نُشر في “الشروق” في ٢٢ فبراير ٢٠١٣
فى أحد أيام ديسمبر من عام 1877 ذهبت سيدة اسمها أم إبراهيم لضبطية إسكندرية (أى الشرطة) لتبلغ عن اختفاء ابنها، إبراهيم المصرى، الذى كان فى العقد الثالث من عمره. وقالت فى شكواها إن ابنها قد حضر للإسكندرية مصطحبها معه قبل عدة أشهر بحثا عن عمل، وإنه وفق فى العثور على وظيفة كترزى فى محل يملكه تاجر يهودى اسمه حنين اصطفان. وختمت شكواها باتهام حنين بمقتل ابنها.
وفى تلك الأثناء كانت الضبطية قد تلقت إخطارا بالعثور على جثة شاب مجهول الهوية فى محل سكنى يقطنه اثنان وعشرون يهوديا. وعندما شرعت الضبطية فى التحقيق تبين أن الجثة بها جروح وكدمات فى الوجه وفى الركبة وأن ملابس الشاب ممزقة، الأمر الذى يوحى بحدوث عراك قبل الوفاة. وباستجواب ساكنى العقار أنكروا جميعا معرفتهم بصاحب الجثة أو بملابسات وجوده فى محل سكنهم. وبالتحريات اللاحقة تبين وجود خمارة مجاورة، وبسؤال زبائنها تعرف أحدهم على الجثة وأكد أنها بالفعل جثة إبراهيم المصرى المختفى، وأن إبراهيم كان يجلس معه فى الليلة السابقة، وأنهما شربا بوظة سويا، وأن إبراهيم أكثر من الشرب حتى الثمالة.
عندها أمرت الضبطية بتشريح الجثة للوقوف على أسباب الوفاة. وسرعان ما أن أتى تقرير الطب الشرعى دقيقا موضحا أسباب الوفاة بشكل لا يدع مجالا للشك. فبتشريح المخ تبين تغير لون خلاياه الأمر الذى رجح الموت اختناقا، وبما أن الرقبة لم يكن عليها أى علامات تدل على الضغط عليها، فقد بوشر فى تشريح المعدة التى اكتشف فيها قدر كبير من البوظة. ثم وبتشريح الرئة وجد بها سائل رغوى تبين من تحليله أنه استفراغ من المعدة. وانتهى تقرير الطب الشرعى إلى أن سبب الوفاة اختناق ناتج عن غرق المتوفى فى استفراغه هو نفسه. وخلص تقرير الضبطية إلى أن إبراهيم قد شرب فى الليلة السابقة قدرا كبير من الخمر، الأمر الذى أدى لسكره، وأنه رحل عن الخمارة منفردا وهو فى حالة سكر بيّن، وأنه ترنح فى طريقه وصدم رأسه بالحائط أكثر من مره الأمر الذى أدى للجروح الظاهرة على وجهه، ثم تعثر فى مشيه حتى سقط ومزق جلبابه، وأخيرا سقط مغشيا عليه ومن شدة سكره استفرغ، وهو ما أدى لغرقه فى استفراغه ووفاته نتيجة لذلك. وبعد أن خلصت الضبطية إلى أن وفاة إبراهيم كانت طبيعية ولم تكن بفعل فاعل أمرت بدفن الجثة وبعدم تحريك الدعوى الجنائية.
أوراق هذه القضية، مثل المئات غيرها من قضايا الطب الشرعى، محفوظة ضمن سجلات ضبطية اسكندرية، المحفوظة بدورها فى دار الوثائق القومية. وعلى مدى العشرين عاما الماضية عكفت على دراسة هذه الوثائق الفريدة منبهرا بالدقة المتناهية وبالحرفية العالية وبالاعتزاز بالنفس الذى ميَز القائمين على مصلحة الطب الشرعى فى القرن التاسع عشر. وقد خلصت إلى أن هذه الحرفية هى، بدورها، انعكاس للتقدم المذهل الذى شهده كل من الطب والقانون فى مصر فى القرن التاسع عشر.
●●●
إن ريادة مصر على جيرانها ليست نتيجة للسبعة آلاف سنة من الحضارة، بقدر ما هى نتيجة لمائتى عام من بناء مؤسسات حديثة. إن الدولة الحديثة التى بنيناها على مدى القرنين الماضيين كان عمادها دائما مؤسسات وليس أشخاصا. ريادة مصر بالتالى نتاج مؤسسات مهنية وحرفية مثل مؤسسة القضاء (نيابة ومحاكم أهلية ومدعى عام وقوانين حديثة) ومؤسسة الطب (مستشفيات، ومصحات، وكليات طب، وترجمات متطورة لكتب طبية حديثة، وإحصائيات حيوية)، وفى التقاطع من هاتين المؤسستين تقبع مؤسسة الطب الشرعى الذى توضح قصة إبراهيم المصرى مقدار التقدم الذى شهدته فى القرن التاسع عشر.
