نُشر في “الشروق” في ١٨ يناير ٢٠١٣
أصدرت محكمة القضاء الإدارى هذا الأسبوع حكما بوقف برنامج «فى الميزان» الذى يذاع على قناة الحافظ لمدة شهر وبمنع الإعلامى عاطف عبدالرشيد والشيخ عبدالله بدر من الظهور فى وسائل الإعلام للمدة نفسها. إن كانت المحكمة فى حيثيات حكمها ذكرت من الأسباب ما يؤكد أن البرنامج المعنى دأب بالفعل على نشر مشاهد وموضوعات يعف اللسان عن ذكرها، إلا أن ذلك لا يبرر ما انتهت إليه المحكمة من ضرورة وقف البرنامج. كما أن الحيثيات نصت صراحة على أن المحكمة بنت حكمها على الأخلاق والآداب العامة، وهو أمر يثير الانزعاج إذ إن القاضى يجب أن يحتكم لا لقراءته لأخلاق المجتمع وآدابه بل للقانون والدستور.
•••
أنا لم أشاهد الحلقة المحددة التى تم فيها سب الفنانة إلهام شاهين، وهى التى قامت، مع غيرها، برفع دعوى إغلاق القناة، ولكنى أتابع بانتظام قناة الحافظ على التليفزيون وخاصة برنامج «فى الميزان» الذى تتاح حلقاته أيضا على يوتيوب. ومن خلال متابعتى لحلقات هذا البرنامج تبين لى أنه بالفعل كثيرا ما يستضيف ضيوفا لا يتوارون عن استخدام أكثر الألفاظ بذاءة، وإن كانوا عادة لا يفعلون ذلك اعتمادا على العامية المصرية التى بها ما بها من ألفاظ بذيئة، بل يرتكنون على العربية الفصحى وخاصة المصطلحات الشرعية التى تصف أوضاعا وأعضاء جنسية. وكغيره من البرامج الحوارية على الفضائيات المصرية، فإن القيمة المضافة الحقيقية للبرنامج تكاد تكون منعدمة، ففريق الإعداد تكاد تقتصر مهمته على تحديد أسماء ضيوف مقترحين وتوجيه الدعوة لهم للحضور للاستوديو، أما فريق الانتاج فتكاد تنحصر مهمته هو الآخر فى إرسال سيارة القناة لتقل الضيف للاستوديو ومنه لمنزله فور الانتهاء من تسجيل البرنامج. وكالكثير من القنوات الفضائية الأخرى لا تكلف قناة الحافظ نفسها عناء إنتاج أفلام تسجيلية أو إجراء تحقيقات إخبارية، وعوضا عن ذلك تعتمد على ملء ساعات البث بتلك البرامج الحوارية، مثل برنامج «فى الميزان»، الذى يكثر فيها الصياح وتقل فيها المعلومة أو المتعة.
ولكن بالرغم من كل هذه العيوب وبالرغم مما تحمله حلقات برنامج «فى الميزان» من بذاءات فأنا أرى فى حكم وقف البرنامج اعتداء خطيرا على مبدأ حرية الرأى ليس فقط لما يحمله الحكم من سابقة قد تمتد لتشمل برامج أو قنوات أخرى، ولكن أيضا لما يتضمنه من إقامة الوصاية على المتفرج وتحديد ما قد يؤذيه أو يجرح مشاعره أو يعكر مزاجه.
•••
هناك فرق بين معاقبة من يقوم بالسب والقذف بالغرامة أو السجن مثلا وبين إغلاق المنبر الذى استخدم للقيام بواقعة السب والقذف تلك مثل مصادرة جريدة أو وقف بث برنامج. ففى الحالة الأولى تقع العقوبة على عمل تم بالفعل فى الماضى، أما فى الحالة الثانية فإن العقوبة تبغى منع وقوع فعل محتمل فى المستقبل. وهنا تحديدا تكمن خطورة قرار المصادرة أو المنع، فالسلطات تنصب نفسها حارسة على قيم المجتمع وتخول لنفسها الحق فى تحديد ليس فقط الأفعال التى انتهكت أخلاق المجتمع وآدابه العامة، بل أيضا تلك الأفعال التى قد ترتكب فى المستقبل والتى قد تؤذى المجتمع وتجرح مشاعره.
