من جلسة النطق بالحكم فى قضية استاد بورسعيد، استضافت إحدى القنوات التليفزيونية الأستاذ علاء عبد الفتاح، الذى يعد من أوائل المدونين فى مصر ومن أشجع النشطاء الحقوقيين وممن دفع ثمنا غاليا فى سبيل الانتصار لقيم الحق والعدل، إذ كان قد اعتقل عام 2006 فى المظاهرات التى كانت تنادى باستقلال القضاء واعتقل مرة أخرى على أيدى الشرطة العسكرية فى أكتوبر 2011 بعد مجزرة ماسبيرو. 

وكان الضيف الثانى فى البرنامج التليفزيونى وزير العدل، أحمد مكى، الذى كان فى طريقه لحضور اجتماع مجلس الأمن القومى والذى اشترك بالتالى فى البرنامج عن طريق التليفون. كانت المواجهة بين علاء عبد الفتاح وأحمد مكى تاريخية بحق، إذ جسدت عقليتين متباينتين لفهم أكبر مشكلة تواجه هذه الثورة، أى كيفية إصلاح جهاز الشرطة، ووسائل التعامل مع هذه المشكلة. 

••• 

كان الوزير يستميت فى تبرير تصرفات جنود الأمن المركزى فى اليوم السابق التى أدت لوفاة تسعة متظاهرين فى مكان واحد فى السويس نتيجة طلقات فى الصدر والوجه. وكان يذكرنا بأننا يجب أن نعذر هؤلاء الجنود لاستخدامهم الرصاص الحى فى مواجهة المتظاهرين العُزّل لأنهم، أى الجنود، لم يأخذوا حظهم من النوم، كما أنهم كانوا منفعلين نتيجة لوفاة اثنين من زملائهم. وأخذ الوزير أيضا يؤكد على خطورة المطالبة بإصلاح جهازى القضاء أو الشرطة من الخارج إذ إن ذلك من شأنه هدم الدولة. 

عندها قاطعه علاء عبد الفتاح وقال له إنه يجب أن يصمت ليستمع لرأى مخالف. وأوضح علاء قائلا إن دعوة الوزير لاستماحة العذر للجنود فى تصرفهم اليوم السابق غير مقبوله إذ إن من بديهيات الأمور أن الشرطة يجب أن تضبط نفسها ولا يعقل أن يستخدم الجنود الذخيرة الحية لأنهم لم يناموا أو لأنهم منفعلون. كما سأله مستنكرا إن كان يعتقد بالفعل أن «الداخلية اللى بتقتلنا وتضربنا عندها النية فعلا إنها تصلح نفسها». 

••• 

لا أدرى لماذا تذكرت فجأة، وأنا أتابع هذه المواجهة، مشهدا من فيلم «غاندى»، ذلك المشهد الذى يجلس فيه غاندى (الذى قام بدوره بِن كينجسلى) أمام البارون إيروين، الحاكم البريطانى للهند (سير جون جيلجود) فى أولى جلسات المفاوضات المباشرة بين الزعيم الهندى والمستعمِر البريطانى. ففى هذه الجلسة أوضح غاندى ضرورة رحيل الانجليز عن الهند، فمن غير المنطقى أن يستمر حكم حفنة من الرجال البيض لملايين الهنود إذا رفض هؤلاء الهنود ذلك الحكم. عندها تساءل إيروين مستغربا إن كان غاندى يعتقد فعلا أن الانجليز سيحزمون أمتعتهم ويرحلون، هكذا وببساطة. فرد عليه غاندى قائلا: «نعم، عندما تدركون غباوة موقفكم». 

كان منطق علاء مع الوزير مشابها لمنطق غاندى مع إيروين، فالداخلية لن تستطيع أن تحسم صراعها مع الشعب باستخدام السلاح إذا صمم الشعب على رفض هذه المعاملة. كما أن الموضوع موضوع وقت، فعاجلا أم آجلا ستدرك الداخلية أن سياساتها القمعية قد انتهى زمانها وأن من مصلحتها ومن مصلحة الوطن انتهاج سياسات جديدة.  

