نُشر في الشروق في ٢٥ ديسمبر ٢٠١٠
منذ أن بدأ موقع ويكيليكس في نشر مختاراته من حوالي ربع مليون برقية أرسلتها البعثات الدبلوماسية الأمريكية إلى واشنطن والناس في كل أنحاء العالم تتطلع بلهفة إلى الاطلاع على أسرار السياسية الخارجية الأمريكية وعلى المؤامرات واللقاءات السرية التي يعقدها السفراء والقناصل الأمريكيون مع زعماء العالم.
ونظراً للتواجد الأمريكي الكثيف في منطقة الشرق الأوسط كان من الطبيعى أن نتوقع أن ينشر الموقع عددا كبيراً من البرقيات التي أرسلتها السفارات الأمريكية في المنطقة، كما كان من الطبيعى أن نتوقع الاطلاع على الكثير من التفاصيل المحرجة لحلفاء الولايات المتحدة وأعوانها. ومن الأمثلة على ذلك المراسلات التي تتحدث عن رغبة الكثير من الحكومات العربية في أن تقوم الولايات المتحدة بضربة عسكرية ضد إيران. وهناك أمثلة أخرى عديدة تتعلق بمصر. فربما تنفس مسئولو وزارة الخارجية المصرية الصعداء عندما لم يقرأوا أية برقية تظهر فرقا جلياً بين ما يقولونه خلف الأبواب الموصدة مع الدبلوماسيين الأمريكيين وما يفصحون عنه علناً إلا أنهم غالباً لم يرحبوا بلهجة الاستخفاف بالدبلوماسية المصرية التي تحفل بها الكثير من هذه البرقيات. وغالباً لم تعجبهم أيضاً تلك البرقيات التي تظهر أن الساسة الأمريكيين عند تناولهم لأهم ملفات السياسة الخارجية المصرية – فلسطين، السودان، العراق، أفريقيا – لا يتفاوضون مع وزارة الخارجية بل مع جهاز المخابرات.
ولكن وبالرغم من هذه المفارقات فإن المرء يتساءل عما إذا كانت تلك البرقيات تحتوي حقاً على أية “فضائح” أو حتى على ما لا نعرفه مسبقاً. خذ مثلا برقية السفيرة مارجريت سكوبي إلى وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون المؤرخة ۱۹ مايو ۲۰۰۹ والتي تمهد فيها لزيارة الرئيس مبارك لواشنطن، التي كانت الأولى له بعد فترة انقطاع دامت خمس سنوات. في هذه البرقية توضح سكوبي أن مبارك يعاني من صعوبة في السمع في أذنه اليسرى، وأنه “حذر ومحافظ بطبعه ولا يشغل باله بالأهداف المثالية”، وأن “رئيس المخابرات عمر سليمان ووزير الداخلية حبيب العادلى يزيحان عنه الكثير من المشاكل الداخلية، وأن أساليبهما في ذلك لا تؤرقه كثيراً”، وتزيد وكأنها تميط اللثام عن سر دفين: “لا أحد يعلم تحديداً من الذي سيخلف مبارك”. تلك معلومات وآراء شائعة ومعروفة ولا يمكن أن توصف بالجديدة أو الصادمة.
إن المؤرخين الذين يدرسون حقبات من الماضى كثيراً ما يعتمدون على مثل تلك البرقيات الدبلوماسية ويعتبرونها من أفضل مصادرهم الأولية. فلمدة طويلة كان تاريخ مصر في القرن التاسع عشر يُكتب اعتماداً على المراسلات والتقارير التي كان القناصل الأوربيون يكتبونها عن أحوال مصر والتي كانوا يرسلونها إلى عواصمهم المختلفة. ولكن المؤرخين سرعان ما أيقنوا أنه وبالرغم من احتواء هذه المراسلات على الكثير من التفاصيل المهمة والشيقة عن مصر وعن أحوالها الداخلية، إلى أن هذه المراسلات، في المقام الأخير، لا تفصح إلا عن رؤى وآراء كاتبيها. وفي الكثير من الأحيان كانت هذه الرؤى والآراء لا تحتوى بالضرورة على تقدير دقيق لأحوال مصر الداخلية بقدر ما كانت تعكس انطباعات القناصل الأوربيين وشخصياتهم، وبقدر ما كانت تعبر أيضا عن طموحاتهم السياسية ومحاولتهم إبهار رؤسائهم في مقار وزارات الخارجية في عواصمهم. وهناك أمثلة عديدة توضح كيف كانت هذه البرقيات نتاجاً لقصور في إدراك القناصل لطباع وعادات وتاريخ ولغة البلدان التي كانوا يكتبون تقارير “وافية” عنها.
كما أدرك المؤرخون أهمية قراءة الوثائق التاريخية بوضعها في سياقها الصحيح. ومرة أخرى تعطي لنا الوثائق البريطانية عن مصر في القرن التاسع عشر مثالاً جيداً على ذلك. ففي إحدى هذه الوثائق يشبه وزير خارجية بريطانيا، اللورد بالمرستون، محمد علي بـ”صبى القهوة الذي يتطلع إلى أن يكون أميرا للمؤمنين”. فإذا قرأنا هذه الوثيقة مفردة سنخلص إلى أن المشاعر العدائية التي كان وزير الخارجية البريطاني يكنها للباشا كانت هي التي تشكل السياسة البريطانية تجاه مصر والدولة العثمانية. ولكن إذا قرأنا مجمل وثائق الخارجية البريطانية في تلك الفترة سنتبين أن بالمرستون كان بالفعل يكره محمد علي، إلا أن رؤيته للوالي تغيرت بمرور الزمن، كما أن سياسته تجاه مصر و”المسألة المصرية” والدولة العثمانية لم تتبلور بشكل نهائي إلا بعد مرور ست سنوات، وأن هذه السياسة لم تتشكل فقط في ضوء التقارير التي كان القناصل البريطانيون يرسلونها من القاهرة والإسكندرية بل أيضا في ضوء تلك المرسلة من اسطنبول وسان بطرسبرج وفيينا وباريس. وبعبارة أخرى ما يجب التأكيد عليه هنا هو أنه يجب على المؤرخ وضع مثل تلك البرقيات في سياقها التاريخي والسياسي والبيروقراطي وعدم الارتكان إلى المعلومات “الشيقة” التي قد تحتويها.
إننا في خضم الإثارة التي أحدثها موقع ويكيليكس ونشره لمئات البرقيات الأمريكية السرية قد تغافلنا عن حقيقة أساسية مؤداها أن كاتبي هذه البرقيات ما هم إلا بشر، وإن كانوا بشراً يمثلون أقوى وأعتى إمبراطورية عرفتها البشرية. فبالرغم من محاولة هؤلاء الدبلوماسيين الأمريكيين أن يصبغوا على برقياتهم هالة من الجدية والصرامة إلا أننا يجب أن نأخذ فى الاعتبار أن هؤلاء الدبلوماسيين كثيراً ما تلتبس عليهم الأمور وأن هذا الالتباس ما هو إلا تعبير عن وضع الولايات المتحدة الحرج، وضع ناتج عن خوضها أكثر من حرب واحدة في نفس الوقت، وعن شنها “حرباً على الإرهاب” في شتى أنحاء المعمورة، وعن مواجهة قوى صاعدة تنافسها على زعامة العالم.