نُشر في مجلة “العربي” في عدد مايو ٢٠١١
نجح د. خالد فهمي، أستاذ مشارك في قسم دراسات الشرق الأوسط، جامعة نيويورك. ورئيس قسم التاريخ فــي الجامعة الأمريكية بالقاهرة في إثارة اهتمام القراء المهتمين بقضية الحداثة في تاريخ المجتمعات العربية خلال القرن التاسع عشر، وبفضل دراسته التي نال بها درجة الدكتوراه من جامعة أوكسفورد عن الجيش في عصر محمد علي والتي صدرت في كتاب بعنوان «كل رجال الباشا» في العام 2001 أعيد النظر في عدة مقولات مرتبطة بالنهضة التي أسسها محمد علي باشا، وفي مؤلفه الثاني «الجسد والحداثة في مصر» بدا واضحًا اهتمامه بمسألة الجنسانية في المجتمع العربي وعلاقتها بالتمدين في القرنين 19 و20. وفي صفحة تعريفه في موقع جامعة نيويورك يصف د. خالد فهمي لب بحثه بأنه هو السؤال «من يملك الجسد؟» أهو الشخص القابع في هذا الجسد؟ أم الدولة؟ أم المجتمع؟ أم الله الذي منح الشخص الجسد كعهدة مستردة؟ وخلال مسيرته تحمّس البعض لأطروحاته ووصفت بأنها «تمثل تحديًا للنمط الوطني السائد في الكتابة التاريخية ومسلماتها، فضلاً عما تميزت به هذه الأطروحات من إثارة للمشكلات المنهجية من خلال مقدمات وفرضيات نظرية تفتح النقاش وتجدد الوعي بالمعرفة التاريخية، خاصة في ضوء استخدامه للتفكيك ومنهج ميشيل فوكو وجاك دريدا في البحث التاريخي وبطريقة أعادت النظر في الخطاب القومي للتاريخ المصري في نظرة نقدية، باعتباره خطابًا يركز على تاريخ الحكام والقادة العظام بدرجة غاب معها تاريخ الأفراد العاديين، رجالاً ونساء، في الريف والحضر، لذلك ركز فهمي كما يقول المؤرخ البارز أحمد زكريا الشلق على تاريخ «المصريين العاديين» أو على تاريخ الأفراد والناس، أو ما يسميه البعض «التاريخ من أسفل» البناء الاجتماعي، كما عالج في مؤلفات أخرى العلاقة المعقدة بين الشريعة والإجراءات والتحقيقات الجنائية التي أدخلت حديثًا، والتي لا تستند في مرجعيتها إلى الفقه الإسلامي،
وهو هنا في حوار مع الصحفي المصري سيد محمود الذي تركزت كتاباته أيضا في مجالي الأدب والتاريخ يتابع سيرته العلمية والقضايا الرئيسية في عمله كمؤرخ إشكالي.
كيف جاء التحول من دراسة الاقتصاد إلى دراسة التاريخ ثم محاولة العمل على تقديم ما يمكن اعتباره دراسات بينية تدمج بين أكثر من تخصص في العلوم الإنسانية؟
– لا أعتبر أن في الأمر أي تحول بالمعنى الذي تقصده، فطبيعة التربية الأكاديمية في الجامعة الأمريكية تسمح بالانفتاح على عدة علوم إنسانية، فمع الاقتصاد الذي كان تخصصي الرئيسي درست التاريخ والفنون والعلوم السياسية» كتخصص رئيسي، ما يعني أن البيئة العلمية التي نشأت فيها سمحت لي بذلك، كما أن مادة الاقتصاد ذاتها، كانت تشمل مادتين لدراسة التاريخ الاقتصادي. لذلك عندما أنهيت دراستي فكرت في دراسة الاقتصاد كمحاولة لفهم اللحظة التي نعيشها من خلال العلوم السياسية، وبدأت الحصول على برامج دراسية تخصصية في العلوم السياسية، ولما شرعت في إعداد رسالة الماجستير عام 1986 فكرت في دراسة « تجربة الانفتاح في مصر» وحددت ثلاثة موضوعات كبنية أساسية لهذا الموضوع، كان الأول مرتبطًا بصدور قانون الاستثمار عام 1974 والثاني يتعلق بقانون النقد الأجنبي والثالث حول قانون التجارة الخارجية وكلها قوانين جاءت بعد العام 1974، وعندما بدأت دراسة هذه القوانين بدأت بالرجوع إلى نصوصها وطبيعة النقاشات التي دارت حولها في وسائل الإعلام ومضابط مجلس الشعب ( البرلمان)، ومن هنا بدأت فهم «فعل القانون وتأثيره» وهو فهم لازمني في أعمالي التي جاءت بعد ذلك، على الرغم من أنني لم أدرس القانون أو الحقوق! واللافت أنني تعلمت من قراءة القوانين الانخراط في الممارسة السياسية، وعندما أنهيت دراسة هذا الموضوع، كنت في تلك السنوات أقع تحت تأثير الضغط الاجتماعي الذي يسخر من الطالب الذي يدرس التاريخ ويضحي بمستقبل باهر في دراسة العلوم السياسية، ووقتها كانت سنوات الانفتاح في عزها وفرص العمل في البنوك الاستثمارية مغرية، لكن لم أر نفسي في مستقبل من هذا النوع.
