نُشر في “الشروق” في ٣٠ سبتمبر ٢٠١٢
فى عام ١٩٨٠ نشر سعد الدين إبراهيم دراسة مهمة بالإنجليزية حلل فيها الخلفية الاجتماعية لاثنتين من أوائل جماعات الإسلام السياسى فى مصر. فبعد أن نجح فى الحصول على التصاريح الأمنية اللازمة، دخل سعد الدين إبراهم السجن للتحادث مع أعضاء جماعتى الفنية العسكرية والتكفير والهجرة الذين صدرت بحقهم أحكام بالسجن نتيجة ارتكابهم أعمال عنف شملت، فيما شملت، قتل العشرات فى حادث الاستيلاء على الفنية العسكرية عام ١٩٧٤ واختطاف وقتل وزير الأوقاف السابق، الشيخ الذهبى، عام ١٩٧٧.
وكان من أهم ما استوقف سعد الدين إبراهيم فى الخلفية التعليمية لأعضاء هاتين الجماعتين المتطرفتين أن غالبيتهم كانوا يدرسون فى الجامعة أو كانوا قد حصلوا بالفعل على شهادات جامعية. أما الملاحظة الأهم فكانت أن الكليات التى درس فيها أو تخرج فيها أغلب الأعضاء (٨٠% منهم) كانت كليات عملية، وأهمها الطب والهندسة والصيدلة.
من الملفت للنظر أيضا أن اثنين من أهم الشخصيات فى تنظيم القاعدة تخرجا فى كليات عملية فى الجامعات المصرية، فأيمن الظواهرى، الرجل الثانى فى القاعدة، تخرج فى كلية طب قصر العينى عام ١٩٧٤ ثم حصل على ماجستير فى الجراحة من جامعة أسيوط عام ١٩٧٨. أما محمد عطا، الذى يعتبره مكتب التحقيقات الفيدرالى الأمريكى العقل المدبر لهجمات سبتمبر، فحاصل على شهادة فى العمارة من هندسة القاهرة.
●●●
بالطبع لا توجد أية علاقة حتمية بين دراسة الطب أو الهندسة، أو الدراسة فى الجامعات المصرية بشكل عام، وبين التطرف أو ما يسمى بـ«الإرهاب»، ولكنى أزعم أنه توجد علاقة ما بين التطرف وطريقة تدريس الطب أو الهندسة تحديدا، وطريقة التدريس فى الجامعات المصرية بشكل عام. وبالطبع هناك أسباب عديدة وراء ظاهرة التطرف الدينى سواء تلك التى تأخذ طابعا سلميا أو الأخرى التى تبيح استخدام العنف. وهناك مئات الكتب التى كتبت بشتى اللغات التى توضح الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والسيكولوجية وراء تلك الظاهرة، إلا أننى، ودون التقليل من أهمية هذه العوامل المتعددة، أرى ضرورة الوقوف أمام حقيقة أن الكثير من أعضاء جماعات الإسلام السياسى المتطرفة حاصلون على شهادات جامعية، وأن أغلب هؤلاء الجامعيين، وليس كلهم بطبيعة الحال، درسوا فى كليات عملية.
●●●
بالمثل توجد دراسات عديدة تتناول المشاكل المتفاقمة التى تعانى منها الجامعات المصرية، وقد قتلت بعض هذه المشاكل بحثا. فكلنا يعلم مدى تأثر العملية التعليمية بعوامل مثل كثرة أعداد الطلاب وتكدس المحاضرات والمعامل بهم، وقلة الاعتمادات المادية، وتدنى أجور الأساتذة، وغياب المعامل والمكتبات وأدوات البحث الأخرى أو عدم صلاحيتها لعملية إنتاج المعرفة، وغيرها من العوامل الأخرى المكبلة. كما توجد مئات الدراسات حول تدهور أساليب التدريس، والتركيز على الحفظ لا الفهم، وتدنى مستوى المقررات الدراسية.
ومع وجاهة هذه العوامل وأهميتها أرى أن من أهم عوامل انهيار التعليم الجامعى فى مصر هو الولع بالتخصص، وأعنى بذلك الاعتقاد (الخاطئ فى رأيى) بأن أحسن وسيلة لتدريب الطالب الجامعى هى تعميق معرفته بمادة تخصصه وليس توسيع معرفته بالعلوم الأخرى والعمل على إلمامه بمبادئ وأصول التخصصات الأخرى. وتتضح آفة التخصص، أكثر ما تتضح، فى الكليات العملية، فطالب الطب، مثلا، يمكث فى الكلية سبع سنوات على الأقل يدرس فيها فروع الطب المختلفة دون أن تكون له معرفة بتاريخ مهنته أو بسياسات التأمين الصحى فى مصر، أو بعمارة المستشفيات، أو بأسلوب إدارتها، ما بالنا بأفرع علم أخرى لا تمت للطب بصلة، مثل الموسيقى أو الفلسفة أو الأدب. وبالمثل، فطالب الهندسة يدرس أفرع الهندسة المختلفة على مدار خمس سنوات دون أن يدرس الأدب العربى الحديث، أو يتعرف على فن عصر النهضة، أو يقرأ فى الفلسفة الإسلامية.
