Press "Enter" to skip to content

وضع الجيش في الدستور

نُشر في “الشروق” في ٢١ ديسمبر ٢٠١٣

هذا الدستور نموذج يُحتذى به بين دساتير العالم، بل إن البشرية لم تصل بعد إلى الحقوق والحريات التى كفلها هذا الدستور». هذا ما قاله الدكتور حسين حامد حسان عضو الجمعية التأسيسية عن مسودة الدستور التى يُستفتى عليها الشعب الآن.

أنا لن أستفسر عن الكوكب الذى يعيش فيه الدكتور حسين حسان، ولن أقارن الدستور الذى شارك فى كتابته مع دساتير العالم. سأركز فقط على مجريات الأمور على هذا الكوكب، الأرض، وتحديدا على مكان واحد فيه، مصر، وبشكل أكثر دقة على موضوع واحد وهو الجيش وعلاقته بالمجتمع، وسأفعل ذلك لأوضح كيف جاء الدستور الذى أعده الدكتور حسين حسان محبطا لآمالنا، ومستهزئا بماضينا، ومشكلا خطرا جسيما على مستقبلنا.

•••

لن أتساءل عما إذا كان الدكتور حسين حسان قد نزل إلى أى من ميادين التحرير يوم 25 يناير أو فى أى من الأيام الثمانية عشر التالية. أما عن نفسى فقد وجدتنى يوم 25 يناير مع الآلاف من المصريين غيرى فى التحرير نتطلع لغد أفضل ونحلم بوطن يليق بنا. ثم دارت الأيام وبعد أن هتفنا ضد مبارك بدأنا نهتف ضد العسكر. وقتها شعرت أن هذه هى ثورة حقيقية، ثورة ليست ضد أشخاص بعينهم، لكنها ثورة ضد النظام برمته. وربما لأننى دارس تاريخ فقد وجدتنى أحاول أن أتلمس أى نظام صدحت الحناجر مطالبة بإسقاطه، أهو نظام مبارك.. أم نظام يوليو؟ أم النظام الأبوى العميق الكامن فى تلابيب الدولة المصرية منذ أن أرسى قواعدها محمد على فى أوائل القرن التاسع عشر؟

•••

لن أتكلم عن غيرى، فكل واحد منا كان لديه ما يكفيه للمطالبة بإسقاط النظام. أما عن نفسى فلم أستطع أن أمنع نفسى من الشعور بأنى كنت أهتف أحيانا ضد الظلم والقهر والذل الذى عانى منه الآلاف من الفلاحين المصريين الذين جندوا فى جيش محمد على، هؤلاء التعساء الذين درستُ تاريخهم عن قرب حتى كدتُ أعايشهم. ووجدتنى أعقد مقارنات بين ثورتنا فى التحرير والثورات العديدة التى هبت فى كل ربوع مصر، من الإسكندرية لأسوان، ضد سياسات الباشا الجائرة، ثم ضد سياسات خلفائه وذريته، تلك الثورات التى لم يدرسوها لنا فى مدارسنا مكتفيين بتلقيننا تاريخ ثوراتنا ضد المحتل الأجنبى.

ووجدتنى أيضا أعقد المقارنة بين ما قمنا به يوم 28 يناير 2011 وما قام به آباؤنا وأمهاتنا يومى 9 و10 يونيو 1967. ففى مفارقة فريدة فى التاريخ، نزلت الجماهير وقتها معترضة على قرار عبد الناصر بالتنحى ومطالبة ببقائه، وهو الذى اعترف بمسئوليته عن الهزيمة المروعة التى منينا بها. ومنذ بداية تدريسى بالجامعة كنت كل مرة أدرّس فيها تاريخ النكسة لطلابى أجد عينى تدمعان، متحسرا على حال البلد وقتها وشاكرا حظى إننى لم أعش هذه السنوات العصيبة. أما فى السنتين الماضيتين فقد استطعت أخيرا أن أتجاوز هذه العقدة، فقد أدركت أن حاكما تعامل مع شعبه كأطفال (أو كخرفان) يجب أن يشعر شعبه بالضياع فى غيابه، وأن يطالبوا ببقائه حتى وإن كان هو سبب شقائهم. ولذلك نظرت ليوم 28 يناير 2011 على أنه اليوم الذى تمكنا فيه أخيرا من التخلص من هذه التركة الثقيلة، فهو اليوم الذى قمنا فيه بما كان يجب علينا القيام به يومى 9 و10 يونيو، أى المطالبة بإسقاط النظام.

