نُشر في “أخبار الأدب” في ٢٢ يناير ٢٠١٢
من بين الهتافات الكثيرة التي صدحت بها حناجر الملايين في هذه الثورة ظل دائما هتاف “الجيش والشعب إيد واحدة” هو الهتاف الوحيد الذي لم تطاوعني نفسي على ترديده. إن توجسي من هذا الهتاف لم يكن فقط نابعا من دراساتي الأكاديمية لتاريخ هذا الجيش، واكتشافي مدى معاناة عشرات آلاف المصريين من تجنيدهم في جيش محمد علي، بل كان يعكس إدراكي أن الجيش، أي جيش، مؤسسة محافظة بطبعها، وأن الثورة، أي ثورة، تشكل تهديدا حقيقيا للكثير من مبادئه.
لذلك لم أصدق أبدا أن الجيش انحاز يوما للثورة أو أنه حماها، بل كنت أعتقد، وما زلت، أن المجلس العسكري هو ألد أعداء الثورة وأنه لن يدخر وسعا حتى يوئدها في مهدها. وللأسف أثبتت الأيام سوء حدسي بذلك المجلس وبأعضائه، فمنذ أن تولوا السلطة وهم لم يتوانوا عن التنكيل بالثوار وتوجيه الاتهامات الجزافية لهم. فبدءا من توقيع كشوف العذرية في مارس، والقبض على الضباط الذين تجرأوا على الاعتراض على سياساتهم في أبريل، ومرورا بأحداث السفارة الإسرائيلية في مايو، وأحداث مسرح البالون في يونيو، وأحداث العباسية في يوليو، ثم التقاعس عن التعامل بحزم مع المتسببين في أحداث كنيسة المريناب في سبتمبر، ثم مجزرة ماسبيرو في أكتوبر، وموقعة شارع محمد محمود في نوفمبر، وأخيرا أحداث مجلس الوزراء في ديسمبر مع ما صاحبها من سحل للمتظاهرات وضرب للمتظاهرين وتصويرهم على أنهم رعاع بلطجية – كل ذلك أثبت أن المجلس لم يترك شهرا إلا وأرسل رسالة واضحة مفادها أن الثورة يجب ان تنتهي وأن “العيال الثوار لازم يروحوا بيوتهم”.
وبالتالي وعلى عكس التخبط وانعدام الرؤية الذي صاحب قرارات المجلس العسكري في مجالات أخرى، مثل التعديلات الدستورية، ووثيقة السلمي، وقانون الانتخابات، والملفين الاقتصادي والأمني، اتسمت قرارات المجلس تجاه الثوار بالتناسق والثبات. ولا غرو في ذلك، فأعضاء المجلس يدركون أن الثورة تهدد المكانة المتميزة التي ظل الجيش يتمتع بها طوال الستين سنة الماضية والتي شكل نظام مبارك خير ضامن لها. فانعدام الرقابة البرلمانية والشعبية على الجيش أفضت إلى تضخم ميزانيته لدرجة أن بعض الاقتصاديين يقدرون أن بين ٢٠ و٤٠ في المائة من الاقتصاد المصري يسيطر عليه الجيش، وهو الأمر الذي مكن المجلس العسكري من الإعلان عن استعداده إقراض الحكومة المصرية مبلغ مليار جنيه. وبالطبع يشعر قادة الجيش بالقلق من تنامي الأصوات المطالبة بمعرفة ما يحدث بالمعونة الأمريكية التي تذهب للجيش والتي تبلغ مليار وثلاثمائة مليون جنيها سنويا. على أن أكثر ما يقلقهم هو غموض وضع المؤسسة العسكرية في النظام المقبل وهل سيفضي الحال إلى تمكن الثورة من تعيين رئيس مدني في منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة أو تعيين وزير دفاع مدني من خارج القوات المسلحة أسوة بسائر الدول الديمقراطية، وهو الأمر الذي حدا بالمجلس لصياغة وثيقة السلمي التي حاولت أن تضمن للجيش وضعا خاصا في الدستور المقبل.
إن هذا القلق مما تحمله الثورة من تهديد لمصالح الجيش لا يعكس أهواء المجلس أو سوء تقديره للأمور بقدر ما يعكس الخلل الجوهري الذي يسم علاقة الجيش بالشعب. فالجيش وإن كان يحظى بشعبية جارفة لدى الشعب إلا أنه في نفس الوقت، وعلى عكس جيوش دول أمريكا اللاتينية التي أتت للحكم بانقلابات عسكرية، يفتقر إلى حليف سياسي من خارجه يضمن له مصالحه ويدافع عن بقائه في الحكم، فلا توجد طبقة رجال أعمال أو كبار ملاك أراضي، أو نقابات عمال أو تجمعات فلاحين، تسعى للمحافظة على مصالحها بالاستعانة بالجيش.
تلك هي معضلة المجلس العسكري الكبرى، وستثبت الأيام إن كان باستطاعته إيجاد حليف من خارج الجيش يتخالف معه لدحر الثورة وبسط نفوذه على المجتمع، أم أن الثورة هي التي ستتمكن في النهاية من هزيمة المجلس العسكري والحفاظ على الجيش.