الخطورة الحقيقية فى مبدأ الوصاية هذا وما يتبعه من وقف قناة أو مصادرة جريدة هو إعطاء الأولوية للسكينة والدعة على حساب قيم أخرى قد تفيد المجتمع مثل الإقبال على المعرفة وحب الاطلاع. فمثلا ذهبت حيثيات حكم محكمة القضاء الإدارى إلى أن المخالفات التى رصدتها فى برنامج «فى الميزان» تمثل «اعتداء على السكينة العامة التى ينبغى أن يتمتع بها المواطن وأسرته لدى مشاهدة البث التليفزيوني». المشكلة هنا تكمن فى ذلك اليقين الذى بنت عليه المحكمة حكمها بأن الغرض الرئيسى من مشاهدة التليفزيون هو الحصول على السكينة، فمن السهل جدا افتراض وجود أغراض أخرى للفرجة على التليفزيون من تلقى معلومات من نشرة أخبار، للاستمتاع ببرامج مسلية أو حتى تافهة، أو لمجرد تمضية الوقت فى أى شيء.
مشكلة منطق الوصاية هذا أنه يفترض أن المتفرج لا يسعه تحديد ما إذا كان هذا البرنامج سيؤذيه أم لا، ثم يفترض أيضا أنه إذا كان البرنامج المعنى مؤذيا حقا فالمتفرج لن يستطيع أن يتحول إلى قناة أخرى. وبما أن المتفرج / المواطن عديم الحيلة ولا يستطيع تحديد مصلحته، حسب منطق المحكمة، فإن الضرر سيعود أيضا على أسرته التى نصبت المحكمة نفسها وصية عليها أيضا عندما ذهبت إلى أن «الاستمرار فى السماح بنشر هذه البذاءات سيؤدى إلى نشر الرذيلة مما يعصف بكيان الأسرة ويؤثر سلبا على تربية الأطفال».
•••
ولكن أخطر ما فى هذا الحكم هو عدم موازنة الضرر الذى قد يقع على المجتمع من جراء نشر مشاهد قد تكون مؤذية مع الفائدة التى قد تعود على المجتمع من نشر نفس تلك المادة. فتاريخ البشرية حافل بأفكار نفر الناس منها واعترضوا عليها ثم تبين لاحقا أنها مفيدة أو جميلة أو سامية، وتوضح هذه الحالات أنه لو خولنا للسلطات الحق فى تحديد ثم مصادرة كل ما يمكن يوما أن يؤذى مشاعرنا فيمكن أن ينتهى بنا الحال وقد منعنا أغلب ما يكتب وينشر ويذاع إذ أنه بالطبع سيكون هناك من يقول إن هذا الكتاب أو البرنامج قد أذى مشاعرى.
ثم تضيف حيثيات الحكم منطقا آخر أراه لا يقل خطورة عما سبق، فتقول «إن المحكمة وهى تفصل فى هذا النزاع… يحدها فى ذلك الأخلاق العامة والآداب العامة فكل ما يستحى المرء من أن تراه أو تسمعه زوجاته (كذا) وبناته هو فى عرف المحكمة منكر يعاقب عليه فاعله أيا كان صفته». وبغض النظر عن اللهجة الذكورية الواضحة التى جاءت بها الحيثيات والتى افترضت أن المُخاطب رجل متزوج له زوجات وبنات، فأحكام المحاكم لا يجب أن تنبع من الأخلاق أو الآداب العامة مهما كانت هذا الأخلاق والآداب سامية، بل من القانون وصريح مواده.
•••
إن حكم محكمة القضاء الإدارى بوقف برنامج «فى الميزان» لهو اعتداء صريح على مبدأ حرية الرأى، ذلك المبدأ الذى تكمن أهميته تحديدا فى الدفاع عن الآراء الصادمة والإشكالية. ومما لا شك فيه أن برنامج «فى الميزان» وقناة الحافظ، شأنهما شأن البرامج والقنوات الأخرى، فيهما الكثير مما يؤذى مشاعر المتفرجين ويخدش حياءها، ولكن ذلك لا يجب أبدا أن يكون سببا لمنع البرنامج أو إلغاء القناة إذ أن المجتمع بذلك سيكون قد خسر حقه فى المعرفة وضيع حقه فى التعبير.