ومما يحزن فعلا أن نرى فى القرن الواحد والعشرين مؤسساتنا تنهار واحدة بعد الأخرى بعد أن عانينا الأمرين فى بنائها، وما تشهده مؤسسة الطب الشرعى خير دليل على الانهيار شبه التام للدولة المصرية على مدى الستين عاما الأخيرة إن لم يكن أكثر. إن الوقفات الاحتجاجية أمام مصلحة الطب الشرعى فى الأيام القليلة الماضية سببها الطبيعى والمباشر هو اعتراض أعضاء حملة «وطن بلا تعذيب» وغيرهم على تقرير تشريح جثة الناشط محمد الجندى، وهو التقرير الذى نفى أن تكون وفاته نتيجة تعذيب وأرجعها لحادث سيارة، وهو الأمر الذى أثار شكوكا كثيرة لتضارب التقرير مع شهادة الشهود ومع التدخل المريب لوزير العدل فى القضية.
ولكن تلك الوقفات التى تنادى بإصلاح جهاز الطب الشرعى فى مصر تتعلق بقضايا أخرى عديدة كلها تثير الريبة فى مهنية هذا الجهاز المحورى واستقلاله. فمنذ قضية خالد سعيد والطب الشرعى يحتل مركز الصدارة فى هذه الثورة لارتباطه الوثيق بكل من ظاهرة التعذيب واستقلال القضاء. ولم تكن قضية خالد سعيد الأخيرة (ولم تكن طبعا الأولى) التى حاول فيها أهالى ضحايا التعذيب الحصول على حقوقهم استنادا على الطب الشرعى، فهناك التقارير الفاسدة التى كان رئيس مصلحة الطب الشرعى السابق، السباعى أحمد السباعى، يصدرها مثبتا أن من سقط فى الميادين أثناء الثمانية عشر يوما من الثورة سقط نتيجة اختناق من الغاز وليس نتيجة طلق نارى، وهناك تقرير قضية عصام عطا الذى برأ ضباط ليمان طرة من تهمة تعذيبه للموت، وهناك التقرير الشائن الذى لم يعط سميرة إبراهيم حقها فى إثبات واقعة انتهاك حرمتها على أيدى الشرطة العسكرية، وهناك العديد والعديد من القضايا الأخرى التى توضح بجلاء فساد هذا الجهاز المحورى وإهداره للمكانة المميزة التى كان يتمتع بها لدى المصريين منذ إنشائه فى القرن التاسع عشر.
إن انهيار مصلحة الطب الشرعى، مثلها مثل الكثير من مؤسساتنا الحديثة، له أسباب كثيرة منها قلة الموارد المادية وتدنى المهارات البشرية وانهيار التعليم الجامعى، ولكن يبقى الفساد السياسى والمؤسسى من أهم هذه الأسباب. ومن المدهش بالفعل أنه مع أهمية هذا العامل ووضوحه ومع أن ثورتنا ثورة حقوق فى جوهرها تنادى بضرورة وضع حد للتعذيب وبضرورة إعادة بناء مؤسساتنا القضائية، فإن من يتصدر الساحة السياسية، من حكومة ومعارضة، مشغول عن هذه القضية المحورية، أى إصلاح مؤسساتنا وإعادة بنائها، ومهتم بغيرها من توافه الأمور. فالإخوان مهتمون بإحكام سيطرتهم على مفاصل الدولة وليس إصلاحها، والسلفيون مهووسون بسؤال الهوية ويريدون إعادة اختراع العجلة، وجبهة الإنقاذ أصبحت أسيرة خطاب تعدته الأحداث.
●●●
وفى النهاية لا يسعنى سوى الاستشهاد بما قالته الصحافية ماهينور المصرى عندما ذهبت للمشرحة مؤازرة لأسرة أحد ضحايا التعذيب. «والدة الشهيد حسن شعبان وسط حزنها وهى فى المشرحة بعد ما بصت على ابنها النظرة الأخيرة واحنا فى انتظار الطب الشرعى يخلص تشريحه راحت بصلنا وقالتلنا: أى حد فيكوا يخطب أو يتجوز أمانة عليكم تعزمونى. عايزة أفرح للى بيحبوا حسن.. فى اللحظة دى ماتبقاش عارف المفروض تنهار وماتكملش ولا تبقى أقوى ستين ألف مرة عشان بشر غلابة عمر ما الدنيا عاملتهم كويس وعمالة تظلم فيهم بس بيحبوا الخير للناس.. البشر دول يستاهلوا أحسن.. إكمال الثورة مش اختيار يا سادة. النظام اللا نسانى لازم ينتهى».