وما المستقبل الذي قررت اختياره؟
– عندما أنهيت دراسة الماجستير بدأت فكرة الدكتوراه تطرح نفسها، ومع طرح السؤال عن موضوعها كانت لدي أستاذة أمريكية رائعة في الجامعة تقوم بدراسة تاريخ القضاء المصري الحديث وتعيش في مصر منذ العام 1968، ولديها ميول يسارية واضحة وهي التي وجهتني نحو الانشغال بسؤال: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن العرب؟
وهذا سؤال فلسفي كان مطروحًا في كل المجالات ولفتت نظري إلى مجموعة من المؤرخين اليساريين في إنجلترا، ومنحتني مجموعة من مؤلفات هؤلاء وطلبت مني الاطلاع عليها خلال إجازة صيفية والغريب أنني اكتشفت بعد سنوات أن هذه الكتب كانت تحتوي على أهم ما قدمته عقول العالم في موضوع السؤال. وبفضلها بدأت الاهتمام بمفهوم نمط الإنتاج الآسيوي وبدأت أخاطب مجموعة من المؤرخين المهتمين بالموضوع في إنجلترا ومن بينهم المؤرخ الإنجليزي الشهير روجر أوين، الذي يكتب الآن بانتظام في صحيفة «الحياة» التي تصدر من لندن، وبالفعل تم قبولي بجامعة أوكسفورد وعندما التقيت بأوين قال لي: أنت تطرح السؤال بشكل خاطئ!
لأنك تسأل عن شيء لم يحدث، ولفت نظري إلى أنني أقيس تأخر الشرق قياسا إلى تقدم الغرب وهذا قياس خاطئ من وجهة نظره.
وهل كان هذا الحوار مدخلاً لتحويل مسارك البحثي لنقد مفهوم الحداثة وفق النمط الغربي وهي نقطة رئيسية في مشروعك كمؤرخ؟
– لا أستطيع أن أزعم ذلك، ربما لأن المعنى الذي تقصده كان مضمرا في شواغلي الأخرى خلال تلك السنوات، وذلك بفضل الكتب التي تمكنت من قراءتها، وعلى رأسها كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد الذي كان نقطة تحول جذرية في الأوساط الأكاديمية وكان أوين نفسه قد تنبأ بخطورة الكتاب ووصفه بأنه «كتاب قنبلة» على الرغم من الحذر التقليدي الذي تتسم به المؤسسة الأكاديمية البريطانية.
لكن ما أذكره أن أوين طلب مني إعداد مجموعة خطط لدراسة الدكتوراه، فكتبت خطة لدراسة «مدينة أسيوط» بتأثير مجموعة المؤرخين الذين لفتوا نظري لدراسة التحول الرأسمالي في المدن الهامشية، وكانت الخطة الثانية تقوم على دراسة مؤسسة لأقرأ من خلالها التحولات الاقتصادية التي ربطت مصر بالنظام الرأسمالي، وكنت خلال تلك الفترة بدأت قراءة ميشيل فوكو وجاك دريدا وانتبهت لحديث الأول عن علاقة القوة والسلطة، وعندما بدأت الاطلاع على وثائق عصر محمد علي داخل دار الوثائق المصرية كنت قد وجدت طريقي بمعنى ما.
هل كانت قراءة كتابات ميشيل فوكو حافزًا للنظر إلى الجيش كمؤسسة عقابية أو مؤسسة انضباطية على النحو الذي تجلى في كتابك المهم «كل رجال الباشا»؟
– وقعت في تلك السنوات الأولى تحت تأثير كتاب آخر للمؤرخ الأمريكي ثيموني ميتشل الذي كتب كتابه المتميز «استعمار مصر» الذي يدرس تأثير أوربا الاستعماري على مصر في القرن التاسع عشر. ويسلط مؤلفه الضوء على توازيات بين ممارسات كالتخطيط الحضري الاستعماري، وبناء القرى النموذجية، وإدخال التقنيات العسكرية الجديدة، وفتح عالم «الحريم» ومحاولة تأسيس السلطة السياسية على منهج انضباطي للتعليم المدرسي، ونشر الطرق الجديدة للكتابة والاتصال. وفي الكتاب يرى ميتشل أن هذه الممارسات قد أدخلت إلى مصر في سلسلة من التعارضات – بين البنية و«الشيء»، بين المفهومي والمادي، بين العقل والجسم، بين النص و«الواقع» – زودت السلطة الاستعمارية بكل من آليتها وسلطانها.
