Press "Enter" to skip to content

أهل الرئيس وعشيرته

نُشر في “الشروق” في ١٤ ديسمبر ٢٠١٢

فى يوم 9 فبراير 2011 وقبل يومين من سقوط مبارك اتصلت بى شبكة سى إن إن ووجهت لى دعوة لكى أكتب على موقعها الإلكترونى افتتاحية عن الثورة.

وبالطبع لم أتردد فى تلبية هذه الدعوة معتبرا إياها فرصة ذهبية لتوصيل رسالة واضحة للرأى العام الأمريكى. كان يمكننى أن أتناول نقاطا عديدة، ولكنى فضلت أن أركز على أهمية إشراك جماعة الإخوان المسلمين فى العملية السياسية. وقتها قلت إننى وإن كنت لا أنتمى للإخوان وأشك أن بيدهم حلولا لمشاكل مصر المزمنة، إلا أننى على يقين بأن عملية التحول الديمقراطى فى مصر لن تنجح إلا إذا فتح الباب للإخوان لكى يمارسوا السياسة بشكل شرعى.

عندما كتبت هذا الكلام كنت مدركا للتحديات الكبيرة التى تواجه جماعة الإخوان. فالجماعة لم تفرز فكرا جديدا يمكنها من مخاطبة المجتمع منذ كتب سيد قطب «علامات على الطريق»، ذلك النص الذى وإن كان مناسبا لمواجهة الطاغوت الناصرى فهو لم يعد مناسبا لجماعة زالت عنها الغمة وأصبحت تستأثر فعلا بالحكم. ثم أنها جماعة تمسك أعضاؤها لثمانية عقود بمبدأ السمع والطاعة الذى حفظ لها وحدتها وتماسكها عندما كانت مستهدفة وعندما قبع قادتها فى السجون والمعتقلات، إلا أن هذا المبدأ لا يصلح إذا وصلت الجماعة للحكم واحتاجت للاستماع لآراء عديدة حتى تلك المخالفة لآراء قادتها.

ولكن وللأسف أثبتت الأيام أن تفاؤلى فى قدرة الإخوان على التحول من عقلية الضحية المستهدفة إلى عقلية الجماعة الحاكمة الماسكة بدفة الأمر لم يكن فى محله، فلا الإخوان تمكنوا من التخلص من عقلية الاضطهاد ولا هم قدموا حلولا حقيقة للمشاكل التى تعانى منها البلاد.

ثم أتت أحداث الأسبوعين الماضيين لتوضح مقدار خطأى فى تفاؤلى هذا، إذ أن تلك الأحداث أوضحت أن الأمر لا يتعلق بأزمة وجودية تعانى منها الجماعة، بل بأزمة سياسية عميقة تسببت فيها الجماعة، أزمة تكاد تعصف ليس فقط بالنظام السياسى والقانونى بل أيضا باستقرار المجتمع المصرى وتماسكه.

•••

الأزمة بدأت عندما أخطأت الجماعة فى الاعتقاد أن الأغلبية البرلمانية التى نجحت فى الحصول عليها فى انتخابات حرة ونزيهة خولتها ليس لكتابة قوانين وتشريعات بل لكتابة الدستور. ولذلك صم أعضاء الجماعة وقادتها آذانهم عن الدعوات العديدة التى حثتهم على ضرورة تشكيل الجمعية التأسيسية بشكل يعبر عن تنوع المجتمع وتعدد هوياته. ثم تعمقت الأزمة عندما شرعت هذه الجمعية فى كتابة دستور اعتقد أعضاء الجمعية، وغالبيتهم من الإخوان، أن وظيفته الأساسية تنحصر فى تعبيره عن الهوية وليس فى تقديمه ضمانات لحماية الأفراد من تغول الدولة وللحد من تسلطها على المجتمع. ثم تعمقت الأزمة أكثر عندما خرجت مسودة الدستور للناس وإذ بقطاع كبير منهم يصاب بالذهول لما افتقده هذا الدستور من ضمانات أساسية، ولعدم تلبيته للكثير من المبادئ التى قامت من أجلها الثورة، ولما احتوى عليه من عوار دستورى وتشريعى.

