مقال أعدته للنشر عزة مغازي على حوار مع دكتور خالد فهمي عبر سكايب
نُشر في المنصة يوم ٢٥ يناير ٢٠١٦
بعد ٦٤ عامًا من الواقعة التي صارت اليوم عيدًا للشرطة، تقف الشرطة المصرية على جانب مغاير لذلك الذي اختاره رجالها في معركة الإسماعيلية الشهيرة، التي اتخذوا فيها قرارًا بمواجهة، لا توجد أدلة قوية على تأييد الحكومة لها في هذا الوقت.
ما نعرفه عن الواقعة المعروفة في المراجع التاريخية باسم “معركة الإسماعيلية”، أن ٨٠٠ جندي وضابط مصري من قوات الشرطة، رفضوا صباح يوم الخامس والعشرين من يناير ١٩٥٢ أن يسلموا أسلحتهم ومبنى قسم شرطة الإسماعيلية لقوات الاحتلال الإنجليزي، وبادروا في السادسة صباحًا بإطلاق النار من بنادقهم البدائية على قوات ودبابات جيش الاحتلال المحتشدة خارج القسم. وانتهت المعركة ظهر اليوم نفسه بمقتل ثلاثة جنود بريطانيين، واستشهاد ٥٠ من المصريين واستسلام الباقين الذين تعرضوا لاحقًا للاعتقال.
روايتان متضاربتان
حسب الرواية الرسمية التي تبنتها الصحف الصادرة عقب حركة الجيش في ٢٣ يوليو ١٩٥٢، فإن المعركة بين الجانبين استمرت حوالي ثلاث ساعات تقريبًا. وتضيف الرواية نفسها: إن فؤاد سراج الدين وزير الداخلية وقتها، أصدر أوامرًا للجنود بالدفاع عن القسم، وعدم الاستسلام؛ وهو ما ترفضه شهادة منشورة في يناير ٢٠٠٣، لليوزباشي مصطفى رفعت الضابط المكلف، ورئيس القوة التي دافعت عن القسم يومها. والذي قال في شهادته المنشورة صحفيًا بجريدة الشرق الأوسط: إنه تلقى اتصالا من سراج الدين بعد ساعات من بدء الهجوم على القسم بالفعل، وأن الجنود هم من اتخذوا قرار القتال وألزموا به الضباط، ولم تكن وزارة الداخلية، ولا الحكومة هما صاحبي القرار.
أيهما الرواية الأدق؟ لا سبيل لمعرفة ذلك قطعًا؛ ليس فقط لغياب الوثائق وصعوبة الاطلاع عليها وهو أمر يعرفه كل باحث في الوثائق والتاريخ في مصر، ولكن لأن السجل التاريخي نفسه فيه لبس. موقف الوزارة وقتها كان موقفًا ملتبسًا، فحتى لو توفر السجل الصوتي للمكالمة التي جرت بين فؤاد سراج الدين واليوزباشي مصطفى رفعت؛ يبقى موقف وزير الداخلية نفسه غير واضح، فما حسم الأمر بالفعل هو خيار رجال الشرطة وقتها، بصرف النظر عن موقف الحكومة. هذه لحظة شجاعة لا لبس فيها من رجال الشرطة لاختيارهم المواجهة رغم ضعف التسليح، ولأن حسابات موازين القوة ليست في صالحهم.
هذا الالتباس يظهر بجلاء عند مراجعة الخلفيات التاريخية لتلك المعركة، التي مثلت رمزًا وتجليًا واضحًا للأزمة السياسية التي كانت تحياها مصر وقتها. فبعد معاهدة ١٩٣٦ وافق الإنجليز على سحب قوات الاحتلال من مصر كلها باستثناء منطقة القناة، وبهذا صارت منطقة القناة هي البؤرة التي تجسد وقوع مصر تحت الاحتلال.
