Press "Enter" to skip to content

لغة العلوم وهويتها

نُشر في الشروق في ١٨ نوفمبر ٢٠١٢

منذ أيام لبيت دعوة بعض الأصدقاء لجلسة نقرأ فيها نص الدستور الذى أوشكت اللجنة التأسيسية من الانتهاء منه والتى نشرت الصحف منذ أيام مسودته الأولى. وما إن شرعنا فى القراءة المتأنية حتى أصابتنا الدهشة من سوء الصياغة وانعدام الرؤية وتضارب الأفكار وعوار المنطق الذى يضرب كل أبواب ومواد هذا النص المحورى، وكأن اللجنة التأسيسية كان شغلها الشاغل كتابة موضوع تعبير يجتر العبارات الفضفاضة، فصيحة اللسان، ولكنها خاوية المعنى، منعدمة القيمة.

ثم اختلفنا فى تحديد أكثر المواد طرافة وأخفها ظلا، أهى المادة التاسعة التى تفترض أن هناك «طابعا أصيلا للأسرة المصرية»، أم المادة السابعة عشرة التى تفترض أن الدولة لها شواطئ وبحار وبحيرات يجب حمايتها، أم المادة الرابعة والخمسون التى ترمى إلى تحديد نسبة «معتبرة» من الناتج القومى للبحث العلمى، أم المادة الثانية والستون التى تنص على أن «ممارسة الرياضة حق للجميع»؟

شخصيا أرى أن المادة الحادية عشرة هى من أطرف مواد مسودة الدستور وأكثرها دلالة على العوار المنطقى الذى يسم هذا النص التعس. المادة تنص على الآتى: «تحمى الدولة الوحدة الثقافية والحضارية واللغوية للمجتمع المصرى، وتعمل على تعريب التعليم والعلوم والمعارف». وكأى موضوع تعبير كتلك التى يجبروننا على كتابتها فى المدارس، تبدو هذه المادة للوهلة الأولى مادة جيدة لا غبار عليها. ولكن عند قراءتها بتأنٍ يتبين خللها وتظهر مشاكلها. فالمجتمع المصرى، شأنه شأن كل مجتمع معقد متطور، ذى تنوع ثقافى، وحضارته متعددة الروافد، وكان الأجدى بالمادة فى نصفها الأول أن تقول «تحمى الدولة التنوع الثقافى والحضارى للمجتمع المصرى».

أما النصف الثانى من المادة، فذلك المتعلق بتعريب العلوم، فأرى أنه أيضا ملىء بالمشاكل. ذلك أن المادة كما هى تفترض أن تعريب العلوم مقصود لذاته وليس كوسيلة لغاية أخرى ينبغى تحديدها. وأظن أنه دون تحديد المقصود من تعريب العلوم لن نتمكن، كمجتمع يستخدم الدستور فى تحديد أهدافه، من النهوض بالعلوم ولا حتى بالارتقاء باللغة العربية.

وقد لا يعلم أعضاء اللجنة التأسيسية أننا قد قطعنا بالفعل شوطا طويلا فى تعريب العلوم فى النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولتوضيح ذلك أسرد، باختصار، قصة المجهود الجبار الذى بٌذل فى تعريب الطب فى المدرسة المصرية للطب البشرى التى تعرف الآن بكلية طب قصر العينى.

مدرسة ومستشفى القصر العيني عند افتتاحه عام ١٨٢٧ عندما كان لا يزال في أبي زعبل

مؤسس هذه المدرسة، كما هو معروف، هو محمد على باشا الذى كان قد شرع فى تأسيس جيش نظامى حديث والذى رأى أن هذا الجيش يلزمه إدارة صحية تعنى بصحة جنوده. أما أول مدير لهذه المدرسة فهو الدكتور أنطوان بارطلوميو  كلوت، المعروف بكلوت بك، الذى أشار على الباشا بضرورة إنشاء مدرسة طبية لكى تكوّن لبنة للإدارة الصحية المنشودة.

ومن الملفت للنظر أن كلوت بك، الفرنسى، أشار على محمد على، الذى كان يتحدث التركية والذى لم يتعلم العربية قط، بضرورة استخدام اللغة العربية كلغة التدريس الأساسية. ففى مقابلات عديدة أكد الطبيب الفرنسى للباشا التركى أن الأطباء «أولاد العرب»، أى المصريين، يجب أن تكون لهم القدرة على التواصل مع مرضاهم وإيصال المعلومات الطبية لهم بنفس لغتهم.