وهو كتاب رائد في اكتشاف بعض الطرق النقدية التي شقها عمل ميشيل فوكو وجاك دريدا. وهو إحدى المحاولات القليلة لمد التفكيك إلى مجال التحليل التاريخي والسياسي، لتقديم نقد تفكيكي للحداثة.
وهذا الكتاب كان ملهما بالمعنى الحقيقي، فعندما بدأت بدراسة الجيش كمؤسسة اقتصادية لم أجد المادة العلمية التي تكفي لإثارة شغفي بالموضوع على هذا النحو، إذ كنت أرغب في تفكيك هذه البنية الصناعية للدولة تفصيلا ومن داخل أدق وحداتها الإنتاجية. ولكن خلال العمل في دار الوثائق وجدت معلومات هائلة عن الجيش ووثائق دالة على وجود خطاب سلطوي وتغري بتطبيق منهج ميشيل فوكو وجاك دريدا على المؤسسة العسكرية وقلت عند لحظة لو أن فوكو ودريدا وجدا ما وجدت من وثائق لفكرا معا في كتابة كتاب عن «محمد علي والجيش» وهذا ما شرعت فيه.
وخلال تلك الفترة هل كنت قد اطلعت على الإنتاج العلمي للمؤرخين المصريين الذين انشغلوا بالفترة ذاتها وعملوا على الأرشيف العثماني وأرشيفات المحاكم الشرعية لإعادة قراءة تلك الفترة وبالتحديد أعمال رءوف عباس وعبدالرحيم عبدالرحمن وعبدالله عزباوي ومن قبلهم الأمريكي بيتر جران؟
– حتى تلك الفترة لم أكن على وعي بطبيعة هذا الإنتاج العلمي وخلفيات أصحابه ومساراتهم الأيديولوجية، لكن قرأت بالطبع ما أنتج عن فترة محمد علي ووجدت أن ثمة شيئًا ناقصًا، على الرغم من أن الكتاب الذي قدمته عفاف لطفي السيد عن «مصر في عهد محمد علي» كان له تأثير كبير في الأوساط الأكاديمية في الغرب. كذلك كنت تحت تأثير كتاب عبدالرحمن الرافعي «عصر محمد علي» الذي اعتبرته كتابا متميزا سيما وأنه صاغ البنية المركزية عن مقولة «نهضة الباشا» التي جاء الغرب ليقوضها، ومن اللافت أن جميع من جاء بعده من المؤرخين الأكاديميين أعادوا إنتاج نفس الفكرة وتم ترديدها بأساليب متنوعة، وعندما بدأت العمل كان من الصعب أن يتم تقبل نفي فكرة نهضة محمد علي على يد مؤرخ مصري شاب.
ومن أين جاءتك جرأة تقويض هذه الفكرة الشائعة التي تضرب في عصب الوعي التاريخي بمعنى النهضة المصرية؟
– أنت تعلم أن طالب الدكتوراه لابد أن يكون ذا وجهة نظر نقدية في موضوع بحثه، وبالتالي لم آت لأقدم موضة جديدة وإنما ما كتبته قرأ على نحو استعمالي، فالبعض اعتبره تقدميًا والبعض الآخر رآه رجعيًا، وهذا مفهوم، فالمراجعة السلبية الوحيدة لكتابي اعتباره «رجعيا»، ورأت أن دراسات التاريخ الاجتماعي لمصر كانت قد تطورت بفضل دراسات المؤرخ الفرنسي أندريه ريمون وتلاميذه ممن ركزوا على القوى الاجتماعية، إلى أن جئت أنا لأعيدها من جديد إلى دراسة تأثير الفرد بالإشارة إلى ما قدمته حول محمد علي ودوره، والحقيقة تفهمت المنطق الذي يقف وراء هذا الرأي.
لكن هناك رافدًا آخر للإجابة على سؤالك بشأن جرأتي في الاقتراب من هذا الموضوع، وهو أنني في نفس التوقيت كنت تعرفت على النقد الذي تعرضت له المدارس القومية في كتابة التاريخ، خاصة في الهند بفضل تأثير مدرسة التابع على اتجاهات دراسة التاريخ وكان السؤال : لماذا أثر إدوارد سعيد في هؤلاء ولم يؤثر لدينا بقدر كافٍ.
