نُشر في “الشروق” في ٣ مايو ٢٠١٣
أثناء رحلة للندن الأسبوع الماضى قمت بزيارة كلية الجراحين الملكية التى يوجد بها واحد من أهم متاحف تاريخ الطب والجراحة فى العالم. ونظرا لاهتمامى بالتاريخ الحديث للطب فى مصر فقد أمضيت نهارا كاملا فى هذا المتحف وفى مكتبة الكلية وأرشيفها.
ما لفت نظرى فى المتحف كان سرده لقصة التشريح فى إنجلترا وكيف انتهى به الحال بأن تبوأ مكانا مركزيا فى تعليم الأطباء والجراحين. الطريقة التقليدية لسرد هذه القصة المحورية كانت تركز على مقاومة الكنيسة لجهود الأطباء واعتراض القساوسة على تشريح الجثث لأغراض التعليم الطبى. وكانت هذه الرواية هى الرواية الشائعة: جهود علمية دءوبة يقوم بها الأطباء «المستنيرون» فى مقابل تخلف الكنيسة و«ظلاميتها».
فى مقابل هذه الرواية «البطولية» واعتمادا على أبحاث ونظريات حديثة عن تاريخ الطب يسرد المتحف قصة تاريخ التشريح بشكل أكثر تعقيدا وأكثر منطقية. حسب الرواية الجديدة فإن الدين لم يكن له دور فى إعاقة البحث العلمى أو فى الحث عليه، فالعقبة الكؤود التى وقفت أمام فتح الجسم البشرى بغرض التعليم لم تكن الكنيسة بل كان أعضاء هيئة التدريس فى كليات الطب. هؤلاء «الحكماء» استقوا معلوماتهم عن الطب من أمهات الكتب القديمة التى انكبوا على دراستها باللاتينية، وهالهم أن يدعى أحد الأطباء الشبان بأن ما يراه بالعين فى الجثة قد يكون أدق وأصدق مما قاله الأقدمون فى الكتب. ولذا قاوم كبار «الحكماء» وعمداء الكليات الجراحين الجدد الذين وصفوهم بالـ«جزارين» وحالوا دون تقدمهم فى الصنعة أو الاعتراف بخبراتهم وحرفيتهم.
•••
وبالمثل، أعتقد أن من أهم المشكلات التى تواجه البحث العلمى فى مصر ليست الرقابة الدينية أو قلة الاعتمادات المادية أو ضعف ميزانية البحث العلمى بقدر ما هى القبضة الأمنية التى قتلت مؤسساتنا العلمية سواء كانت جامعات أو مكتبات أو متاحف، بالإضافة إلى العقلية الرجعية المنغلقة التى يعانى منها القائمون على هذه المؤسسات.
وللتوضيح أسرد هنا بعضا مما عانيت منه أنا شخصيا ويعانى منه الكثير من طلابى فى محاولاتنا إجراء بحوث علمية فى تخصصنا، أى التاريخ. عندما بدأت التحضير لرسالة الدكتوراه فى جامعة أوكسفورد عن تاريخ مصر أثناء حكم محمد على نصحنى أستاذى، روجر أوين، بالبحث فى دار الوثائق البريطانية التى تحتوى على تقارير القناصل البريطانيين لمصر والتى تعتبر مرجعا لا غنى عنه لأى دارس لتلك الفترة. فأخذت أؤجل تلك الزيارة وأخشاها، فلم تكن لى سابق تجربة فى البحث الأرشيفى. ثم وجدتنى فى أحد الأيام عالقا فى المواصلات أمام مبنى الدار فقررت أخيرا الدخول للاستفسار عن إجراءات الحصول على تصريح بالاطلاع. استقبلتنى موظفة فى البهو الرئيسى وطلبت بطاقة هوية. لم يكن معى سوى كارنيه الجامعة، فقامت بتصويره ثم أخذت فى ملء بعض الاستمارات وطلبت منى الجلوس على مقعد والنظر فى كاميرا موضوعة أمامى، وما هى إلا لحظات حتى وجدتها تعطينى تصريحا بالاطلاع مضيفة أن التصريح صالح لمدة ثلاث سنوات فقط.
بعد ستة أشهر قضيتها فيما زلت أعتبره صرحا علميا عالميا حان وقت العودة لمصر للبدء فى التحضير الفعلى لرسالتى، فعلى غنى تقارير القناصل نبهنى مشرفى أنه لا يصح أن أكتب رسالة عن تاريخ مصر معتمدا على وثائق أجنبية، ونصحنى بأن أركز على الوثائق المصرية الموجودة فى مصر. عدت إلى بلدى عملا بنصيحته، وتوجهت إلى دار الوثائق القومية لأطلع على خطابات محمد على لابنه إبراهيم باشا، فكنت قد اخترت تاريخ جيش محمد على موضوعا لرسالتى. هالنى ما طلبته منى الموظفة من استمارات وإمضاءات. وبعد أن استوفيتها قالت لى إن أعود بعد بضعة أسابيع لم تحددها.
