نُشر في “الشروق” في ١ مارس ٢٠١٣
فى منتصف عام 1861 صدر أمر عالٍ من سعيد باشا، حاكم البلاد وقتئذ، إلى كل مديرى المديريات ومأمورى الضبطيات (أى رؤساء أقسام الشرطة) باستبدال عقوبة الضرب بالحبس، وصدرت بهذا الأمر لائحة عرفت رسميا باسم «لائحة استبدال الضرب بالحبس». وقد جاء فى هذه اللائحة أن من حيث «أن الجزاءات الجارى حصولها لبعض أرباب الجنايات بالضرب.. مقصود منها تأديب من يرتكبوا أوزار والذنوب وعدم العودة لها، وردع الغير، وملاحظة التأثير مع منع الضرر، فقد اقتضت إرادتنا تبديل الجزا الذى كان يجرى بالضرب بإجرى الحبس».
قبل صدور هذه اللائحة كان التعذيب يحتل مكانة مركزية فى النظام القانونى المصرى، فأغلب قوانين العقوبات الصادرة فى القرن التاسع عشر كانت تنص صراحة على الضرب أو الجلد كعقوبة شرعية تطبق علنا، فمثلا نص قانون يسمى «قانون المحتسبين» صدر عام 1835 على أن من يبيع الأصناف المختلفة بنقص فى الموازين «يجازى بالضرب عشرة كرابيج فى الدفعة الأولى، وخمسة وعشرين فى الدفعة الثانية، وخمسين فى الثالثة».
وإضافة إلى دوره كعقوبة قانونية، كان التعذيب يمارس أيضا كوسيلة من وسائل إجبار المتهمين على تقديم اعتراف، وبالتالى إقامة البينة فى القضايا الجنائية. وتحفل سجلات الضبطية وقتها بعبارات مثل «وشددنا عليه العذاب» و«جرى ضربه حتى تناثر لحم إليتيه»، للتعبير عن الممارسات المنهجية التى كانت تنتهجها سلطات التحقيق.
•••
ما الذى حدا بالدولة المصرية أن تلغى التعذيب عام 1861؟ لقد احترت كثيرا فى محاولة الإجابة على هذا السؤال. فديباجة لائحة استبدال الضرب بالحبس لا تذكر أسبابا واضحة لهذا التحول الهام فى التشريع المصرى. كما لا يعرف عن سعيد باشا ولعه برفاهية رعاياه ولا محاولته التخفيف من معاناتهم. وبالطبع لم تكن هناك جمعيات حقوقية أو مؤسسات دولية تراقب السجون والليمانات المصرية للتأكد من أنها لا تنتهك الأعراف والمواثيق الدولية، لأن تلك الأعراف والتقاليد لم تكن قد ولدت بعد أصلا.
ولكن بدراسة العديد من وثائق تلك الفترة تبين لى أن التعذيب كان يؤرق القائمين على شئون الدولة المصرية وقتها. فالتعذيب كعقاب (أى الكرباج والفلقة) كان فى أحيان كثيرة يفضى إلى الموت، وهو أمر رأت فيه السلطات السياسية تهديدا لسيادتها، وهو ما دعاها لإصدار أمر عام 1852 بمنع الضرب والجلد إلا بوجود حكيم. كما أن التعذيب، بطبيعته، لا يساوى بين ضحاياه، فالكهول وضعاف البنية لا يتحملونه كالشباب الأصحاء، وبالتالى فالتعذيب كعقاب قانونى ينتهك أبسط مبادئ القانون الجنائى وهو المساواة فى العقاب متى تساوت الجريمة.
كما أن التعذيب كوسيلة لاستخلاص اعتراف لم يخل من مشاكل، وكان ضباط الشرطة أول من يعترف بأن الاعتراف الناتج عن التعذيب لا يعول عليه إذ إن المتهمين كثيرا ما يعترفون بأى شىء ليخلصوا أنفسهم من التعذيب وهو ما يعنى عمليا عدم الوصول للجانى الحقيقى.
وأخيرا، فإن الدولة وجدت بديلا للتعذيب فى كلتا وظيفتيه، أى كعقاب قانونى وكوسيلة لإقامة البينة. فعلى مدار القرن التاسع عشر اعتنت الدولة المصرية بأحوال السجون والمساجين، وحولت السجون والليمانات من أماكن للنفى والإقصاء إلى أماكن للإصلاح والتهذيب. كما كان للتطور المذهل الذى شهده الطب الشرعى أن حل محل التعذيب لاستخلاص اعتراف كوسيلة لإقامة الدليل القانونى فى الجرائم الجنائية. وبعد سنوات طويلة أمضيتها فى دار الوثائق القومية خلصت إلى أن إلغاء التعذيب من التشريع الجنائى المصرى فى القرن التاسع عشر كان نابعا من داخل جهاز الدولة نفسه وتحديدا من جهاز الشرطة الذى وصل لدرجة عالية من المهنية والاحتراف، وكان انعكاسا للدرجة العالية من المركزية والقوة والثقة فى النفس التى حققها الجهاز الإدارى للدولة، وفى صلبه جهاز الشرطة.
