نُشر في “الشروق” في ٤ يناير ٢٠١٣
إن الدعوة التى أطلقها مؤخرا الدكتور عصام العريان للإسرائيليين من أصول مصرية للعودة لمصر دعوة مهمة يجب أخذها مأخذ الجد فى محاولة للوقوف على دوافعها وسر توقيتها.
بالإضافة إلى المكانة المهمة التى يحتلها الدكتور عصام العريان، تنبع أهمية دعوته من معناها الذى أوضحه فى تدويناته ومداخلاته التليفزيونية. الدعوة فى ظاهرها تبدو نابعة من موقف أخلاقى ومن الإحساس بالظلم الذى وقع على اليهود المصريين عندما طُردوا من مصر أو أُجبروا على مغادرتها فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى. كما تبدو الدعوة مبنية على القانون الدولى، ففى رده على استفسار الأستاذة ريم ماجد التى استضافته فى برنامجها والتى سألته عن موقفه من إعطاء الجنسية المصرية لأفراد يتمتعون الآن بالجنسية الإسرائيلية أكد الدكتور عصام أن القانون الدولى لا يجيز إسقاط الجنسية، وبالتالى فمن أسقطت عنه الجنسية المصرية فى الماضى من حقه ومن حق ذريته التمتع بها مرة أخرى. وتبدو الدعوة أيضا نابعة من قراءة للتاريخ واستشراف للمستقبل، فعصام العريان يرى أن الصهيونية التى قامت على أساسها دولة إسرائيل عقيدة حديثة العهد نسبيا لا يتعدى عمرها مائة وعشرين سنة، وأن إسرائيل ستزول فى غضون عقد من الزمان لا أكثر، وعندها سيتمكن الفلسطينيون من العودة إلى ديارهم، الأمر الذى يحتم على الإسرائيليين اليهود العودة أدراجهم إلى مسقط رأسهم، ويحتم أيضا على مصر أن تسمح لليهود الذى كانوا قد نزحوا منها فى الماضى بالعودة إلى وطنهم الأصلى.
•••
يحار المرء فى كيفية التعامل مع هذه التصريحات الهامة والخطيرة، ففيها من تهافت المنطق وعوار الاستدلال ما يرجح كونها مزحة سخيفة لا يجب الاكتراث بها، على أن قائلها يحتل من المناصب السياسية الرفيعة ما يحتم علينا أخذها مأخذ جد. وبالرغم من تبرؤ مؤسسة الرئاسة من هذه التصريحات، إلا أنه يصعب قبول إمكانية إطلاقها بدون أخذ موافقة مكتب الإرشاد والرئاسة عليها، خاصة أن عصام العريان أحد مستشارى الرئيس وعضو سابق فى مكتب الإرشاد وزعيم الأغلبية فى مجلس الشورى.
•••
هناك خمس مشاكل جوهرية فى تصريحات عصام العريان، تكفى واحدة منها فقط للتشكيك فى جدية دعوته. المشكلة الأولى هى أنه وإن كان أكد على حتمية زوال إسرائيل وتوقيته (بعد عشرة سنوات)، فإنه لم يكلف نفسه عناء توضيح الطريقة التى ستزول بها إسرائيل وعما إذا كان ذلك سيتم عن طريق حرب تشنها حماس من غزة مع الإخوان المسلمين من مصر على إسرائيل، أم عن طريق قيام الإسرائيليين بانتحار جماعى كما فعل أسلافهم فى الماتسادا، أم، وهو الاحتمال الأرجح، لأن الصهيونية أيديولوجية رجعية يتخلى عنها أنصارها قبل خصومها بدليل الهجرة العكسية من إسرائيل؟ المشكلة هنا لا تكمن فى تشخيص عصام العريان للصهيونية على أنها تنتمى للقرن التاسع عشر أكثر من انتمائها للقرن الواحد وعشرين، ولكن فى توقعه زوالها نتيجة لذلك، فالصهيونية استطاعت على مدار الستين عاما ونيف الماضية أن تبتكر أساليبا من القهر والعنف مكنتها من البقاء، فما الذى يضمن عدم مواصلتها هذا المنهج الدموى؟
المشكلة الثانية أن عصام العريان افترض أن مجرد دعوته للإسرائيليين المنحدرين من أصول مصرية للعودة إلى مصر ستكفى لإقناعهم بأن حياتهم فى مصر تحت حكم الإخوان ستكون أفضل من حياتهم فى إسرائيل، وفى توضيحه لتلك النقطة شرح عصام العريان أن هذا كان تحديدا السبب وراء إضافة المادة الثالثة فى الدستور التى ذكرت لأول مرة فى تاريخ الدساتير المصرية حق اليهود المصريين فى الاحتكام لشريعتهم فى قضايا الأحوال الشخصية. والمشكلة فى هذا المنطق أنه يعود بنا إلى نظام الملل فى الدولة العثمانية الذى كان يضمن لكل طائفة أن تحتكم لشريعتها، أو هو يعود بنا إلى نظام أهل الذمة التى نظرت بها الدولة الإسلامية لرعاياها من غير المسلمين على أنهم رعايا، تجب حمايتهم بالطبع، ولكنهم ليسوا متساوين مع سادتهم المسلمين بطبيعة الحال.
