نُشر في “الشروق” في ٢ ديسمبر ٢٠١٢
يجب أن أعترف أن أحداث الأيام العشرة الماضية أفقدتنى الكثير من التفاؤل الذى كنت أتمسك به منذ اندلاع الثورة. كان تفاؤلى دائما مبنيا على اقتناعى بأن معادلة مبارك (إما القمع أو الخراب) معادلة بائسة لا تليق بنا، وأننا، كشعب وكدولة، قادرون على مواجهة تحديات الثورة، وأن المؤسسات التى بنيناها على مدار تاريخنا الحديث، من شرطة وجيش وقضاء وصحافة وجامعات ونقابات وبيروقراطية الجهاز الإدارى للدولة، هذه المؤسسات قد تكون فى حاجة لإعادة هيكلة، ولكنها صلبة يمكن أن تصمد أمام عنفوان الثورة.
وكنت أيضا أعتقد أننا قادرون على التعامل مع أكبر تحديين يواجهانا، كيفية إخراج العسكر من السياسة وضرورة إشراك الإخوان فى السياسة. ذلك أننى كنت على يقين بأن العسكر أضعف بكثير مما بدوا، وأن مكانهم الطبيعى والصحى هو فى ثكناتهم وليس فى إدارة العملية السياسية. أما بخصوص الإخوان وغيرهم من جماعات الإسلام السياسى فإننى برغم شكوكى العميقة فى أن ما تطرحه هذه الجماعات سيمكن البلاد من مواجهة مشاكلها المستعصية، إلا أننى كنت دائما أؤمن بأن من الأجدى والأصح لمجتمعنا إشراك الإسلاميين فى العملية السياسية.
وكانت القاعدة الصلبة التى بنيت عليها تفاؤلى هى اقتناعى بأن ما يجمعنا، مسلمين وأقباطا، إسلاميين وعلمانيين، أكبر بكثير مما يفرقنا، وأن قدر التجانس الذى حققناه كمجتمع على مدار القرنين الماضيين هو إنجاز حقيقى يجب أن نتمسك به ونعتز.
وفوق كل ذلك كان شعورى دائما أن مصر رحبة غنية يمكن أن تحتوينا كلنا دون قمع أو ظلم أو إقصاء.
ولكن منذ إصدار الرئيس مرسى لإعلانه الدستورى وجدتنى أفقد الكثير من هذا التفاؤل، وازداد قلقى على استقرار الوطن أكثر من أى لحظة سابقة منذ اندلاع الثورة. قلقى ليس نابعا فقط من الانتهاكات الخطيرة للقانون وللشرعية التى يمثلها هذا الإعلان، ولكن أيضا من النقاشات والحوارات التى تابعتها أو اشتركت فيها حول هذه الأزمة العميقة مع شخصيات من جماعات الإسلام السياسى من إخوان وجماعة إسلامية وسلفيين. هذه النقاشات أوضحت لى أن الاختلافات التى تفصلنا أكبر بكثير مما كنت أظن، وأن الأزمة الحالية وكيفية إدارة الرئيس لها تعمق هذه الاختلافات ولا تساعد على تجاوزها.
هناك نقاط اختلاف عديدة تفصل الإسلاميين عن شركائهم فى الوطن من ليبراليين وعلمانيين ويساريين وغيرهم، إلا أننى أركز هنا على أربع نقاط تدور كلها حول ما أظنه محور هذا الأزمة ومركزها، ألا وهو طبيعة النظام القضائى المصرى وكيفية إصلاحه.
أولى هذه النقاط هو إعطاء الرئيس مرسى، ومن ورائه حزب العدالة والحرية وجماعة الإخوان، الأولوية لإصلاح الجهاز القضائى وتفضيلهم البدء بالاشتباك مع هذا الملف الشائك على التعامل أولاً مع القطاع الأمنى وعلى ضرورة إعادة هيكلة الداخلية. فبالرغم من تأكيد الكثير من الجماعات الحقوقية والأحزاب السياسية أن عملية الانتقال للديمقراطية تتطلب، أول ما تتطلب، إعادة هيكلة القطاع الأمنى، فضل الرئيس مرسى، لحساباته السياسية، تناول ملف القضاء أولا.
ثانيًا، ومعطوفا على ما سبق، كان هذا التفضيل نابعا من إحساس الرئيس وجماعته أنه من الأهمية بمكان حماية اللجنة التأسيسية وتمرير الدستور بأى شكل حتى لو تم ذلك بإصدار إعلان دستورى ينتقص من شرعية الرئيس ويزيد من الاحتقان فى المجتمع وينتهك مبدأ سيادة القانون. وبغض النظر عما يمكن أن يقال عن مواد الدستور (وهو كثير)، فإن طبيعة الدستور نفسها شكلت نقطة اختلاف ثانية بين الإسلاميين والقوى المدنية. فبينما يرى الإسلاميون أن الدستور وثيقة تنبع أهميتها من تعبيرها عن هوية المجتمع الأصيلة والحقيقية، ترى القوى المدنية أن الدستور يجب أن تنبع فلسفته من ضرورة حماية المواطن والتأكيد على حقوقه وتحجيم سلطة الدولة والعمل على منع تغولها.