وما هي الإجابة التي توصلت لها؟
– أعتقد أن من يعملون في الهند منفتحون على الإنتاج العلمي الغربي أكثر بسبب اللغة الإنجليزية وقدرتهم على متابعة ما يكتب فيها، فضلا عن وجود هاجس سياسي قاد منظري هذه المدرسة في شأن إغفال المدرسة الليبرالية والماركسية لدور الفلاحين وهم موضوع هذه النظريات. وأعتقد أن سعيد لم يقرأ جيدا في عالمنا العربي بسبب صعوبة الترجمة التي ظهرت لكتابه «أول مرة» وكانت لكمال أبو ديب ، فضلا عن كون التجربة الهندية هي الأخرى مضت في سياق تطور ديمقراطي لم نعرفه، على الرغم من طغيان الرأسمال فيها والتناقضات. ولاحظ أن زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الأخيرة للهند (نوفمبر 2010) فيها اعتراف بتطور تجربة الهند بطريقة يصعب تجاهلها، لكن من الصعب أيضًا تجاهل مسئولية الصراع العربي – الاسرائيلي عن إنهاك مسيرتنا نحو الديمقراطية وتأخرنا، إذ جرى استخدام هذا الموضوع كفزاعة لإرهابنا من أشياء كثيرة من بينها الديمقراطية. وإجمالا أتصور أنه لم يكن لدى مؤرخينا الجرأة التي تمكلها المؤرخون الجدد في إسرائيل أو الهند، الذين طرحوا أسئلة حقيقية في شأن وعيهم بتاريخ مجتمعاتهم، فقد شهدت الهند وتركيا وإسرائيل موجات نقد للخطاب القومي هناك، بينما لا يوجد لدينا خطاب نقدي عن التجربة الناصرية حتى الآن، صحيح توجد كتب تسب التجربة وتنتقدها، لكنها لا تدرج تحت فكرة المراجعة وإنما التشفي وهناك فارق بين الموضوعين.
ألا تعتبر كتاب صادق جلال العظم «النقد الذاتي للهزيمة» كتابًا من هذا النوع القائم على مراجعة جذرية للفترة كلها؟
– كلامك صحيح إلى حد كبير، فهو كتاب استثنائي بكل المقاييس، لكنه لم يخرق تيارا وظل مجرد موجة.
وأين تدرج تحولات المفكرين المصريين أمثال أنور عبد الملك وطارق البشري وعادل حسين التي طالت رؤى ذاتية وتصورات موضوعية عن الفترة الناصرية؟
– صحيح أجرى هؤلاء تحولات أو مراجعات، لكن أصحابها ليسوا أكاديميين ولم تخلخل أعمالهم البيئة الأكاديمية التي ظلت تطرح تساؤلات في الإطار القومي.
وأعترف أنني عندما بدأت عملي لم يكن في بالي كل هذا الذي أقوله الآن، وإنما عملت على أرشيف محمد علي بدأب لأكتشف أنني متعاطف مع جنود جيشه، ووجدت أن من واجبي الحديث عن هؤلاء وليس عنه.
في مقدمتك لكتاب «كل رجال الباشا» كان لديك هذا الخطاب النقدي إزاء الآخرين وقلت إن محاولاتنا لنقد المركزية الغربية لم تكن بالعمق الكافي، فقد استنبطنا مفاهيم غربية في محاولة نقد الغرب ألا تعتبر ما تقوله مدهشًا لأن تكوينك الأكاديمي نتاج للمدرسة الغربية؟
– لم أفكر في مسيرتي الأكاديمية على هذا النحو، ربما لأنني لم أتعلم أن الغرب هو النموذج بل إن كل الأساتذة الذين قادوا خطواتي تعلمت منهم الانقلاب على هذا النموذج ونقده، وقد وجد بعضهم في المنطقة كصورة من صور التعاطف الأصيل مع قضايانا القومية، وخلال سنوات عملي في الغرب لم يكن نموذجًا باهرا لهذه الدرجة. صحيح كانت تجربة إيجابية واستمتعت بها، لكن لم أنبهر بداوفع متعلقة بالهوية القومية مثلا وإنما لأن تجربتي مع الغرب إجمالًا كانت متميزة، فقد توافرت لي إمكانات ووقت وفرص للتعلم إلى جانب أساتذة يساعدون بشكل سخي.