وبعد أن اقتنع الباشا بذلك وبعد أن افتتحت المدرسة فى عام 1827 ظهرت مشكلة عويصة، فالطلاب كانوا كلهم أزهريين لا دراية لهم سوى بالعربية، أما المدرسون فكان أغلبهم فرنسيين لا يتكلمون العربية. على أن كلوت بك ابتدع وسائل مكنته من التغلب على هذه العقبة الهيكلية التى كادت تهدم مؤسسته الوليدة. فقد استقدم عددا من المترجمين الشوام الذين انحدروا من عائلات شامية كانت قد وفدت على مصر فى القرن السابق، وعهد لهم بترجمة الدروس الفرنسية قبل إلقائها على الطلاب. ولكى يتأكد كلوت بأن هؤلاء المترجمين قد فهموا ما ألقى عليهم، طلب منهم أن يعيدوا ترجمة المحاضرة إلى الفرنسية لكى يراجعها المدرسون.

وبمرور الوقت اكتسب هؤلاء المترجمون دراية بمواضيع المحاضرات التى كانوا يترجمونها، أى الطب الحديث، فبدأ كلوت بك يأمرهم بترجمة المؤلفات الطبية وليس المحاضرات فقط. كما كلف أوائل الخريجين بنفس الشىء. ولكى يحسن من النصوص المترجمة أمر بتعيين مصححين من الأزهر فى مطبعة بولاق التى شرعت فى نشر هذه المؤلفات.

وبحلول الثمانينيات من القرن التاسع عشر كانت مطبعة بولاق قد تمكنت من نشر أكثر من مائة كتاب فى شتى فروع الطب الحديث من أمراض النساء والولادة لأمراض الأطفال، ومن علوم الجراحة للتشريح، ومن الصحة العامة للتمريض، وكل ذلك تم بلغة عربية صحيحة جزلة. وقد ساعد فى الأمر أن الكثير من الأزهريين الذين عملوا فى هذا المشروع العملاق، كأطباء ومترجمين ومصححين، كانوا على دراية بالتراث الطبى العربى القديم، وأهمه تراث ابن سينا، الأمر الذى مكنهم من إيجاد مرادفات عربية للكثير من المصطلحات الطبية الفرنسية التى كانوا يترجمونها. كما كان لإقبالهم على اللغة الفرنسية، قراءة وكتابة وتحدثا، خاصة بعد أن سنحت لبعضهم الفرصة للذهاب فى بعثات طبية لباريس، الدور الكبير لإنجاح هذه المشروع الرائد.

إن تعريب الطب الذى تم بالفعل فى مصر فى القرن التاسع عشر مشروع جدير بالتأمل والدراسة، فهو، أولا، مشروع كان له أعظم الأثر فى إنجاح الجهد الرامى للارتقاء بمستوى صحة المصريين، وهو الجهد الذى كلل بالنجاح عندما نجح خريجو قصر العينى فى القضاء على الأوبئة مثل الطاعون والكوليرا، وفى إجراء أول مشروع قومى خارج أوروبا للتطعيم ضد الجدرى، وفى وضع قاعدة للبيانات الحيوية مكنت مصر من القيام بأول تعداد حديث للسكان فى المنطقة بأسرها.

وهو، ثانيا، مشروع لم ينبع من الاقتناع بضرورة تعريب الطب كغاية فى حد ذاتها، بل كوسيلة لغاية نبيلة، ألا وهى تحسين مستوى معيشة المصريين والارتقاء بصحتهم.

والأهم من هذا وذلك هو مشروع لم ينبع من الإحساس بضرورة الحفاظ على الهوية والعمل على حماية الوحدة الثقافية للشعب المصرى، كما تصرح المادة الحادية عشرة من مسودة الدستور. بل يمكن القول إن سبب نجاح هذا المشروع تحديدا هو عدم الهوس بسؤال الهوية هذا. فالاعتزاز بالذات والثقة بالنفس والإيمان بالمستقبل وليس التمسك بأصالة الهوية ونقاء الجوهر هو سر نجاح هذا المشروع العملاق، وإلا كيف نفسر إقبال الباشا التركى والطبيب الفرنسى على اتخاذ العربية لغة للتدريس فى قصر العينى، وكيف نفسر إقبال الأطباء الأزهريين على تعلم الفرنسية بجانب إتقانهم للعربية واعتزازهم بها؟

إن ثقافة أمة ما لا تزدهر بتقوقعها داخل نفسها أو بتمسكها بنقاء هويتها أو بتوجسها من الآخر المجاور أو الدخيل، بل بالعكس تماما: إن الثقافة تزدهر بالإقبال على الثقافات الأخرى، تأخذ منها وتضيف إليها، وتطوع ما أخذته واقتبسته لتصهره فى بيئتها وتراثها، ولكى تعيد تصدير ما اقتبسته فى شكل قد يوائم الثقافات والحضارات الأخرى.

ولكن للأسف لا يبدو أن تلك الرؤية للثقافة وسر تقدم العلوم وأسباب ازدهار المعارف هى التى ألهمت أعضاء اللجنة التأسيسية فى صياغة ذلك النص التعس الذى أتحفونا به. ويا ليتهم بذلوا الجهد القليل فى قراءة تاريخنا الحديث وفى استخلاص العبر من واحدة من أنجح تجاربنا فى تعريب العلوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.