Press "Enter" to skip to content

صمت الإخوان

نُشر في “الشروق” في ١٩ ابريل ٢٠١٣

منذ ثلاثة أسابيع عرضت هنا لفيلم تسجيلى من تشيلى عن حوادث القتل الجماعى والاختفاء القسرى التى تمت فى أثناء حكم الدكتاتور بينوتشيه منذ أكثر من ثلاثين سنة، وتوقفت عند التناول الرائع للمخرج لمعاناة أهالى الضحايا وتركيزه على جهودهم الدءوبة لمعرفة ما حل بذويهم. كان غرضى من هذا العرض هو لفت الانتباه لقضايا التعذيب العديدة التى تمت هنا فى مصر أثناء حكم مبارك الطويلة والتى أفضى العديد منها إلى الموت والتى مازال أهالى ضحاياها يبحثون عن حل لها. وكنت أعقد المقارنة مع تشيلى لألفت النظر إلى ضرورة الانتباه لموضوع العدالة الانتقالية التى بدونها لن نتمكن من طى صفحة الماضى والتطلع لمستقبل مشرق يسود فيه العدل والأمان. بعد نشر مقالى تلقيت ردودا عديدة من قراء اعترضوا على المقارنة الضمنية التى عقدتها بين بينوتشيه ومبارك وقالوا إن فيها الكثير من الشطط، إذ إن عدد من اختفى أو عذب أو مات فى سجون مبارك لا يقارن بعشرات الآلاف الذين قضوا نحبهم فى سجون بينوتشيه. كان ردى، وما يزال، إن هذا الموقف لن يشفى غليل ابن يعتقد أن أباه مات ظلما فى السجن ولن يريح أما مازالت تبحث عن ابنها الذى اعتقل. أما على صعيد المجتمع فما يدهشنى حقا هو التجاهل والاستهتار التى تناول بهما الإخوان لملف العدالة الانتقالية، وعدم إبدائهم أى رغبة فى معالجة الآلام التى خلفتها سنوات مبارك الثلاثين فى الحكم.

•••

ثم زادت دهشتى عندما قرأت الأجزاء التى نشرتها وسائل الإعلام من تقرير اللجنة التى شكلها الرئيس مرسى للتحقيق فى انتهاكات الجيش والشرطة بحق المتظاهرين منذ يناير 2011 حتى يونيو 2012. منذ أن قامت الشروق فى مارس الماضى، ومن بعدها الجارديان البريطانية، بنشر مقتطفات من هذا التقرير والمقالات الصحفية والبرامج التليفزيونية لم تنقطع عن التعليق عما نشر، ولكن ما يثير الانتباه هو أنه، وباستثناءات قليلة، أذكر منها برنامج «بلدنا بالمصرى» للأستاذة ريم ماجد، فإن أغلب التعليقات لم تتناول محتوى التقرير بقدر ما تناولت ملابسات نشره، أو نشر أجزاء منه. هل ما نشر من أوراق وشهادات يشكل جزءا من التقرير أم أن هذه الأوراق والشهادات مزيفة؟ من الذى قام بالتسريب، ولماذا؟ ألا يعتبر ذلك جزءا من مؤامرة هدفها تشويه سمعة الجيش والتشكيك فى ثقة الشعب فيه؟ إلى أى درجة يعبر نشر هذا التقرير فى هذه الأيام عما وصلت إليه العلاقة بين الإخوان والجيش من تأزم وعدم ثقة؟ هذه عينة من الأسئلة التى تناولتها الأقلام والبرامج الحوارية عن هذا الموضوع.

ويمكنكم قراءة التقرير هنا.

•••

ما كنت أتمنى أن أقرأه فى الصحف وأشاهده فى البرامج الحوارية هو محاولة وضع التقرير ضمن سياق أكبر من جهود الجمعيات الحقوقية لتوثيق انتهاكات الشرطة والجيش لحقوق المواطنين. فالموضوع لا يتعلق بـ«خبطة» صحفية قامت بها الجارديان، أو بشطارة الشروق فى الحصول على جزء من التقرير، أو بالملابسات التى أحاطت بالتسريب. الحقيقة أنه منذ اندلاع الثورة فى يناير 2011 وجمعيات حقوق الإنسان لم تتوقف عن رصد انتهاكات الشرطة والجيش للقانون بل للأعراف والتقاليد المجتمعية والإنسانية. فجمعيات مثل «لا للمحاكمات العسكرية» و«عسكر كاذبون» و«مصرين» و«مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب» و«المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» و«هيومان رايتس ووتش» وغيرها أصدرت العديد والعديد من الشهادات والتقارير عن حوادث قتل وتعذيب واختفاء واغتصاب قام بها رجال الشرطة والجيش منذ اندلاع الثورة دون محاسبة أو معاقبة.

