Press "Enter" to skip to content

سيادة الرئيس وسيادة القانون

نُشر في “الشروق” في ٢٨ ديسمبر ٢٠١٢

تحتفظ دار الوثائق القومية بمجموعة غنية من السجلات التابعة لمؤسسات قانونية استُحدثت فى القرن التاسع عشر لم تحظ إلا باهتمام نفر قليل من الباحثين. ومن أهم تلك المؤسسات «مجلس الأحكام»، ذلك المجلس الذى تربع على رأس المؤسسة القضائية فى مصر حتى منتصف الثمانينيات من القرن التاسع عشر. ومن ضمن آلاف القضايا الجنائية التى تحتويها سجلات هذا المجلس استوقفتنى كثيرا قضية شديدة الأهمية فى دلالاتها وعلاقتها بالظروف التى تمر بها البلاد هذه الأيام.

القضية وقعت عام 1858 فى صحراء الحصوة (أى العباسية الآن) فى دايرة (أى عزبة) أحد الأمراء، وتحديدا دايرة إلهامى باشا حفيد أخى سعيد باشا، حاكم البلاد وقتها. فعندما تغيب سلطان، أحد العبيد الذين كانوا يعملون فى الدايرة، بدون إذن قرر ناظر اصطبل الدايرة، وكان اسمه عمر بك وصفى، أن يلقنه درسا قاسيا، فأمر بجلده ألفا وخمسمائة جلدة، الأمر الذى أدى لوفاة سلطان من شدة الضرب. وبالرغم مما يحتويه سجل هذه القضية من تفاصيل دقيقة ومروعة عن شدة الضرب وعما حصل لجسد العبدمن جراء ذلك، إلا أن أكثر ما لفت نظرى فى هذه القضية عندما قرأتها لأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات كان رد فعل عمال الدايرة تجاه قسوة عمر بك. فما إن مات سلطان العبد حتى هرب ستة وعشرون عبدا من الدايرة قاصدين الضبطية (أى مديرية الأمن) لكى يقدموا اتهاما صريحا فى حق عمر بك بالتسبب فى قتل زميلهم. وكدليل آخر على شجاعتهم ووعيهم وتمسكهم بحقوقهم صمموا على إلا يعودوا للدايرة ألا ومعهم حكيم الضبطية لتوقيع الكشف الطبى على العبدالمقتول لكى يثبت سبب الوفاة. ومما يزيد من أهمية هذه القضية أن حانوتية جامع الدمرداش القريب الذين استُدعوا لتغسيل العبد وتكفينه امتنعوا عن الحضور لعلمهم أنهم بذلك سيساعدون نظار الدايرة على طمس معالم الجريمة.

•••

منذ يومين وجدتنى أعود مرة أخرى لهذه القضية أسترجعها وأستلهم دروسها. ما استوقفنى هذه المرة لم يكن الموقف الشجاع الذى اتخذه العبيد، ولم يكن الموقف المبدئى الذى اتخذه الحانوتية، ولم يكن الموقف الشريف الذى اتخذه حكيم الضبطية الذى أثبت فى تقريره ما شاهده على جثة سلطان، لكنه كان الموقف المهنى الرائد الذى اتخذه مأمور ضبطية مصر (أى مدير أمن القاهرة) الذى باشر بنفسه التحقيق فى القضية. فبعد أن أرسل اثنين من معاونيه للقبض على عمر بك، وبعد أن فشل هذان المعاونان فى مهمتهما بعد أن منعهما الحراس من دخول الدايرة، قائلين إن سلطة الضبطية لا تتعدى أسوار الدايرة، ذهب المأمور بنفسه للدايرة، وبعد محاولات عدة تمكن بالفعل من القبض على عمر بك وإحضاره لمقر الضبطية. وبالرغم من الوجاهة الاجتماعية للبيك، والهوة الشاسعة التى تفصله عن ضحيته الذى لم يكن سوى عبد أسود، إلا أن مأمور الضبطية تعامل مع القضية بمنتهى المهنية والحرفية، وانتهى به الأمر بكتابة تقرير رفعه إلى سعيد باشا. هذا التقرير يعد علامة ساطعة فى تاريخ القانون المصرى الحديث، إذ حث فيه مأمور الضبطية حاكم البلاد على توقيع أقسى العقوبة على عمر بك وصفى. وفى واحدة من أقوى العبارات الواردة فى هذا التقرير، بل فى كل ما قرأته فى دار الوثائق من سجلات على مدى عشرين عاما من البحث والاطلاع هناك، قال مأمور الضبطية إن عمر بك وصفى: «قد تجارى وتعدى وضيع حرمة الحكومة.. فالحكومة لا تترك حق تعديه عليها بل لابد من أخذ حقها من نظير تعديه فى هتك حرمتها».

