يحار المرء فى تفسير سياسات الرئيس والحكومة والإخوان فى الأيام القليلة الماضية. فى صفقة المحافظين الأخيرة أتفهم أن يتبع الرئيس مرسي سياسات الرئيس المخلوع فى أن يعطي المحافظات الحدودية لقيادات من الشرطة والجيش، بعد أن فشل دستور الإخوان فى ترسيخ قاعدة جديدة يُسمح فيها للشعب بأن يختار محافظيه لا أن تفرض عليه السلطة التنفيذية المحافظ الذى تختاره.
وأتفهم أن يُعرض الرئيس عن الدعاوى التى نصحته بأن يعطي بعض المحافظات لغير المنتمين للتيار الإسلامى فى محاولة لامتصاص غضب الناس من الأخونة. وأتفهم أيضا أن يأخذ الرئيس برأي غلاة مكتب الإرشاد وأن يمد يده للجماعة الإسلامية وليس لأي من الأحزاب الليبرالية لكي يمن عليها بمحافظة هنا أو أخرى هناك.
ولكن أن يعطي محافظة الأقصر تحديدا لعضو فى الجماعة الإسلامية التى ارتكبت مجزرة الأقصر فهذا ما يثير الريبة والخوف معا. فكان من الممكن أن يكافئ الجماعة الإسلامية بأن يعطيها محافظة المنوفية مثلا أو أى محافظة أخرى حتى لا يفهم السائحون أن مجيأهم للأقصر قد يحمل إمكانية الذبح ولكن ما العمل والتمكين والعناد ديدن الإخوان وطبعهم؟
•••
بالمثل أقف مندهشا أمام قرارات وزير الثقافة وتصرفاته العبثية. الوزير استهل فترة ولايته بسلسلة من قرارات الرفت أو إنهاء الانتداب لكوكبة من أنقى وأكفأ وأنشط موظفى الوزارة بينما ترك بؤر الفساد ترتع كما هى. وبذا جاءت دعوته للقضاء على الفساد دعوة حق أريد بها باطل.
وكان آخر قراراته بلاغ قدمه للنائب العام يوم الاثنين الماضى، حمل رقم ١٢٩٩ لسنة ٢٠١٣، وقال البلاغ إنه تم «اكتشاف جهاز كمبيوتر بدار الوثائق القومية متصل بشبكة الانترنت موجود عليه آلاف الصور من الوثائق رغم مخالفة ذلك لأمن الوثائق وتعليمات الأمن القومى».
لنتوقف لحظة لفهم هذا العبث. وزير الثقافة يرتاب فى جهاز كمبيوتر موصول بالإنترنت؟ طبعا القضية لا تتعلق بوصلة النت بقدر ما تتعلق بمحتويات الكمبيوتر. الوزير يرتاب فى أن محتويات الدار من وثائق سوف تتسرب منها وتعرض على العالم عن طريق هذا الجهاز الذى تمكنت الأجهزة الأمنية من استرجاع محتوياته بعد أن كانت قد محيت يوم ٦يونيو، وذلك حسب نص البلاغ.
ما هذا الهراء يا وزير الثقافة؟ ألا تدرك أن دار الوثائق يجب أن تتيح ما لديها وتنشره؟ ألا تدرك أن كل دور الوثائق فى العالم تفعل ذلك بشكل دورى وقانونى وملزم؟ ألا تدرك أن دار الوثائق ليست الأرشيف السرى للمخابرات العامة الذى يجب أن يتمتع بالسرية، بل هو أرشيف الوطن الذى يجب أن يكون متاحا للجميع وأن تنشر محتوياته على الملأ؟
ثم ما هى تلك الوثائق التى تستدعى أنك تحافظ عليها بهذا البلاغ؟ هل نشر حجة وقف السلطان قلاوون ستهدد الأمن القومى المصرى؟ هل نشر مكاتبات الصدر الأعظم للوالى العثمانى فى مصر عام ١٧١٨ ستهدد العلاقات المصرية التركية؟ وهل نشر دعوة الخديو اسماعيل للحاخام الأكبر فى مصر لحضور حفل جبر النيل سيؤثر على علاقة مصر بإسرائيل؟ هل نشر وثيقة خلع الحرمة أم الخير من زوجها التى تعود لعام ١٥٨٠ ستهدد أركان الأسرة المصرية؟ سيادة الوزير، هل لديك أية فكرة عن أى موضوع تتحدث؟
ثم إذا كان هذا موقفك من المعرفة والمعلومات والثقافة بشكل عام، فماذا تركت للجهات الأمنية وتلك المسماة بالسيادية؟ إن مهمة هذه الجهات فى شتى أنحاء العالم هى الحجب والاحتراز من الإتاحة والتشكك فى النوايا والريبة فى البحث العلمى.
أما أنت، كوزير للثقافة، فكان من المتوقع منك أن تدافع عن حرية الرأي وحرية البحث العلمي والحرية الأكاديمية وتقاوم الدعوات التى تنادى بالحجب والمنع والمصادرة، فما كان منك إلا أن بادرت بتقديم هذا البلاغ الغريب الذى يعبر عن استبطانك للمنطق الأمنى وتمسكك بالعقلية الأمنية المنغلقة.
كان من الأجدى بك كوزير للثقافة أن تتصدى لأحكام السجن التى تتوالى ضد الكتاب والمدرسين والفنانين بتهمة ازدراء الأديان. كان من الأجدى بك أن تقف بجانب أستاذة مثل منى برنس التى انتُهكت حريتها الأكاديمية عندما قدمتها جامعتها لمجلس تأديب بتهمة ازدراء الأديان. كان من الأجدى بك وأنت وزير للثقافة أن تسعى لإصدار قانون حرية تداول المعلومات.
كان من الأجدى بك أن تفتح دار الوثائق للجمهور لا أن تعين مسئولا كانت أول إجراءاته التضييق على الجمهور والباحثين بدعوى الحفاظ على الوثائق.
•••
المجتمعات تنهض ليس فقط بتشجيع العلوم من طب وهندسة وكيمياء وفيزياء ولكنها تتقدم أيضا بتشجيع الفنون والآداب، ويجب على وزارة الثقافة أن توفر البيئة المنفتحة التى لا غنى عنها لازدهار الموسيقى والرقص والأدب والرسم والبحث العلمى. أما كل ما قام به وزير الثقافة الجديد فينم عن ريبة هذا النظام فى الثقافة والمثقفين.إن تعيين عضو فى جماعة إرهابية محافظا للأقصر هو الوجه الثاني لتعيين وزير ثقافة يسير على درب جوبلز، ومن هنا تأتى أهمية التصدي لسياسات وزير الثقافة الجديد والعمل على إجهاضها. فما هو مطروح على الساحة الآن ليس فقط سؤال الهوية وإنما التشكيك فى الحق فى التعبير والإبداع وأيضا الحق فى الوجود.