وتعمقت الأزمة أكثر وأكثر عندما أساء الرئيس مرسى قراءة المشهد السياسى برمته، وفشل فى التخلى عن عقلية الضحية التى هيمنت على جماعته، وتناسى أنه كان قد فاز بالرئاسة بفارق ضئيل جدا كان يحتم عليه أن يدرك أن شعبه منقسم وأنه ينتظر منه أن يقرب فصائله بعضها ببعض لا أن يعمل على توسيع الفجوة بينها. فالأصوات الداعية لإعادة النظر فى طريقة كتابة الدستور سمعها الرئيس على أنها أصوات مغرضة نابعة من أعداء الدين الذين لا يريدون أن يروا شريعة الله تطبق فى أرضه، والاعتراضات التى وجهت لمشروع الدستور الذى جاء دون توقعات الشعب رآها الرئيس محاولات يائسة من الفلول وأذناب النظام السابق لإعادة عقارب الساعة للوراء.

ثم جاءت الطامة الكبرى عندما ازدادت الاحتجاجات على الإجراءات الاستثنائية التى اتخذها الرئيس وعلى مشروع الدستور وإذ بالرئيس يتخذ سلسة من الإجراءات التى اصطدمت بركيزة مهمة من ركائز النظام السياسى، ألا وهى السلطة القضائية، وهددت بنيان الدولة المصرية ذاتها. وعندما خرجت الجماهير لتعبر عن سخطها من تصرفات الرئيس ومن قراراته استدار لأهله وعشيرته من جماعة الإخوان وأعطى لهم الضوء الأخضر لكى ينتشلوه من وهدته. وإذ بقياديين من جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة يأمرون أتباعهم يوم الأربعاء 5 ديسمبر بالنزول للشوارع والميادين لفض الاعتصام السلمى أمام القصر الرئاسى، وكانت النتيجة إراقة الدم المصرى وإزهاق الأرواح الزكية.

وعوضا عن مساءلة قيادات جماعة الإخوان المسلمين على تصريحاتهم النارية التى ألهبت الموقف وأدت إلى هذه النتيجة المأساوية ألقى الرئيس باللائمة على «الطرف الثالث» وعلى الفلول، كما غض الطرف عن حوادث التعذيب العديدة التى أوقعها أعضاء الإخوان بالمعتصمين أمام الاتحادية، وهى حوادث قال عنها الراصدون للتعذيب فى مصر إنهم لم يروا لها مثيلا حتى فى عهد مبارك. وغاب عن الرئيس أنه بتغاضيه عن هذه التصرفات التى ارتكبها أهله وعشيرته فإنه يساعد على تقويض دعائم الدولة المسؤول عن حفظها، ويساهم فى تآكل شرعيته المهترئة أصلا، ويعمل على تعميق الشرخ الذى أصاب بنيان المجتمع.

•••

لقد تمسكت بتفاؤلى فى قدرة الإخوان على التغلب على التحديات التاريخية التى يواجهونها، وحتى شهر مضى اشتركت فى مناظرة عامة حول ما إذا كانت عملية التحول الديمقراطى فى مصر قد جاءت مخيبة للآمال. فى تلك المناظرة رفضتُ هذه المقولة وقلت إنه وإن شاب عملية التحول الديمقراطى فى بداياتها بعض العيوب، إلا أن المستقبل سيثبت أن الإخوان سيدركون أهمية الديمقراطية وسيقبلون عليها.

ولكن أحداث الأسبوعين الماضيين أثبتت خطأ توقعاتى مرة أخرى، فوقائع يوم الأربعاء الخامس من ديسمبر أظهرت جزع الإخوان من الديمقراطية وخوفهم من حق الناس فى التعبير عن آرائهم. كما أوضحت المدى الذى يمكن للإخوان أن يقطعوه للاحتفاظ بالسلطة والتشبث بأهدابها.

سيكتب التاريخ إن يوم 5 ديسمبر كان اليوم الذى سقط فيه القناع عن جماعة الإخوان المسلمين، وهو اليوم الذى فشلت فيه الجماعة بجدارة فى أول اختبار حقيقى لها بعد وصولها للسلطة وهو اليوم الذى ضاقت فيه الجماعة ذرعا بالمعارضة ولم تتردد فى استخدام أكثر الأساليب خسة فى القضاء على معارضيها.

كما سيكتب التاريخ إن الرئيس مرسى أثبت فى هذا اليوم كيف أنه يأتمر بأوامر قادة الإخوان، وكيف ضيع على نفسه الفرصة لكى يكون رئيسا لكل المصريين، وكيف اكتفى بأن يكون رئيسا لقطاع واحد فقط من المصريين، ذلك القطاع الذى تودد له وخاطبه قائلا إنهم أهله وعشيرته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.