نُشر في “الشروق” في ٧ يونيو ٢٠١٣
منذ تولى وزير الثقافة الجديد، علاء عبدالعزيز، لمهام منصبه والحديث فى الوسط الثقافى لم ينقطع عن الأسلوب الذى انتهجه لإثبات نفسه. فالوزير استهل خدمته فى الوزارة بسلسلة من القرارات أطاح بها قيادات عديدة فى الوزارة بدءا برئيس الهيئة العامة للكتاب، ومرورا برئيس قطاع الفنون التشكيلية، ثم رئيس الأوبرا وانتهاء برئيس دار الكتب والوثائق القومية.
وردا على هذه القرارات قدم آخرون فى الوزارة استقالاتهم اعتراضا على ما اعتبروه تصعيدا لقيادات غير مؤهلة لهذه المناصب القيادية. ثم سرعان ما انبرت الأقلام الصحفية لتردد النغمة المعروفة: «الوزير يريد عمل طابور خامس فى كل الهيئات الثقافية داخل الوزارة بقصد شق الصف داخل البيت الواحد». وفى رواية أخرى: «هذه آخر حلقة من حلقات أخونة الدولة، فالإخوان شحذوا الهمم للنفاذ إلى معقل الثقافة والسيطرة على مفاصل الوزارة».
ويجب أن أعترف بأننى انتابتنى الحيرة من موقف المثقفين وليس من موقف الوزير وجماعة الإخوان. فعاجلا أم آجلا كان من المتوقع أن يتحول الإخوان بشغفهم المسعور للسيطرة على المجال الثقافى وأن يحاولوا التحكم فيه بعد أن تعثرت محاولاتهم للسيطرة على الجيش والقضاء والإعلام والاقتصاد.
اهتمام الإخوان بوزارة الثقافة ليس نابعا من رغبتهم فى إفساح المجال لمثقفيهم، من روائيين ومخرجين وموسيقيين ورسامين ونحاتين ومصورين وراقصين، لسبب بسيط هو أن هؤلاء المثقفين الإخوان لا وجود لهم من الأصل. اهتمام الإخوان بوزارة الثقافة نابع من اعتقاد قديم وراسخ لديهم وهو أن هوية مصر جرى مسخها على مدار عقود طويلة على أيدى حفنة من المثقفين المفتونين بالغرب وأنه آن الأوان لكى تستعيد مصر هويتها الإسلامية الخالصة.
أنا لم أسترح قط لسؤال الهوية هذا، وأعتبره سؤال زائف مضلل. فكما أثبتت الأيام ظهر أن شعار «الإسلام هو الحل» يمكن أن يكسبك الانتخابات ولكنه لن يمكنك من حل مشاكل المواصلات أو السولار أو سد النهضة. وفى دراساتى التاريخية اكتشفت أن المصريين لم يعترضوا، مثلا، على ممارسة مثل التشريح وفتح الجثث بزعم أنها وافدة من الغرب وأن الذى أدخلها طبيب «نصرانى» اسمه كلوت بيك، بل أقبلوا عليها لاعتقادهم أن بوسعهم استخدامها فى إدانة من يقتل أبناءهم وذويهم فى أقسام الشرطة (بالضبط مثل قضية خالد سعيد).
كما اكتشفت أن افتتاح المحاكم الأهلية التى تطبق قوانين حديثة لم يواجه بالرفض من قبل المصريين بل أقبلوا عليها إذ إنها كانت سريعة ومنصفة وتساوى بين المواطنين، وأن المحاكم الشرعية كان قد أصابها الفساد والجمود والترهل.
استشهادى بهذين المجالين تحديدا، مجالى الطب والقانون، لكى أوضح زيف سؤال الهوية الذى يرفعه الإسلاميون النابع من كون هذين المجالين لا يخصان الثقافة ولا النخبة المثقفة. فالناس عندما تذهب للمستشفى لا تسأل إذا كان هذا الطب أصيلا أم وافدا، وعندما تذهب للمحكمة لا تسأل إذا كان النظام القضائى مستقى من الشريعة أم من كود نابليون. الناس تبحث عن العلاج وعن العدالة قبل أن يشغلها سؤال الهوية.
•••
أما إذا انتقلنا للمجال الثقافى فإن ما يستوقفنى دوما هو تلذذ طرفى المعادلة، إسلاميين وعلمانيين، بحصر صراعهما فى سؤال الهوية، غافلين عما قد يحتاجه الناس من خدمات ثقافية. فالإسلاميون دائما يدافعون عن «ثوابت الأمة» ويتهمون المثقفين بنشر ثقافة «العرى والمجون»، وفى المقابل يرفع المثقفون شعار «التنوير» ويتهمون الإسلاميين بإقامة «محاكم تفتيش» وبنشر «خفافيش الظلام». وبين هذين القطبين يضيع الناس بتعطشهم للثقافة والفكر والفن.
أضرب مثلا بحال دار الكتب ودار الوثائق وحال متاحفنا فى طول البلاد وعرضها. المثقفون متوجسون من التوجهات الإخوانية للمدير الجديد لدار الكتب والوثائق القومية، وكأن هذا هو مربط الفرس. وكواحد من المترددين على هاتين الدارين أقول إنهما قد أصابهما الخلل المميت بالفعل حتى قبل الأخونة.
إن دار الوثائق بها ما يقدر بمائة مليون وثيقة، بينما يرتادها فى اليوم الواحد أقل من عشرة باحثين. أيها المثقفون، ألم يستوقفكم هذا الوضع؟ التردد على قاعة الاطلاع فى دار الكتب يمثل إهانة حقيقية لأى مواطن. أنا من حيث المبدأ لا يحزننى حال الموظفات فى القاعة اللاتى لا يترددن عن تعلية صوت الراديو، أو ترضيع أولادهن، أو تأميع البامية، أو التحدث بصوت عال عن مشاكلهن الزوجية، ولكنى أطمع فى التفاتة بسيطة لطلبى الحصول على كتاب أو دورية.
أيها المثقفون، ألا يحزنكم حال المكتبة الوطنية؟ أما عن متاحفنا فحدث ولا حرج. مأساة متحف محمود خليل، فى نظرى، لا تكمن فى تقاعس القائمين عليه فى تأمين مقتنياته، الأمر الذى أدى لسرقة لوحة فان جوخ ليس مرة واحدة بل مرتين. المأساة الحقيقية أن المتحف يرتاده فى المتوسط ثمانية زائرين يوميا فى مدينة يقطنها ثمانية عشر مليونا من البشر، وأن المتحف، مثل كل متاحفنا، لا توجد لديه خطة لجذب الزائرين أو خدمتهم. أيها المثقفون، ألا يحزنكم حال متاحفنا؟
•••
الأخونة خطر على الثقافة مثل ما هى وبال على مصر، لا شك عندى فى ذلك. ولكن مشاكل وزارة الثقافة لا تكمن فى أخونتها بقدر ما تكمن فى اعتقاد المثقفين أن الوزارة يجب أن تخدمهم هم لا أن تخدم الشعب.