مصر لم تكن مستعمرة بالمعنى التقليدي، مثلما كان الوضع في الهند، فهي دولة مستقلة لها برلمان ودستور وملك وسفارات في الخارج، وبها في الوقت نفسه بؤرة احتلال وقوات أجنبية في منطقة القناة. لهذا كان موقف الحكومة ملتبسًا وصعبًا. فهذا الوضع هو أقصى ما يمكن للنظام البرلماني المصري أن يحققه، فهو غير قادر عسكريًا ولا سياسيًا على إزالة الاحتلال. من هنا جاءت فكرة العمل المسلح الفدائي الذي انخرطت فيه كافة الأحزاب والحركات السياسية وقتها؛ كمصر الفتاة والإخوان المسلمين وحزب الوفد الحاكم نفسه، بل وبعض الأفراد الذين شكلوا مجموعات فدائية صغيرة حول المدن الكبيرة (الإسماعيلية وبورسعيد والسويس)، فيما أصبح حرب استنزاف فدائية، يقول فيها الشعب المصري رسالته البسيطة والواضحة للمحتل: “إن كنا غير قادرين على إخراجكم من بلادنا بتحرك عسكري منظم، فسوف نجعل من بقائكم فيها جحيمًا تتمنون الخلاص منه”.
الحكومة طبعًا كان موقفها صعبًا؛ فهي إن صمتت تتهم بالتواطؤ مع الاحتلال، وإن تكلمت وأيدت العمل المسلح تغامر ببقائها، خاصة وأن الإنجليز أثبتوا أنهم قادرون على الإطاحة بالحكومة والتدخل ضد الدولة، كما ظهر في واقعة 4 فبراير 1942 التي حاصرت فيها دباباتهم قصر الملك لفرض حكومة بعينها.
نصر للديمقراطية أم أزمة شرعية؟
هيكليًا الوضع الرسمي كان وضعًا صعبًا حتى على الضباط ذلك اليوم، نظرًا للحسابات السياسية الصعبة للموقف من الاحتلال. هذه اللحظة تمثل الأزمة التي كانت تحياها الدولة وقتها؛ وهي غير قادرة على الحسم من خلال مؤسسات الحكم، ومن يحسمها هم الشباب القادرون على الحركة على الأرض من خلال الحركات الفدائية. الشباب هو من يفعل ويتحرك لا الشيوخ، لا الساسة ولا القادة، وهذا وضع موجود في مصر من الثلاثينات، والكيانات السياسية لا تملك حلاً للأزمات السياسية المستفحلة، ولا تملك احتواء التحرك الموجود في الشارع، وتجلى هذا في تلك اللحظة المأزومة، التي قدمتها بعض الكتابات المعارضة لنظام يوليو 1952 باعتبارها كانت لحظة نصر للديمقراطية.
طرحت تلك الكتابات أن كون الانتخابات التي كانت تجري قبل يوليو ١٩٥٢ كانت ديمقراطية، دفع الأحزاب التي تشكل الحكومة وعلى رأسها الوفد لاختيار الانخراط في المقاومة، والتماهي مع المشهد الشعبي المعارض والمكافح للاحتلال، كي تضمن بقاءها في تفضيلات الشعب الانتخابية. ولكن هذه القراءة غير دقيقة تمامًا؛ فمن الأزمات المستمرة حتى اليوم: أزمة تغول السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية الممثلة في البرلمان. فالانتخابات قد تجري بنزاهة، ولكن للحاكم ممثلا في الملك ثم الرئيس سلطة حل البرلمان بالكامل، لا إقالة عضو أو اثنين فيه؛ بل القضاء على الحياة التشريعية بجرة قلم. حدث هذا مرارًا في العهد الملكي، ثم في عهد مبارك أيضًا.
أزمة الحكومة وقتها لم تكن الخوف من خسارة الانتخابات ومعاداة خيار الشعب، بل كانت الأزمة بالأساس هي أزمة شرعية الحكم في ظل وجود المحتل وبقائه وعدم القدرة على إزاحته، لقد كان خيار الأحزاب والحكومات الوفدية وغيرها عدم معاندة المقاومة وعدم رفض خيار الجنود والضباط في ذلك اليوم لمقاومة الاحتلال، نابعًا من معرفة تلك الحكومة بأن “بطحة” الاحتلال تنتقص عناصر سيادتها، لكون الدولة المصرية غير متحكمة في كامل التراب الوطني، في ظل وجود عسكري أجنبي يحمي مصالح أخرى غير المصالح المصرية. وبهذا يكون انتصار الحكومة في الانتخابات ليس حلا ولا مخرجًا ولا حتى هدفًا، فالمجتمع وأجهزة الحكم متورطة في أزمة شرعية هي غير قادرة على حلها.