في سياق العلاقة مع الغرب كيف تقرأ كتاب الدكتور حسن حنفي «مقدمة في علم الاستغراب» وهو يزعم مخالفته للهيمنة المركزية الأوربية؟
– في اعتقادي أنه كتاب نموذجي لنقد المركزية الغربية بالوقوع في فخها، بالتالي لم يحل المشكلة، وقيمة كتاب الاستشراق الذي قدمه سعيد أنه كان يأتي بأسئلته عن طريق النقد الأدبي وسعى ليراكم معرفته فوق أفكار كان يتم العمل عليها منذ الستينيات، فالمصري أنور عبدالملك منذ أواخر الخمسينيات كان يعمل على هذا الموضوع بأدوات عالم الاجتماع المهموم بالتاريخ، بل إن أستاذي روجر أوين كان من البداية يشعر بشيء ما خطأ في طرق دراسة المستعمرات البريطانية، لذلك عندما جاء إلى مصر قدم دراسته عن تجارة القطن، لم يدرس القرآن الكريم أو السنة النبوية، لم يعترفوا به في جامعة أوكسفورد كمؤرخ اقتصادي، وظل يقوم بالتدريس في قسم الدراسات الشرقية، لأن الاعتقاد الذي كان راسخا في المؤسسة البريطانية أن الشرق ليس له تاريخ اقتصادي، من هنا أعتقد أننى أنتمي لهذه المدرسة التي تطرح أسئلة عن شكل العلاقة مع الغرب، من داخل الثقافة الغربية نفسها، فأساتذتي كانت لديهم دائما القدرة على تقديم نقد ذاتي لهذا الغرب دون شعور بالأسى أو جروح الهوية.
عندما تعاملت مع تجربة مصر في عصر محمد علي كان لديك إصرار على وضعه ضمن السياق العثماني، خلافا للشائع باعتباره «متمردًا» على هذا السياق، فما مصدر تلك الشجاعة؟
– لم أتأسس أكاديميًا في هذه المدرسة، ولا أعتبر أن ما قدمته يعد نوعًا من الشجاعة فدراسات سعيد في الاستشراق ودراسات التابع دراسات موجودة بالفعل وأنا لم أبدعها، وفي نفس الوقت لابد من دراسة محمد علي كجزء من الدراسات العثمانية، فأنا عندما ذهبت سنة 1988 إلى أوكسفورد كان أول ما قاله لي روجر أوين : متى ستتعلم اللغة العثمانية؟ فقلت له إني أدرس القرن التاسع عشر ولا أعمل على العصر العثماني، فقال لي إن مستقبلك لدينا يعتمد على الدراسات العثمانية، فتعلمت التركية وذهبت إلى إسطنبول واكتشفت الطفرة التي تحدث هناك والتي تشبه تأثير دراسات التابع، حيث يجري المؤرخون الأتراك مراجعات دائمة من خلال أسئلة من نوع : هل من الممكن النظر إلى الدولة العثمانية ليس باعتبارها مركزًا وأطرافًا؟ وهل يمكن تخيلها بشكل مختلف؟ والسؤال الأكبر هو: إعادة النظر في القرن الثامن عشر وتقييمه، هل كان بداية الانحطاط والتدهور أم إعادة هيكلة للدولة ؟ وأن دولة ظلت مستمرة ستمائة عام لا يمكن القول بأنها تتدهور.
وهل تختلف تلك الأسئلة عما كان مطروحًا في سينمار التاريخ العثماني الذي رعته الجمعية التاريخية في مصر؟
– نعم تختلف لأن المشتغلين على التاريخ العثماني لا يدرسون التاريخ العثماني وإنما مصر أو الشام في فترة التاريخ العثماني، وهو عن قصد تأكيد لـ «الهوية المصرية»، وبعضهم يقول إن العثمانيين هم استمرار للحكم المملوكي (ويستمرون في هذا الطريق) لكننا لسنا جزءا من الدراسات العثمانية، وبالتالي ليست هناك دراسة للتاريخ العثماني ولا حضور للمؤتمرات في إسطنبول ولا غيرها ولا مقارنة لتاريخنا مع تاريخ بغداد والشام والبلقان، فما بالك بالأناضول وإسطنبول.
وبم تفسر هذا الانشغال المبالغ فيه بالهوية في تيار المدرسة التاريخية، هل هي المخاوف التقليدية من فكرة الانحطاط وما يتبعها من تدهور ومن ثم تكون هذه الدراسة آلية دفاعية أكثر منها آلية بحث؟
– أنا أتعاطف معها لأني أعرف مصدرها وهو الانكسار الذي نمر به، لذا أقول إن الأتراك والإسرائيليين والهنود استطاعوا مراجعة تاريخهم، لأن لديهم إحساسا ما بالانتصار، الأمر الذي مكنهم من المراجعة، وأنا أعلم أن السؤال الذي أطرحه صعب على النفس، فما قلته عن محمد علي في أول قراءة لي في مصر بعد عودتي أثار هجومًا شديدًا، فقال لي أحدهم داخل المركز الفرنسي للدراسات القانونية والاقتصادية (سيداج): أنت تتكلم هنا عن الثمن الباهظ الذي دفعه المجتمع المصري لنهضة محمد علي وأنا اعتبره تكلفة مشروعة، لكن هل تسأل دول الثورة الصناعية مثل هذا السؤال عن الثمن الذي دفعه الناس؟ فقلت له: بالطبع سوف أسأل وهذا سؤال مشروع جدا، ماذا حدث للمرأة في الثورة الصناعية وكذلك الأطفال والعمال؟ فهذا جزء أساسي وإذا لم أتكلم عنه كجزء من تأريخي للثورة الصناعية وإذا تكلمت عنه فقط كنتاج اكتشاف قوة البخار وعظمة رأس المال، أكون كمؤرخ قد أغفلت جزءا مهما جدا.