المشكلة الثالثة أن هذه الدعوة لم توجَه، من حيث المبدأ، لليهود المصريين الذين تركوا مصر بغض النظر عن الجهات التى نزحوا إليها بل فقط لهؤلاء الذين انتهى بهم الحال فى إسرائيل، فإذا كان الغرض هو تصويب خطأ ارتكب فى الماضى، وأنا أظن أن خطأ كبيرا قد ارتكب بالفعل فى حق اليهود المصريين، فيجب أن نعترف أن الظلم وقع على كل اليهود غير الصهاينة، وهؤلاء كانوا الأكثرية، الذين أجبروا على ترك وطنهم، سواء ارتحلوا إلى إسرائيل أو إلى جهة أخرى.
المشكلة الرابعة فى دعوة عصام العريان أنها لم تتطرق لهؤلاء الإسرائيليين ذوى الأصول المصرية الذين لن يفضلوا العودة لمصر أو البقاء فى إسرائيل، هل سيتحتم على مصر وقتها أن تعوضهم على ممتلكاتهم التى صودرت وعلى معاناتهم؟
المشكلة الخامسة لا تتعلق باستشراف المستقبل بل بقراءة الماضى، فعصام العريان لم يبذل أى جهد لنفى أو دحض الاعتقاد الشائع لدى غالبية الإسرائيليين، وكثير من المصريين، أن المسئول عن رحيل اليهود المصريين لم يكن نظام عبدالناصر وحده بل أيضا سياسات وتوجهات جماعة الإخوان المسلمين التى ينتمى لها عصام العريان. فعلى مدار الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى لم تنظر الجماعة قط لليهود المصريين على أنهم مصريون كاملو الأهلية، بل كانت دوما تشكك فى انتمائهم لمصر، وهناك عشرات المقالات التى نشرتها الجماعة فى مجلاتها التى كانت تتسم بمعاداة السامية الصريحة، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، ولكن تكفى الإشارة إلى مقال «خطر اليهود على العالم الإسلامى والمسيحى» الذى نشرته مجلة «النذير» التابعة للإخوان عام 1938 (العدد التاسع صفحة ٢١٥) والذى ادعى أن اليهود هم المستعمرون الحقيقيون للهند وليس الإنجليز. كما لا يمكن إنكار أعمال العنف التى شنها شباب الجماعة على المعابد والمحال التجارية اليهودية حتى تلك غير المملوكة لصهاينة فى ذكرى التنديد بوعد بلفور يومى 2 و3 نوفمبر 1945، أو الأعمال الأكثر دموية التى اندلعت ضد المصالح اليهودية فى القاهرة والإسكندرية عام 1948 والتى انتهت باغتيال النقراشى؟ هل يعتقد حقا عصام العريان أن دعوته الكريمة لليهود المصريين ستمحو السجل الدموى لجماعته من الذاكرة؟
•••
بالرغم من هذه المشكلات الجوهرية يبقى أن دعوة الدكتور عصام العريان تنطلق من مبدأ جيد، ألا وهو أن صراعنا مع الصهيونية صراع أخلاقى فى الأساس، وأنه من الممكن تخيل ترك اليهود لإسرائيل. ولكن كيف بربك تتخيل أن يترك اليهود بلدهم الحالى لوطن سن لتوه دستورا لا يساوى بين المواطنين ويكرس لهيمنة الأزهر على الدستور ويضع اللبنات الأولى لدولة دينية؟