تصرفات جهاز الشرطة في ذلك الوقت كانت تعكس ذلك الموقف الملتبس سياسيًا لدى الحكومة والكيانات السياسية القائمة. ما حدث في ٢٥ يناير ١٩٥٢ هو أن القوات البريطانية في القناة فاض بها من تواطؤ أقسام الشرطة مع الأعمال الفدائية، إما بالدعم اللوجيستي، أو بغض الطرف. الشرطة هنا كانت تتصرف مثل الحكومة غير القادرة على معاداة العمل الفدائي علنًا. ودعّم ذلك الموقف اتجاهات بعض رجال الشرطة وقتها الذين تماهوا مع الحس الوطني الرافض للاحتلال، خاصة في منطقة القناة الملتهبة بالأعمال الفدائية. رجال الشرطة وقتها وجدوا أنفسهم في مواجهة المدفع. كأنها “خناقة” بين قوات الاحتلال من ناحية، والحكومة المصرية والفدائيين من ناحية أخرى، وبينهم رجال الشرطة المسؤولين عن تأمين محافظة وقسم الإسماعيلية.
الشرطة من لحظة البطولة إلى عصا للنظام
ما جرى في اليوم التالي لتلك المعركة التي صارت عيدًا للشرطة، لم يضع جهاز الشرطة في قلب الأزمة فقط؛ ولكن نقل الأزمة إلى القاهرة. ففي السادس والعشرين من يناير ١٩٥٢ وبعد ساعات من استسلام ٧٥٠ جندي وضابط بقوا على قيد الحياة ممن خاضوا معركة الإسماعيلية، اشتعل حريق القاهرة واشتعلت معه مظاهرات في الجامعة وكلية البوليس وفي الشوارع رفضًا لإلقاء القبض على الضباط والجنود المشاركين في المعركة واعتقالهم وتقديمهم للمحاكمة، والرفض طبعًا لاستمرار الاحتلال. وبعد أن كانت أزمة شرعية الحكم ممثلة في منطقة القناة وما حولها؛ انتقلت فجأة للقلب في العاصمة.
من المهم هنا أن نبحث عن إجابة لسؤال: لماذا كبر الغضب إلى هذا الحد في اليوم التالي للمعركة؟ هل كان الغضب الذي اندلع في الشوارع والصحف آتيًا من صدمة مقتل ٥٠ جنديًا مصريًا على يد قوات الاحتلال؟ الرجوع إلى الأشهر العديدة السابقة على هذه المعركة ستقدم لنا إجابة مفادها أن هذا الصدام لم يكن الأول، ولكنه كان الأوضح، والشرطة لم تكن بعيدة عن التصادم مع قوات الاحتلال. كما أن الغضب الشعبي كان متراكمًا، ومثلت المعركة تذكيرًا بالأزمة المستمرة المتعلقة بالشرعية وحقيقة الاستقلال والسيادة الغائبة، وبقاء الاحتلال في وقت كانت تنتهي فيه الكولونيالية في العالم أجمع. الدفع الشعبي ضد الاحتلال اندلع في ١٩٥٢ عقب معركة الإسماعيلية واستمر حتى الجلاء بعدها في ١٩٥٦.
هنا يبرز سؤال آخر مهم: هل أدت المعركة لتسييس الشرطة؟ هذا السؤال المتكرر في رأيى ليس سؤالاً صحيحًا؛ فمن اللافت أن وزراء الداخلية قبل ١٩٥٢ كانوا وزراءً مدنيين، النظام لم يسع لحماية نفسه قبل حركة الجيش عبر قوات من الشرطة، وإنما تنامى الاتجاه لعسكرة الشرطة عقب يوليو. الشرطة لم تكن تحمي الملك أو نظامه وهي بهذا المعنى غير مسيسة. هي إن كانت مسيسة قبل يوليو؛ فهذا يتصل بكون أفرادها أنفسهم مسيسين، ربما بشكل غير مؤسسي أو منهجي، ليس من الضرورة أن يكونوا منخرطين في جماعات أو أحزاب سياسية، ولكن قرارهم باتخاذ التحرك والعمل ومواجهة دبابات ورصاصات الاحتلال دون انتظار أوامر؛ هو في ذاته قرار سياسي. وهو ما لم يعد واردًا تكراره عقب الانقلاب العسكري في يوليو ١٩٥٢.