•••
ومن المحزن حقا أن نشهد الردة العميقة التى أصابت الدولة المصرية فى الثلاثين عاما الماضية، تلك الردة المتمثلة فى انتشار التعذيب فى كل أقسام الشرطة وأماكن الاحتجاز فى مصر. ومما يحزن أكثر أن القائمين على البلاد الآن لا يرون خطورة إهمال هذا الملف الساخن وتحديدا بعد اندلاع ثورة قامت، فيما أرى، أساسا لوضع حد للتعذيب ولغيره من الانتهاكات المنهجية التى تمارسها الشرطة فى حق المواطنين. فرئيس الجمهورية لم ينبس ببنت شفة عن موضوع التعذيب، ورئيس الحكومة ذهب لقيادات الأمن المركزى فى أعقاب أحداث بورسعيد الأخيرة ليعدهم بزايدة تسليحهم، والحكومة وأدت كل مبادرات إصلاح الشرطة، ووزير العدل أنكر وجود تعذيب فى عهد الرئيس مرسى وردد فى أكثر من مناسبة أنه لا يمكن إصلاح الشرطة إلا من داخلها وبمبادرات من قياداتها. وبالتالى فكل الشواهد تقول إن حكومة الرئيس مرسى قد حسمت أمرها فى هذا الشأن ورأت أنه لا قِبل لها بالتصدى لتجاوزات الشرطة ولا قدرة لها على إجبار قيادات الشرطة على تغيير عقيدتهم فى التعامل مع الشعب.
وأظن أن هذا الخيار، خيار تجاهل ملف إصلاح الشرطة، سيصيب حكم الرئيس مرسى فى مقتل. فالشرطة المصرية الآن، على عكس عهدها فى القرن التاسع عشر، لا يمكنها إصلاح نفسها من الداخل وذلك لأن الجهاز الإدارى للدولة، من قضاء وطب شرعى، الذى أعان الشرطة على تلك المهمة الصعبة فى الماضى، قد انهار بالفعل. كما أن ممارسة التعذيب قد أمست من المنهجية والاعتياد بحيث أصبح من المستحيل أن نتوقع من ضباط وقيادات الشرطة أن يقبلوا على هذه المهمة طواعية.
على أن الأمر أخطر من ذلك. فأثناء تواجدى فى أحداث محمد محمود الأولى وبعد تبادل الحديث مع الشباب هناك اتضح لى عمق الكراهية التى يكنها هؤلاء الشباب للداخلية، واستمعت منهم، وهم شباب فى العشرينيات أو أصغر، لأهوال ومآسٍ عانوا منها على أيدى الداخلية منذ مولدهم. وفى نفس الوقت الذى رأيت فيه استماتة هذا الشباب فى مقاومة الممارسات القمعية للداخلية، رأيت أيضا الغياب التام لشباب الإخوان، فعلى عكس الموقف البطولى الذى وقفه شباب الإخوان يوم موقعة الجمل غاب الإخوان، كهولا وشبابا، عن كل مواجهة للثوار مع الداخلية وزبانيتها بعد ذلك. وأصبح من الواضح أن «التمسك بالشرعية» والتأكيد على أهمية إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والاستفتاء على الدستور أصبح هاجسا مسيطرا على عقلية الإخوان.
إن خطأ هذا التفكير وخطورته هو أنه يتجاهل أن هناك ثورة فى الشوارع والميادين. إن هذه الثورة قد تكون استطاعت أن تسقط بعض أركان النظام السابق وقد تكون قد نجحت فى فتح المجال العام بحيث تمكنا من إقامة انتخابات حرة ونزيهة. ولكن يخطئ الفائز فى هذه الانتخابات إذا ظن أن غرض الثورة كان يقتصر على إقامة انتخابات نزيهة فقط. هذه ثورة حقوق اندلعت يوم عيد الشرطة للتأكيد على أهمية إصلاح هذا المرفق الهام من مرافق الدولة.
•••
لن أستدعى حديث البغلة التى قد تعثرت فى العراق، ولن أتطرق لما قام به أهل الرئيس وعشيرته عندما انقضوا على متظاهرى الاتحادية. فقط سأذكر الرئيس بأن إصلاح الشرطة ليس مطلبا هامشيا يمكن تجاهله، وبأن تمسكه بضرورة استكمال الانتخابات دون التصدى لهذا الموضوع المحورى سيفرغ نتيجة الانتخابات من معناها وسيقوض من دعائم الدولة المتربع على عرشها.
[…] 14خطورة تجاهل إصلاح الشرطة […]