وتبينت بعد ذلك أن الاطلاع على الوثائق التاريخية المودعة فى دار الوثائق يستلزم موافقة أمنية على موضوعى وعلى شخصى، وبما أن الأمر بيد «الأمن» فلا أحد بإمكانه التأكد من الوقت الذى سيستغرقه وصول الموافقة الأمنية.
حتى أوفر على نفسى الوقت ــ فلدى التزام أمام المشرف بميعاد تسليم مسودة أول فصل ــ قررت الذهاب للمتحف الحربى بالقلعة حيث سمعت بوجود مكتبة صغيرة. وطبعا سرعان ما اكتشفت أنه إذا كان الحصول على تصريح دار الوثائق صعب قيراط فالحصول على تصريح مكتبة المتحف الحربى صعب أربعة وعشرون. توسط لى أحد الضباط الكبار (وكان برتبة لواء) وذهبنا سويا لمقر المخابرات العسكرية بمصر الجديدة وخضعنا سويا لاستجواب طويل. س: عاوز تصريح مكتبة المتحف الحربى ليه؟ ج: علشان باحضر رسالة دكتوراه عن جيش محمد على. س: إيش معنى الجيش؟ ج: علشان ممكن من خلاله أن أدرس أحوال المجتمع المصرى من مية وخمسين سنة. س: المكتبة فعلا فيها كتب قديمة عن جيش محمد على ولكن أغلبها كتيبات تدريب قديمة ما لهاش قيمة. ج: دى مصادر أولية فريدة فى أهميتها وعلشان كده تحديدا عاوز اطلع عليها. س: الكتب دى بالعثمانى وصعب قراءتها. ج: أنا أتعلمت شوية تركى وأظن أنى ممكن أقرأها. س: اتعلمت تركى فين وامتى؟ فما كان من الضابط واسطتى أن فقد أعصابه صائحا: هو انت فاكره جاسوس عثماني!؟
بعد شهور وصلتنى أخيرا بشارة الحصول على تصريح دار الوثائق. بدأت البحث فى الدار غير مصدق الكم الهائل من الوثائق الفريدة والشيقة والهامة المحفوظ هناك. ثم بدأت فى مواجهة سيل جديد من الأسئلة من موظفى قاعة البحث ومن زملاء آخرين يحضرون لرسالاتهم فى الجامعات المصرية. س: المشرف بتاعك أجنبى، مش كده. هو اللى أجبرك على أن تدرس موضوع الجيش؟ ج: لأ، أنا اللى اخترته علشان ممكن من خلاله دراسة أحوال المجتمع المصرى من مية وخمسين سنة. س: بس موضوع الجيش اتدرس قبل كده. هو المشرف بتاعك ما قالكش كده؟ ج: أنا عارف أن الدكتور السروجى درس جيش محمد على فى الستينيات، إنما ده ما يمنعش إن الواحد يدرسه من جديد يمكن يطلع بجديد.
•••
حدث هذا منذ أكثر من عشرين سنة، وأثناء هذه المدة انتهيت من رسالتى ونشرتها بالإنجليزية وبالعربية وأظن أننى أثبتُ أننى لم أكن يوما جاسوسا عثمانيا أو شابا ضلله مشرفه. وطوال هذه المدة واظبت قدر استطاعتى على التردد على دار الوثائق ولم يزد على انبهارى بمقتنياتها التى يقدر عددها بمائة مليون وثيقة سوى حسرتى على قلة عدد زائريها فى اليوم الواحد الذى يعدون على أصابع اليدين. ويزداد حزنى يوما بعد يوم عندما أدرك المعاناة التى يواجهها طلابى فى البحث هناك وعندما تتضح لى مقدار سيطرة العقلية الأمنية على الدار: عاملين وموظفين وطلابا.
إن دار الوثائق حالها مثل حال كل مؤسساتنا البحثية من جامعات ومكتبات ومتاحف. هذه المؤسسات يغلب عليها الهاجس الأمنى وليس البحثى، فمعيار نجاح أى مسئول فى هذه المؤسسات هو نجاحه فى الحفاظ على مقتنياتها وليس جذب الباحثين وتحويل المؤسسة إلى مكان لإنتاج المعرفة. هذا الهاجس الأمنى مع العقلية المحافظة التى ترتاب فى الباحثين ليس فقط علامة على الردة العلمية التى نعانى منها، بل هو من أهم أسبابها. وعلينا جميعا العمل على التصدى لهذه العقلية الأمنية بغرض رفعة هذا الوطن ونهضته.