قبل حركة الجيش، السياسة كانت موجودة في الشارع، لكن بعد يوليو ١٩٥٢ كان النظام الجديد راغبًا في إزالة السياسة من الشارع ونزعها من صفوف الشرطة والجيش. فبعدما قاموا بانقلابهم العسكري في ٢٣ يوليو ١٩٥٢؛ أراد الضباط القائمون بتلك الحركة ضمان بقاءهم في الحكم ومنع أية احتمالات مستقبلية لتكرار ما صنعوه. والسبيل الوحيد والناجح لذلك – وفقًا لرؤيتهم- كان نزع السياسة من كافة مؤسسات الدولة ومن الشارع. لهذا أسسوا أجهزة أمنية وأجهزة استخبارات تتولى مراقبة أفراد الجيش والشرطة، وليس فقط مراقبة الشعب. كان لابد من التحكم في العمل السياسي و”تأمين الجيش”، لهذا جاء تعيين عبدالحكيم عامر لولائه المضمون قائدًا على رأس الجيش لضمان “التأمين” وهو ما قاد لاحقًا لهزيمة ١٩٦٧.
هذا الخوف من تسييس الجيش أو تسييس الشرطة والشارع هو ما أدى لمصادرة المجال السياسي. رافق هذا اتجاه متنامي لعسكرة الشرطة والقضاء على صفتها المدنية، حتى وإن لم تتبع الجيش رسميًا. ضباط الشرطة في أكاديمياتهم لا يتعلمون القانون؛ قدر ما يتلقون تدريبات ذات صبغة عسكرية، ويتعلمون التكتيكات العسكرية الخاصة بتشكيل الجموع (الأمن المركزي) ومواجهة المظاهرات. وهذا ما أفرز لاحقًا واحدة من أكبر المشكلات والأزمات للشرطة وللشعب معًا، وهو صدور القانون ١٢٧ لسنة ١٩٨٠، المعروف بقانون الخدمة العسكرية والوطنية. وهو القانون الذي أسس وقنن لمبدأ قضاء المواطنين المصريين لخدمتهم العسكرية ضمن قوات الأمن المركزي، فصار هناك عشرات الآلاف سنويًا يدفعون من أعمارهم ثلاث سنوات لحماية النظام، لا حماية الدولة وحدودها. وصار العدو هو أبناء الوطن في الداخل، هؤلاء الآن هم من يواجههم المجند خلال خدمته العسكرية.
هذا القانون كان خطوة في سلسلة من الحركات التي زادت من عسكرة جهاز الشرطة وشارك في صنع المشهد السياسي الذي تعايشه مصر الآن. حيث آلت إلى ظرف سياسي مختلف تمامًا عن ذلك الظرف الذي خلق الموقف الوطني الشجاع في معركة الإسماعيلية في ١٩٥٢. الظرف الحالي الذي خلقه ونماه نظام يوليو ١٩٥٢ بتجلياته المختلفة على مدار الأعوام الأربعة والستين الماضية؛ هو ظرف يرسخ فكرة أن الشرطة ليست جهازًا يخدم المجتمع؛ بل يخدم من يحكم، وهذا يتسق مع نجاح المحاولات المتنامية لعسكرة الجهاز.
الظرف الحالي وضع الشرطة على طرف نقيض لذلك الذي كانت عليه في ٢٥ يناير ١٩٥٢.. طرف يصعب فيه أن يتخذ جنودها الذين صاروا يتعلمون الانضباط العسكري قرارًا شجاعًا بمواجهة وطنية، أو أن يتخذ ضباطها مبادرة مسؤولة دون انتظار الأوامر. هذا ظرف يصعب أن تتفق الشرطة فيه مع الشارع وحركته إذا خالفت تلك الحركة ما تراه السلطات، حتى وإن كانت حركة الشارع تنطلق من الإيمان بمبادئ العدالة والسيادة الوطنية.