لكن الفرق سيكولوجي بالأساس وهو أن الثورة الصناعية نهضت، بينما لم يحدث عندنا ثورة صناعية ولا نهضة، لذا فمن الصعب سيكولوجيًا قبول السؤال.
وكيف تعاملت مع التفاوت في استقبال كتابك بين حفاوة إعلامية لافتة بالنص وغضب منه داخل الأوساط التاريخية؟
– نعم هذا ما حدث، واللافت أن جزءا كبيرا من الجانب الإعلامي لاستقبال الكتاب كان أدبيا ومصدره صحيفة «أخبار الأدب» حيث قدم الكاتب الصحفي ياسر عبدالحافظ أول مراجعة للكتاب وهي التي اكتشفتني وقدمتني لجمهور الصحيفة ولوسط غير أكاديمي. لكن المفارقة التي تحدثت عنها تفسيرها سهل وهو أن أقسام التاريخ في أي مكان بالعالم، من أكثر الأقسام تقليديا ومحافظة، وفي الخارج حدثت طفرة حينما فتحت هذه الأقسام على النقد الأدبي والفلسفة فأصبح فيها شغل جديد وهو ما لم يحدث في العالم العربي، ومن الجانب الآخر قدمت نقدا ليس فقط لمحمد علي ولكن للمدرسة التاريخية نفسها، فكان هذا سببا إضافيًا لعدم القبول بأفكاري، والسبب الثالث هو أن البعض ضايقه بالفعل ما أقوله عن محمد علي لأسباب سياسية وعقائدية، لأن بعض القوى تساويه بعبدالناصر وبالتالي فهي ضربة للفكرة القومية وكل هذه الأسباب مجتمعة بررت النقد والفتور إن لم يكن العداء الذي واجهني من قبل المدرسة الأكاديمية التاريخية في مقابل الحفاوة التي جاءت من المهتمين بالأدب، ربما لأنهم أكثر تفتحا وهم جيل أصغر وقابليتهم للجديد أكبر ولديهم شغف وفضول ليسمعوا ما أقول.
يلفت النظر في مشروعك الانبهار بالوثيقة وتقديسك لها، أو لنقل تعدد زوايا قراءتها، بينما التحولات الحاصلة في الكتابة التاريخية تمضي في طريق آخر دون اعتبار للوثيقة أو عدم النظر لها كشيء أساسي. فمن أين تأتي هذه المفارقة؟
– كما تقول، أنا أعتمد على الوثائق، لكني لا أرى أنها تقول شيئا واحدا – بسبب التعدد في القراءة -، وهذا هو الاختلاف، فأستطيع أن أقول عن نفسي إني عكس الكثير من المؤرخين المشتغلين على التابع أعتمد على الوثائق. بينما أغلبهم لا يشتغلون على الأرشيف، ولكني في نفس الوقت ضد المقولات الراسخة عن قداسة الوثيقة الموجودة لدى أغلب من يؤمنون بأن التاريخ له تفسير واحد وقراءة واحدة.
لديك أيضا شغف الاحتفاء بالحكاية وربما هذا ما لفت نظر الأدباء إلى كتاباتك، والرهان على السرد التاريخي يخفت في الدراسات الحديثة الشغوفة أكثر بالاستخلاصات النظرية؟
– أنا شغوف بالمؤرخين الذين يحكون الحكايات، وهناك كتب أخرى في مجالنا تكون فيها الحكاية قصة شائقة وتطرح أسئلة، وهناك أساليب متعددة في الكتابة التاريخية، فهناك من يحكي الحكاية كلها ثم يبدأ في طرح الأسئلة، وهناك من يحكي ويسأل، لكن جميعهم يشتركون في التشويق والأسئلة العميقة جدا، ولعل هذا الإيمان بالحكاية هو ما دفع الأدباء لقراءة كتبي، فمادتي تساعدهم وتعطيهم أفكارا للكتابة.