ثالثا، فى الكثير من الحوارات التى خضتها مع شخصيات من حركات الإسلام السياسية تبين لى مدى استهتارهم بتاريخ القضاء المصرى الحديث ومدى استعدادهم للتضحية به، معتبرينه نتاج عدوان ثقافى قام به الغرب على مدار قرنين من الزمان، عاونته فى عدوانه هذا نخبة سياسية وقانونية مغيبة، منبهرة بالغرب، غير مكترثة بموروثها الفقهى، وغير متمسكة بشريعتها. وعلى العكس من ذلك ترى الكثير من القوى المدنية أن النظام القضائى المصرى يعد من أهم إنجازاتنا فى تاريخنا الحديث، وأن تعارضه مع الشريعة تعارض غير حقيقى، بل هو نظام بُنى على مزج الشريعة بالقانون بشكل خلاق مبتكر منتهجا فى ذلك منهج الكثير من الأنظمة القانونية على مدار التاريخ الإسلامى الطويل، وأنه وإن كان يعتوره بعض الخلل هنا أو هناك فلا يجب التعامل مع هذا الخلل بمنطق «هدم المعبد علىَّ وعلى أعدائى» الذى انتهجه الرئيس مرسى فى صدامه مع القضاء.
رابعا، أوضحت لى هذه النقاشات أيضا مدى الاختلاف بين الإسلاميين والقوى المدنية فى طريقة الاعتراض على إعلان الرئيس أو الاختلاف معه. فالإسلاميون، وخاصة أعضاء جماعة الإخوان، يرون ضرورة الاصطفاف خلف الرئيس فى هذه الأزمة، وبرغم الطبيعة الإشكالية للإعلان الدستورى لم ينبس ببنت شفة أى عضو من الإخوان معترضا على هذا الإعلان المشكل أو مشككا فيه. وكثيرا ما سمعت وقرأت تشبيه الرئيس بالربان الذى يقود سفينة الوطن وسط أنواء عاتية وبالتالى لا يجب الاعتراض على قراراته وإلا سنهلك جميعا ونغرق. وعلى العكس من هذا ترى الكثير من القوى الديمقراطية أن الاختلاف مع الرئيس، أى رئيس، والتعبير عن هذا الاختلاف علنا ليس فقط عملا صحيا، بل ضروريا، وتحديدا فى أوقات الأزمات، إذ إن الرئيس، أى رئيس، فى حاجة فى أوقات الأزمات لمن يواجهه بما قد لا يود سماعه، ويوضح له ما قد لا تراه أعينه ويحدد له ما لا يدركه عقله، وأن الرئيس لا يجب أن يشبه بربان السفينة بل بالمدير المسئول عن إدارة كبيرة ومعقدة، يخضع لقوانين وتعليمات، ويعاونه مرؤوسوه وأعوانه، ويحاسبه الجميع على تصرفاته وقراراته. إن الاختلاف بين الإسلاميين وشركائهم فى الوطن حول طريقة التعامل مع الرئيس مرسى فى إدارته لهذه الأزمة لا يعبر فقط عن الاختلاف فى درجة تأييد الرئيس أوالوقوف بجانبه، بل يوضح منهجين مختلفين اختلافا عميقا لطريقة التعامل مع السلطة وضرورة الحذر من توغلها على المجتمع.
ولكن برغم هذه الاختلافات العميقة بين الإسلاميين والقوى المدنية التى أظهرتها هذه الأزمة الأخيرة، إلا أننى ما زلت أرى أن ما يجمعنا كمصريين أكبر وأهم وأعمق مما يفرقنا. على أننى أرى أيضا ضرورة العمل على رأب هذا الصدع الذى يهدد استقرار الوطن ويزيد من انقسام المجتمع. وأهم ما يجب عمله هو أن يسحب الرئيس إعلانه الدستورى المشئوم، وأن يبدى استعدادا لتفهم أسباب اعتراض الكثيرين على إعلانه، فليس كل من اعترض على الإعلان من الفلول أو من أتباع النظام السابق، بل أكثرهم ثوريون يبغون انتصار هذه الثورة ويريدون الحفاظ على وحدة المجتمع.
لا أحد يطالب الرئيس بالتخلى عن ميوله وانتماءاته، بل نطالبه بأن يستمع للجميع، وأن يحترم رأى من يعترض عليه أكثر من رأى من يوافقه، وأن يتصرف كرئيس لكل المصريين وليس كممثل لطائفة واحدة منهم.