•••

وعلى مدى العامين الماضيين سقط من الشهداء من سقط، وجُرح من جُرح، وفقد بصره من فقد، وكنت آمل أن تتوج جهودنا وتضحياتنا بدستور يعبر عما جاهدنا لتحقيقه ويترجم آمالنا وأحلامنا إلى نص نعتز به ونفخر.

كنت شخصيا أتطلع لدستور يُخضع المؤسسة العسكرية لرقابة مدنية منتخبة. فقراءتى لتاريخ مصر الحديث أوضحت لى أنه فى ظل غياب تلك الرقابة المجتمعية على هذه المؤسسة المحورية لن يوجد رادع لما يمكن لها أن تفعله. صحيح أننا كمصريين لم نرفع شعار الدستور فى السبعينيات من القرن التاسع عشر فى محاولة للجم الجيش، بل للحد من سلطة الخديو، لكن مما لا شك فيه أن الدولة القوية المتربع على رأسها الخديو كانت نتاج عسكرة المجتمع ككل منذ بداية القرن. أما فى عهد عبد الناصر فلا يساورنى أدنى شك فى أنه وإن كانت موازين القوى وقتها، عسكريا ودبلوماسيا واقتصاديا، كانت تحتم هزيمتنا، إلا أن فداحة الهزيمة وعمقها كان سببها، فى المقام الأخير، غياب أية رقابة مجتمعية على مؤسسة الجيش. وهل هناك أدل على غياب هذه الرقابة من القصة الشهيرة المتعلقة بلقاء عبد الناصر بقادة الجيش قبل أيام من اندلاع الحرب عندما استفسر عن جاهزية الجيش للقتال فرد عليه المشير عامر قائلا «برقبتى يا ريس»؟

وبالتالى كنت أتطلع لدستور ينص صراحة على أن يكون وزير الدفاع مدنيا حتى يجسد فكرة الرقابة المجتمعية على الجيش، وإذ بالدستور يستحدث مادة جديدة تنص صراحة على أن يعين وزير الدفاع من بين ضباط القوات المسلحة (مادة 195). وكنت أتطلع لأن يعطى الدستور حق رقابة ميزانية الجيش للبرلمان المنتخب حتى نضمن أن أموال الشعب تُنفق فى التدريب والتسليح وليس فى إنتاج مياه معدنية وبناء فنادق ومطاعم لضباط الجيش، فإذ بالدستور يعهد بهذه المهمة الحساسة لمجلس الدفاع الوطنى التى تتشكل أغلبية أعضائه من ضباط الجيش (مادة 197). وكنت أتطلع لدستور ينص صراحة على منع محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية حتى نضع حدا للأحكام الجائرة التى نالها مئات من المدنيين اتهموا بالتعرض لأفراد الشرطة العسكرية المنتشرة فى الشوارع والأزقة، وإذ بالدستور الجديد ينص فى المادة 198 على إمكانية ذلك. وكنت أتطلع لدستور ينص صراحة على أن التجنيد خدمة وطنية يقدمها الشباب للوطن، وأنه لا يجوز تجنيدهم إلا فى أعمال تتعلق بالدفاع عن الوطن، حتى نضع حدا لمهازل تجنيد شبابنا فى شركات ومطاعم ومرافق يديرها الجيش لحسابه، وإذ بالدستور يخلو من أى مادة بهذا المعنى.

•••

عندما قمنا بإنشاء جيش حديث فى أوائل القرن التاسع عشر لم نتمكن، كمجتمع، من إخضاع هذا المارد لإرادتنا وفشلنا فى الحد من سيطرته. أما فى القرن العشرين فقد أدى غياب الرقابة المجتمعية على الجيش إلى تأسيس نظام سياسى فاسد أعاق الديمقراطية وأوقع بنا هزيمة عسكرية قل نظيرها فى التاريخ الحديث.

وبعد نجاح ثورتنا كنا نأمل أن نكتب دستورا نصحح به هذه الأخطاء التاريخية التى دفعنا ثمنها غاليا، ولكن طلع علينا الدكتور حسين حسان وزملاؤه فى الجمعية التأسيسية بدستور قمعى فشل، فيما فشل، فى تحقيق واحد من أهم وأعمق أهدافنا.

ولذلك، وبالرغم من تشدق الدكتور حسين حسان بالبشرية التى تحسدنا على هذا النص، فإننا لن نهدأ ولن نستكين حتى نسقط هذا الدستور التعس.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.