نُشر في “الشروق” في ١٤ يونيو ٢٠١٣
مريبة حقا الإجراءات التي تتعرض لها دار الوثائق القومية الآن. فبعد أيام قليلة من إقالة وزير الثقافة الجديد للكثير من قيادات الوزارة، وبعد أن فلتت من الوزير كلمات دالة في لقائه مع موظفي الأوبرا عندما قال “أنا جاي لي تعليمات ولازم أنفذها”، إذ بالمدير الجديد للإدارة المركزية لدار الكتب والوثائق القومية يعصف بقيادات دار الوثائق ويقيل أو ينهي انتداب أربعة منهم.
أنا أفهم أن الوزير يجب أن يلتزم بسياسات الحكومة التي يتبعها، وأن ينسق مع زملائه في مجلس الوزراء، وأن ينفذ تعليمات رئيس الحكومة أو رئيس الجمهورية. ولكن هل التعليمات التي أشار إليها الوزير قادمة له من رئاسة الجمهورية أو رئاسة مجلس الوزراء، أم من مكتب الإرشاد وحزب الحرية والعدالة؟ وما هي هذه التعليمات، وما المقصود منها؟
وأتفهم أيضا أن الديمقراطيات التي تشهد تغيير الوزارة في أعقاب انتخابات برلمانية تشهد أيضا، وبطبيعة الحال، تغييرا في بعض القيادات الإدارية التي قد يراها هذا الوزير أو ذاك ضرورية لتنفيذ سياساته الجديدة. أما أن يطال التغيير المستوى الرابع في الهيكل الإداري للدولة، وهو ما قام به المدير الجديد لدار الكتب والوثائق، فهو ما يثير الشكوك حقا.
وعندما سئل عن الدافع وراء هذه الإجراءات المتسارعة قال إنه “في وقت ظاغط”، وإنه “ليس جهة تحقيق”، وإن ما قام به كان غرضه “دفعا للشك وطلبا لاستقرار الأمور”. وعندما سئل عن الدافع وراء عدم إخطار النيابة الإدارية أو الجهاز المركزي للمحاسبات للتحقيق فيمن يرتاب فيهم من القيادات السابقة قبل أن يقيلهم قال إنه بنى قراره على الشائعات المتداولة في الدار، وإن غرضه هو “البعد عن الشبهات”، وإنه مخول في هذا من الوزير الذي أعطاه صلاحيات وزير.
•••
ما يثير الحفيظة هنا هو هذا القدر من الاستهتار بالقانون وبالإجراءات الإدارية الكفيلة بالحفاظ على استقرار مؤسسات الدولة. فباسم “التطهير” يقوض المدير الجديد دعائم مؤسسة محورية من مؤسسات وزارة الثقافة بل من مؤسسات الدولة كلها. أما أن يدعي أنه يفعل هذا “طلبا لاستقرار الأمور” فهو التضارب بعينه.
ومما يزيد من الشكوك هو ما اعترف به المدير الجديد من أنه ينتمي لفكر جماعة الإخوان المسلمين ويعتنق فكر حسن البنا تحديدا دون توابعه. هذا في حد ذاته ليس عيبا أو نقيصة، فلكل شخص الحق في أن يعتقد ما يراه صوابا، بل من المنطقي أيضا أن يأتي المدير الجديد، وكما قلت سابقا، متفقا في فكره مع فكر الحكومة التي فازت في الانتخابات.
الفكر الإخواني الذي يعتنقه المدير الجديد ليس مربط الفرس ولا هو سبب الريبة. المشكلة تكمن في العلاقة غير الواضحة بين جماعة الإخوان المسلمين وبين هذه الحكومة، الأمر الذي دفع الكثيرين للتساؤل عمن يدير هذه الدولة حقا: مكتب الإرشاد، أم رئاسة الجمهورية، أم حزب الحرية والعدالة؟
مربط الفرس الحقيقي هو ما أثير من شائعات عن رغبة جماعة الإخوان في الاستحواذ على مقتنيات دار الوثائق المتعلقة بتاريخ الجماعة، وتحديدا البحث في سجلات البوليس السياسي ورئاسة مجلس الوزراء، ولاحقا، رئاسة الجمهورية.
•••
هذه المخاوف المشروعة هي ما حدت ببعض المثقفين المعتصمين في وزارة الثقافة أن يصدروا بيانا يستنجدون فيه بالجيش لكي يتدخل ويعين لجنة لإدارة دار الوثائق والحفاظ على مقتنياتها من السرقة أو الإتلاف. وفي مفارقة غريبة، وافق المدير الجديد المعتصمين على رأيهم في أن المخرج يكمن في تولي الجيش زمام الأمور في الدار.
فقد نقلت عنه الصحف تصريحا يقول فيه إنه ناشد الفريق السيسي بأن يرشح له “قيادة عسكرية متخصصة فى الوثائق” لإدارة الدار. وحتي يهدئ من مخاوف المواطنين أكثر فقد صرح المدير الجديد بأنه لن يراجع الإجراءات الأمنية الصارمة التي طالما عانى منها الباحثون وشكلت عائقا أما قيامهم بأبحاثهم، بل قال إنه سيزيد من هذه الإجراءات ويطبقها عل كل مستخدمي الدار من باحثين أكاديميين وغير أكاديميين.
•••
هذا ومع التسليم بأن كثيرا من مخاوف المثقفين من سياسات الإخوان الثقافية مشروعة وأن علامات الاستفهام تحوم حول معنى ومغزى الإطاحة بقيادات دار الوثائق، إلا أنني لا أرى أن الاستنجاد بالجيش سيحل المشكلة، بل في رأيي أنه سيزيدها تعقيدا وقد ينشئ وضعا سيستغرقنا عقودا طويلة حتى نتخلص منه.
الوسيلة المثلى للحفاظ على مقتنيات دار الوثائق من الضياع أو السرقة أو الإهمال يكمن في التمكين، ليس تمكين الإخوان لمفاصل الدولة بل تمكين أفراد الشعب من قراءة تاريخهم والحفاظ عليها.
حل مشكلة دار الوثائق لا يكمن في تشديد القبضة الأمنية بل في رفعها كلية، وفي فتح أبواب الدار للجمهور من باحثين وغير باحثين دون اشتراط الحصول على تصريح أمني.
إن دار الوثائق ليس ملكا للإخوان. وليست ملكا للجيش. وليست ملكا لموظفي الدار. وليست ملكا للمثقفين.
دار الوثائق ملك الشعب. بها مصادر تاريخه الذي صنعه بنفسه، وفيها مآثره ومآسيه. فيها ما يساعده على فهم اللحظة القاسية التي نمر بها الآن، وبها ما يطمئنه على مستقبل وطنه الحبيب.