أشرت إلى أن البعض انزعج من كتابك «الرئيس» لأنه يضرب فكرة «القومية» وربما الريادة وإذا تكلمنا عن مسألة الانشغال بالريادة، فكيف تفسر انشغال المؤرخين بها وهل تعتبر السؤال حولها، مرضيًا أكثر من اللازم؟
– شخصيا لم أنشغل به أبدا، ولا أعرف بالتحديد متى باتت «الريادة» هاجسا مصريا، لكن من السهل أن نقول الآن إنها علاقة مرضية فنحن نتغنى بأمجادنا، لكن من الممكن أيضا أن نقول إننا بحاجة إلى قراءة الريادة قبل الريادة لو صح هذا التعبير، مثلا الريادة في الستينيات أو حتى الأربعينيات ما هي طبيعتها؟ أقول هذا من واقع اشتغالي على دراسة القاهرة والإسكندرية والفرق بينهما، فقد لفت نظري دائما أن هناك ولعًا غربيًا بالإسكندرية يرثي المجتمع المنفتح الذي عرفته، وفي كل الكتب التي تصدر عنها ثمة إصرار على أسطرة المدينة (إضفاء طابع أسطوري عليها) ربما لأن فكرة تعدد الثقافات هي معضلة المجتمعات الأوربية والأمريكية حيث هاجس التعامل مع التنوع وهواجس الاندماج التي تؤرق هذه المجتمعات، ومن هنا جاء الولع بالنموذج السكندري وبالأندلس أيضا وبدرجة أقل «أزمير» و«اسطنبول» و«بيروت» وسالونيك، فهي الأربع حواضر الأوربية التي فقدت، وأنا أفهم من أين يأتي هذا وللأسف نردده هنا مثل الببغاوات من باب التغني بالقاهرة الخديوية والإسكندرية المنفتحة، بينما أتعامل كدارس مع هذا الخطاب كما تعاملت مع جيش محمد علي، وأسال: أين السكندريون من كل هذا؟ والتحدي الذي يواجهني هو كيف تعيد كتابة تاريخ المدينة دون الوقوع في فخ الهوية الخالصة ودون القول بأننا نحن أصحاب البلد الأصليون وهم الوافدون فهو أيضا تفكير قومي، وأنا أحاول ألا أقع في ذلك.
تقصد أنك معني أكثر بــ«ريادة» ما قبل الريادة السياسية التي كرسها النظام الناصري؟
– دعني أقل إني تعلمت عروبتي خارج القاهرة، ففهمت معنى أن أكون عربيًا باحتكاكي مع عرب المهجر الأوربي، وتقديري أن القاهرة لم تعد مدينة عربية نتيجة نزعة الريادة الشوفونية هذه، وهناك سؤال آخر يشغلني وهو أن قاهرة الستينيات أيضا وفي عز الناصرية كانت منفتحة على العرب أكثر من الآن، وربما كانت بالفعل عاصمة عربية أكثر من الآن ولم يكن فيها «هاجس الريادة» لأنها قيمة كانت موجودة على الأرض بالفعل وفي خطاب الحياة اليومية ذاته، وأعتقد أن الريادة الإيجابية تأتي من الانفتاح وليس بترديد الشعارات، فأنت تنفتح وتنشئ بيئة جاذبة فيصبح المكان رائدا، ولا أستطيع بالتالي إنكار النزعة الشوفينية لدى عبدالناصر، لكنه خدمها بعاصمة جاذبة.