أما الأمر الثانى بخصوص تناول الإعلام لتقرير لجنة تقصى الحقائق هو عدم الانتباه الكافى لطبيعة اللجنة وطبيعة تقريرها. فهذه لجنة رسمية شكلت بالقرار الجمهورى رقم 10 لسنة 2012. وقد ضمت اللجنة قضاة، وأحد مساعدى النائب العام، وأحد مساعدى وزير الداخلية، ورئيس هيئة الأمن القومى بالمخابرات العامة، ومحامين حقوقيين وأقارب الضحايا. وقد كلفت اللجنة بجمع المعلومات والأدلة حول مقتل وإصابة المتظاهرين فى الفترة من 25 يناير 2011 وحتى 30 يونيو 2012، ومراجعة «كل الإجراءات التى قامت بها الأجهزة التنفيذية فى الدولة وبيان مدى تعاونها مع السلطة القضائية فى هذا الشأن، وبيان أوجه قصور أعمال تلك الأجهزة إن وجدت».

نحن إذن أمام لجنة رسمية شكلها رئيس الجمهورية نفسه ولذا يصعب اتهامها بالخيانة أو بالتآمر أو بأى من تلك الاتهامات الباطلة التى توجه عادة إلى جمعيات حقوق الإنسان المستقلة. وقد تمكنت اللجنة بالفعل من تحديد 19 واقعة منفصلة لجأت فيها الشرطة أو الجيش إلى استخدام القوة المفرطة أو ارتكبت انتهاكات أخرى بحق المتظاهرين. وقد تنوعت هذه الوقائع بين قتل إلى تحريض على قتل إلى اختطاف. وكان من أهم ما خلصت إليه اللجنة هو أن كلا من وزارة الداخلية والمخابرات العسكرية لم تتعاون معها وحجبت عنها وعن القضاء معلومات وأدلة مهمة فى قضايا منظورة بالفعل. وكان من أبشع ما رصدته اللجنة قيام أحد الأطباء العسكريين فى مستشفى كوبرى القبة العسكرى بتوجيه الأمر لمرءوسيه بإجراء عمليات جراحية للمتظاهرين فى أحداث العباسية دون تخدير أو تعقيم.

•••

هذه نتائج لا يمكن أن توصف إلا بأنها خطيرة وبشعة وكان يُفترض من الرئيس، وهو الذى شكل هذه اللجنة بنفسه فى أول أيام توليه للرئاسة، أن يأخذ هذا التقرير مأخذ الجد ويقوم بتحريك الدعوى الجنائية ضد من رأته اللجنة مسئولا عن هذه الانتهاكات المروعة. وحسب ما هو منشور على موقع اللجنة الرسمى على الإنترنت، فقد رفعت اللجنة تقريرها للرئيس فى أواخر ديسمبر الماضى، وهو بدوره أحال التقرير إلى النائب العام الذى عين فريقا للتحقيقات مكونا من 20 وكيل نيابة. وفى 21 يناير أُعلن أن اللجنة اكتشفت «14 واقعة جديدة» يحقق فيها وكلاء النيابة فى «سرية تامة». ومن وقتها وحتى نشرت الشروق أجزاء من التقرير لم نسمع شيئا عن هذه اللجنة أو عن تقريرها. ولم يتم التحقيق مع أى من ضباط الشرطة أو قيادات الجيش الذين ثبت تورطهم فى هذه الجرائم، كما لم يتم التحقيق فى امتناع وزارة الداخلية والمخابرات العسكرية عن التعاون مع اللجنة ومع القضاء. ولم تثر وسائل الإعلام قضية المادة 198 المشئومة من الدستور التى تحظر التحقيق مع أى من أفراد القوات المسلحة إلا بمعرفة القضاء العسكرى، وهو ما يعنى عمليا توفير الغطاء القانونى لمخالفات رجال القوات المسلحة. ومن الغريب أن الرئيس مرسى بعد أن شكل اللجنة بنفسه يبدو أنه لم يكترث بها أو بتقريرها فهو لم ينبس ببنت شفة عن هذا التقرير الخطير، وعندما حاول بعض الصحفيين معرفة موقفه من التقرير ردت الرئاسة بأنه لم يقرأه. وهذا فى حد ذاته يطرح التساؤل عما إذا كان السفر لباكستان مثلا لتسلم دكتوراه فخرية من إحدى جامعاتها يعتبر أهم للرئيس من قراءة هذا التقرير الخطير.

إن صمت الإخوان عن تقرير لجنة تقصى الحقائق يفضح مزاعمهم بأنهم معنيون بالحرية والعدالة، فأى استهتار بهاتين القيمتين السامتين أكبر من إهمال رئيسهم لتقرير لجنة هو نفسه شكلها للانتصار للحرية ولتحقيق العدالة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.