••• 

على أن الأيام اللاحقة لتلك المواجهة التاريخية لم تشهد حزم الداخلية لأمتعتها أو انزوائها عن صدارة المشهد السياسى، بل العكس هو ما شهدناه. ففى الأيام والأسابيع التالية تتابعت صدامات الشرطة مع الشعب، وسقط العديد من القتلى فى بورسعيد وفى غيرها من المدن، وسُحل المواطنون أمام الكاميرات والفضائيات، وتتابعت أخبار النشطاء المختطفين والمعذبين والمقتولين. وعوضا عن إعادة النظر فى قواعد اشتباك الشرطة مع الشعب تقابل رئيس الوزراء مع قادة وضباط الأمن المركزى ووعدهم بزيادة تسليحهم. 

أما وزير العدل فلم يتراجع عن موقفه، بل زادته الأيام تصلبا، وأمسى من أهم المدافعين عن سياسات الداخلية البالية. وقد حدث أن سمعته بنفسى فى اجتماع فى وزارة العدل يؤكد على ضرورة الدفاع عن الداخلية وعدم الاستماع لمطالب إصلاح الداخلية إذ إن هذه المطالب غرضها هدم الدولة وليس إصلاح الشرطة. 

كان الاجتماع بغرض مناقشة مشروع قانون حرية تداول المعلومات، ووجهت لى ولعدد من الزملاء المعنيين بهذا الموضوع والدارسين له الدعوة لحضور الاجتماع يوم 5 فبراير. وبعد أن قام كل منا بالتحضير جيدا لمناقشة مشروع القانون المرسل لنا (الذى يعتبر مشروعا سيئا للغاية، بالمناسبة) فوجئنا فى الاجتماع بوزير العدل يلقى علينا كلمة عن موضوع لا يمت بصلة لما جئنا نتحدث فيه. فأخذ يؤكد على مقولاته السابقة التى لم يتراجع عنها من أن مطالب إصلاح الشرطة ستؤدى إلى هدم الدولة، وأنه لا يوجد أى تعذيب منهجى تحت حكم الرئيس مرسى، وأن الإعلام أغلبه مأجور ومضلِل، وأن وزارته انتهت لتوها من إعداد مشروع قانون لتنظيم التظاهر، أخذ يتلو علينا أهم ملامحه ومنها تحديد المسافة التى يجب أن تفصل المتظاهرين عن المبانى العامة، تلك المسافة التى دُرست بعناية بعد أخذ رأى الخبراء فى المدى الذى تصله شماريخ الألتراس. 

وبعد ساعة كاملة من هذا الكلام الخطير وقف الوزير عازما الرحيل، ولكن إحدى الزميلات، الدكتورة هدى الصدة، أستاذة الأدب الانجليزى بجامعة القاهرة، استوقفته واستنكرت عليه نفيه للتعذيب واستخفافه به، وزاد عليها الأستاذ حسام بهجت، مؤسس ومدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، بالقول إنه، أى الوزير، كان يتصل به تليفونيا قبل توليه الوزارة لتهنئته على مقابلاته الإعلامية التى كان يتحدث فيها عن انتهاكات الداخلية، وأنه يبدو أن موقف الوزير تغير ليس بسبب تغير أداء الإعلام بل بسبب توليه الوزارة، وذكره بالعديد من حالات التعذيب التى قدمها له شخصيا والتى لم يحرك فيها الوزير ساكنا. أما أنا فكررت على الوزير ما كان علاء عبد الفتاح قد قاله له وقلت إننى أرفض أن نُتهم بالسعى لهدم الدولة عندما نطالب بإصلاح الداخلية، وأننى أرفض الحديث مع وزير للعدل فى بلد قامت فيه ثورة ضد انتهاكات الداخلية إذا كان هذا الوزير قد حسم أمره بالدفاع عن هذه الممارسات. وعندما لم يتراجع الوزير عن أقواله بل قال إن وجود ست حالات تعذيب أفضى إلى الموت يعتبر تقدما عما كان يحدث فى الماضى، قررت أنا مع بعض الزملاء الانسحاب من الجلسة. 

••• 

إذا كان وزير العدل بعد أن استمع لكل هذا الكلام وبعد أن ألم بخطورة ما يحدث على أيدى الداخلية ما زال مصمما على موقفه، فنحن إذن إزاء موقف جد خطير. إن من يهدم الدولة ليس من يطالب بإصلاح جهاز فاسد للنخاع بل من يتستر على هذا الفساد ومن يعطى غطاء سياسيا للتعذيب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.