ثمة حالة عربية الآن تقوم على الهوس بالتاريخ، واستخدامه إذا صح التعبير عبر الدراما، فما تفسيرك لها من موقع اشتغالك بالتاريخ وعلاقته بالوسائط الدرامية الحديثة؟
– الأسباب كثيرة، فهي ظاهرة واضحة، أولا سبب هيكلي له علاقة بالمدرسة التاريخية التي ادعت موضوعيتها وانتهى الأمر بعزلتها بسبب «معطف» الموضوعية الذي ترتديه، فأقطابها كانوا يقولون: لسنا ساسة ولا صحفيين وبالتالي لسنا متورطين، وأدى ذلك إلى النأي عن التاريخ الحديث الذي انتفت معه إمكانية الموضوعية، وأنت تعرف أن لدينا تاريخا معاصرا لكن ليس لدينا مدرسة تاريخية مدربة بشكل كافٍ وإن وجد التدريب فلا نخاطب الجمهور، فلا يوجد لدينا مؤرخون لهم أدوار الآن من بعد رحيل الدكتور محمد أنيس وعبدالعظيم رمضان ويونان لبيب ورءوف عباس الذين كانوا يساهمون بمقالات في الصحافة، ومن اللافت أن أبرز مؤرخين موجودين على الساحة الآن ليسوا أكاديميين بل هم من الهواة أمثال صلاح عيسى وطارق البشري، وفي رأيي الشخصي أن طارق البشري هو أهم مؤرخ في مصر الحديثة، صحيح أختلف معه في تفسيره، لكنه الوحيد الذي له رؤية شاملة (نظرية) حول صيرورة التاريخ المصري في القرن العشرين، كما أن صلاح عيسى عنده إحساس بنبض المجتمع ويفهم التاريخ كمادة شعبية أكثر من أي مؤرخ آخر في مصر، وفي رأيي أنها ليست صدفة أنهما لم يأتيا من المدرسة التاريخية التي لا تتفاعل مع الصحافة ولا تخاطب الجمهور بهذا الشكل الشائق وكأنها تتعالى عن ذلك، وإن أرادت فهي غير مدربة على التواصل مع الناس وثاني أسباب الإقبال على التاريخ من وجهة نظري أن هناك جيلا من القراء والمهتمين والمتابعين للتلفزيون شغوف بمعرفة ماضيه. ولك أن تتصور مثلا أنه لا يوجد لدينا كتاب أكاديمي جيد عن التاريخ العربي – الإسرائيلي! وبالتالي توجد سوق فارغة لهذه المعلومات وهناك في نفس الوقت إحجام من المؤرخين الأكاديميين عن دخولها، الأمر الذي يفسح الباب لكتاب الدراما.
هل تعتبر ما يجري إيجابيا أم سلبيا؟
– إيجابيا – بالطبع – بالرغم من كل التحفظات، لأنه يطرح أسئلة ويثير اهتماما، مثلا مسلسل يحيى الفخراني ولميس جابر عن محمد علي قد يطرح أسئلة (تلخبط) الناس وهذا شيء إيجابي ولو نفذ بإنتاج كبير – لأثار انتباههم لفترة تاريخية ملتبسة وقد ينتهي بنتائج أرفضها ،لكنه يعني أن هناك وجودًا لحركة تاريخية جيدة حتى وإن كانت غير أكاديمية.
في المقابل كيف تقيم عمل مؤسسات إنتاج المعرفة التاريخية على الصعيد العربي، هل ترى أن هناك تحولات إيجابية؟
– لا أعرف الكثير عن مؤسسات كتابة التاريخ في الخليج، لكني أعرف عن بيروت والمغرب العربي، فعندما أذهب لبيروت أجد خالد زيادة ومسعود ضاهر وفي سورية عبدالكريم رافق، وهناك سعي إلى تطعيم الكتابة التاريخية بكتابات أخرى وهو ما لا يحدث في مصر، لكني لا أعرف مؤسسات أكاديمية وجامعات، لم أحضر مؤتمرات أكاديمية، وفي بيروت أنا أتكلم عن المنتج، وفي المغرب – لم أذهب بنفسي – لكن أقرأ عن انفتاح مع فرنسا وإسبانيا. لكن ما يلفت نظري في الخليج حقيقة هو أن هناك استثمارا في الجامعات الأجنبية والأمريكية تحديدا، أعرف هذا عن قرب فجامعتي التي عملت معها في نيويورك فتحت فرعا في أبوظبي وليس فرعا صغيرا بل يعد أكبر جامعة أمريكية في الخليج، تفوق بالحجم والامكانيات مقار جامعة جورج تاون قطر والسوربون.
لكن هذا الاستثمار يجد تحفظات لدى البعض وسؤالي: هل أنت مع استيراد هذه الجامعات مع عدم وجود المناخ المنتج للمعرفة الجامعية ؟ ما جدوى أن نأتي بالسوربون من دون ضمانات توفر حرية البحث العلمي؟
– بالضبط وهذا هو المطلوب، وبالرغم من كل النوايا الحسنة لدى الناس في الخليج أوافق من حيث المبدأ فالأفضل أن تشتري جامعات بدلاً من السلاح، لكن المشكلة أن المناخ العام لا يوفر ضمانات، كما يخلق تفاوتات بين إمكانيات الجامعات الوطنية ومثيلاتها من الجامعات الأجنبية. وهناك مخاوف أخرى من خلق «عنصرية» في العملية التعليمية والأكيد أن نموذج الجامعة الأمريكية أنجح وأكثر تلاءما مع هذه البلاد لأنه يفتح الجامعة بنظام مستقل، ولكن يأتي بأساتذة البلد وطلابه ويقوي أواصر العلاقة مع المجتمع لتحدث العدوى العلمية لضمان التفاعل مع الجامعات الأخرى، ومخاوفي تكمن في إنشاء جامعات مغلقة، فجامعة نيويورك في أبو ظبي مقامة على جزيرة صناعية وسط البحر ولا شأن لها بالمجتمع فهي معزولة.