●●●
ولكن ما علاقة العمارة بالفلسفة الإسلامية؟ وما الفائدة التى ستعود على طالب الطب إذا درس مسرحيات شيكسبير أو قرأ فى التاريخ الفرعونى؟ ألا يعتبر ذلك تضييعا للوقت وإهدارا لفرصة تعليمه تعليما صحيحا؟ هذه أسئلة بديهية ومهمة، والإجابة عنها تكمن فى فلسفة «التعليم الحر» الغائبة تماما عن جامعاتنا، والتى قد يكون التطرف الدينى أحد نتائج غيابها.
ما أقصده بـ«التعليم الحر» هو ما يطلق عليه بالإنجليزية
«liberal arts»
، وهو مصطلح لا علاقة له بالفكر الليبرالى ولكنه مشتق من الكلمة اللاتينية،
«liber»
، بمعنى «حر». فالمقصود بـ«التعليم الحر» هو تلك المهارات والملكات التى ينبغى على الإنسان الحر، أى غير العبد، أن يمتلكها. تلك المهارات تتلخص فى القدرة على التفكير النقدى، والتعبير عن الرأى، كتابة وشفاهة، بشكل لبق وبأسلوب سلس، والاستماع والمحادثة والجدال بشكل نقدى. التعليم الجامعى القائم على هذه الفلسفة لا يهدف إلى تخريج طلاب يعرفون كل شىء عن تخصصهم ولا شىء عن أفرع العلم الأخرى، بل يهدف إلى تخريج طالب لديه القدرة على التفكير الخلاق، وعلى الاشتباك فى حوار هادئ عن موضوع بعيد كل البعد عن تخصصه، وعلى إيجاد حلول غير تقليدية لمشاكل قد تواجهه فى وظيفته، وعلى التواصل مع الآخرين بشكل مقنع، وعلى القدرة على التأثير فيهم والتأثر بهم بشكل سلمى متحضر.
●●●
إن أغلب الجامعات الأوروبية والأمريكية مبنية على هذه الفلسفة التعليمية، فلسفة التعلم الحر، وهى فلسفة قائمة على عكس التخصص والتعمق. فالمواد التى تتعلق بالاقتصاد والتى يدرسها طالب الاقتصاد فى جامعة ييل مثلا لا تزيد على نصف المواد التى يدرسها فى الجامعة، أما النصف الآخر فقد تكون فى العلوم السياسية أو الإحصاء، وقد تكون فى الموسيقى أو الفلسفة أو الرياضيات أو حتى اللغة الصينية. وبالمثل، فمن يحمل شهادة فى الأدب الإنجليزى من جامعة كاليفورنيا قد يدرس تاريخ السينما ويأخذ مادة فى العلوم السياسية ويتعلم شيئا عن تاريخ العلوم.
ويدرك أفراد المجتمع كلهم، أساتذة وأولياء أمور وطلاب وأرباب عمل، أن من يدرس تجارة لن يكون تاجرا، ومن يدرس إدارة أعمال لن يكون بالضرورة من رجال الأعمال، ومن يتخصص فى الأدب الانجليزى لن يكون شيكسبير. وبالعكس، فالكل يعلم أن الدبلوماسى الماهر لا يستلزم أن يكون قد أخذ شهادة فى العلوم السياسية، ومن يرغب فى أن يكون أديبا ليس مضطرا أن يدخل كلية الآداب.
وهناك اقتناع عام بأن مناهج التعليم الحر مفيدة ليس فقط لتنشئة المواطن الحر بل أيضا ضرورية لسوق العمل. ففلسفة التخصص التى تعبر عنها كليات مثل «التجارة» و«سياسة واقتصاد» و«طب» و«هندسة» وضعت من نصف قرن أو يزيد حينما كانت سوق العمل محتاجة لمهارات محددة وضيقة وواضحة تناسب وظيفة واحدة يأمل الخريج التعيين فيها والتشبث بها حتى إحالته إلى المعاش. أما الآن فإن أغلب الخريجين سيُطلب منهم التنقل من مهمة إلى أخرى داخل الشركة الواحدة، وسوف يتحتم عليهم الانتقال من وظيقة إلى أخرى ومن شركة إلى أخرى. وبالتالى يتحتم عليهم أن يكونوا متسلحين بمهارات وملكات تمكنهم من مواجهة تقلبات وتحديات سوق العمل الشرسة.
●●●
هناك بالطبع أسباب كثيرة وراء انهيار جامعاتنا، ولكن يبقى غياب فلسفة التعليم الحر كواحد من أهم هذه الأسباب. لقد لعبت جامعاتنا دورا رائدا ومحوريا فى نهضة المجتمع ورفعة الاقتصاد فى لحظة مهمة من تاريخها. ولكن حان الأوان لنعيد النظر فى فلسفة التعليم الجامعى برمته، لا أن نقصر الحديث على آلياته أو اقتصادياته أو أيديولوجياته. ويجب علينا أن نعيد بناء مناهج التعليم فى جامعاتنا كى تنجح فى تدريب طلاب يمكنهم المنافسة فى سوق العمل، وكى تستطيع تخريج مواطنين أحرار يمكنهم التواصل مع مجتمعهم بشكل خلاق.