•••

إنى أعتبر هذه القضية نقطة تحول هامة فى تاريخ مبدأ سيادة القانون فى مصر، فمأمور الضبطية بعبارته تلك يقول إن حوادث القتل تعد انتهاكا صارخا لحرمة الدولة ولا يجب أن تمر مرور الكرام، حتى وإن ارتكبها سيد من سادة القوم ضد عبد أسود. وكأنه بهذه الكلمات يخاطب سعيد باشا، قائلا: «إن كنت تود حقا أن تكون حاكما لدولة لها سيادة ورئيسا لحكومة لها حرمة، فلابد أن تنتصر لهذا العبد المقتول، حتى وإن استدعى الأمر أن تضحى بأحد البكوات العاملين عند أحد أمرائك». وهو الأمر الذى استمع له سعيد باشا، إذ سرعان ما أن أصدر أمرا بنفى عمر بك خارج البلاد، وهو ما كان يعد أقصى عقوبة يمكن أن تصدر ضد أفراد النخبة التركية.

•••

تذكرت هذه القضية هذه الأيام لما تتعرض له السلطة القضائية من تهديد وامتهان وتحقير على أيدى سيادة الرئيس مرسى وجماعة الإخوان المسلمين والسلفيين. فسيادة الرئيس أصدر إعلانا دستوريا حصن به قراراته من رقابة القضاء، وتجاهل الخلل الكامن فى الجمعية التأسيسية التى كتبت الدستور، ولم يحرك ساكنا تجاه حصار المحكمة الدستورية، ولم يكترث باعتراض القضاة على هذا الحصار، وعزل النائب العام، وقام بتعيين غيره بشكل يهدد استقلال النيابة العامة، وهى من أهم دعائم مؤسسة القضاء.

أما جماعة الإخوان المسلمين فقد وقفت بقوة وراء قرارات الرئيس التى عصفت بمؤسسة القضاء، وأصدرت يوم 18 ديسمبر بيانا استهزأ برجال النيابة ووصفهم بأنهم وضعوا «أنفسهم فى صف أعداء الثورة وأعداء الشعب» عندما انتفضوا، معترضين على طريقة تعيين الرئيس للنائب عام، وهى الطريقة التى ضاعت معها استقلالية هذا المنصب الرفيع.

وكأن موقف كل من سيادة الرئيس وجماعة الإخوان من مبدأ سيادة القانون لم يكن كافيا، فإذ بنا نفاجأ بموقف ياسر برهامى، القطب السلفى، فى الفيديو الشهير الذى أوضح فيه بشكل لا يترك مجالا للشك مدى استهتاره بالقانون وبالدستور. ففى هذا الفيديو الذى يغطى جلسة مغلقة لملتقى العلماء والدعاة لمناقشة مشروع الدستور افتخر برهامى، فيما افتخر، بأن الدستور الجديد يقيد الحريات، واعترف، فيما اعترف، بنية السلفيين استغلال الدستور لانتهاك حقوق الأقليات.

•••

لكن أمام هذا الهجوم السافر على مبدأ سيادة القانون يقف المرء احتراما وتبجيلا لوكلاء النيابة الشرفاء الذين انتفضوا اعتراضا على طريقة الرئيس فى التعامل مع النائب العام. فمن اللافت للنظر أنهم بوقفاتهم الاحتجاجية كانوا لا يعترضون فقط على الطريقة غير الشرعية التى تم بها تعيين النائب العام بل يعترضون أيضا على الاستهانة بالقانون وعلى العصف باستقلال القضاء.

إن موقف وكلاء النيابة، مثله مثل موقف مأمور ضبطية مصر منذ أكثر من قرن ونصف، موقف سيكتبه التاريخ بأحرف من ذهب، فهو موقف نابع من أناس لا يخافون لومة لائم، يدافعون عن مهنتهم السامية بشرف وشجاعة، قاصدين من ذلك ليس فقط الدفاع عن استقلال القضاء بل رفعة الوطن وعزته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.