Press "Enter" to skip to content

روح الإسكندرية وروائحها

نُشر في “تري البحر” في ١٠ ديسمير ٢٠١٦

ترجمة سمية عبد الوهاب

في عام 1977، عاد لورانس داريل إلى الإسكندرية ليشارك في فيلم عن المدينة من إنتاج هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بعنوان «روح المكان». يقول داريل إن الفيلم يُظهِر «الفيلات الفخمة المكسوة بالجهنميات… وقد هُجِرت أو أُممِت أو تركها أصحابها بعد أن أصابهم الفقر… بواباتها علاها الصدأ، وأمست تؤدي إلى حدائق مهملة حيث النوافير الرخامية والتماثيل المتصدعة تشهد على مجد ولى ولن يعود.» وفي محاولة منه لإرشاد طاقم العمل حول المدينة التي من المفترض أنه يعرفها حق المعرفة، وجد داريل نفسه مفعمًا بالقلق؛ حيث كان «يخشى أن تكون ثورة عبد الناصر الاشتراكية المتشددة قد خربت المدينة».

لقد بدت له المدينة بلا عنوان ولا روح؛ تحول ميناؤها إلى مقبرة، ولم تعد مقاهيها الشهيرة، مثل بسترودس وبودرو، متلألأة الأضواء أو تصدح بالموسيقى كما كانت في الماضي. ما رآه من حوله كانت «إسكندرية» يتحدث سكانها «بعربية غير مفهومة لا يمكن أن تُترجم إلا إلى خواء».1

إن مشاعر الحيرة والقلق والحزن هذه إزاء ما آلت إليه «الإسكندرية التي فقدناها»2 والتي داهمت داريل أثناء زياراته للمدينة، أصبحت من أكثر المجازات البلاغية شيوعًا في الكثير من الأدبيات التي تتناول الإسكندرية في العصر الحديث. فبينما تُمجِّد هذه الأدبيات الطابع الكوزموبوليتاني معتبرة إياه جزءًا لا يتجزأ من المدينة أثناء حقبتها الذهبية في العصر الحديث (1860-1960)3، نظر الروائيون والشعراء والنُقاد وكتاب أدب الرحلات إلى سكان المدينة الأصليين بنظرة يملؤها التقزز والنفور. ودائمًا ما كان يُلقى على عاتق هؤلاء السكان الأصليين، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، مسؤولية انهيار المدينة، ويُشار إليهم بلفظ يفيد الازدراء: عرب.

يتناول هذا المقال مكانة «العرب» في الخطاب الكوزموبوليتاني للإسكندرية، تلك المدينة التي تُعد «نموذجًا لكوزموبوليتانية الشرق الأوسط»4. ويتوقف المقال عند العديد من لحظات الصمت غير المفهومة والتي لم تؤد إلى شيء سوى محو التواجد الطويل للعرب بالمدينة، وطمس ما أحدثوه من حِراك بداخلها. كما يسعى المقال إلى تحليل الأسلوب الذي تم به تهميش «العرب» وربطهم الدائم بما يراه البعض ضياع المدينة. يتناول المقال أيضًا موضوعات مثل الاشمئزاز والقذارة والدنس، وكيف قُرنت هذه الموضوعات بـ «العرب» في المرات القليلة التي ظهر فيها هؤلاء «العرب» في الأدبيات التي تتغنى بالإسكندرية الكوزموبوليتانية.

وفي تتبعي للخطاب الكوزموبوليتاني للإسكندرية سأتخذ من حاسة الشم دليلا لتحليل بعض النصوص المحورية التي تتناول الإسكندرية وتاريخها وسكانها فيما يعرف بعصرها الذهبي، عندما كانت مدينة كوزموبوليتانية يسكنها أناس من أعراق وديانات وملل مختلفة. إذ تقدم لنا حاسة الشم مثالا لاذعًا يُوضِّح الفرق بين الطريقة التي يتبعها هذا الخطاب الكوزموبوليتاني عند الإشارة لما افترَض أنهما جزآن من المدينة منفصلان تمامًا عن بعضهما:

الجزء الأوربي والجزء الـ«عربي». وقد تبدو الرائحة مثالا غريبًا بعض الشيء لتوضيح هذا الفرق، ولكنى أعتقد أن حاسة الشم، لأسباب سأوضحها لاحقًا، تحتل مكانة مميزة في هذا الخطاب، وإن كانت قد أهملت تمامًا من قِبل الدارسين. كما أعتقد أنه يمكننا – باستخدام حاسة الشم – أن نقف على ما نحن بصدد دراسته، ألا وهو العلاقة بين المدينة وسكانها وذكراها. فبينما تلعب الرائحة دورًا أساسيًا في خطاب الذكريات، وفي محاولة هذا الخطاب لفهم «روح المكان»، تفوح رائحة الـ«عرب» من الخطاب الكوزموبوليتاني حتى تزكم الأنوف، وتقزز القارئ من هذه الحثالة التي ورثت تلك المدينة الرائعة، ومن هؤلاء الناس القذرين الذين كانوا السبب في فقدانها في المقام الأول.

أطلال الإسكندرية

دائمًا ما ارتبطت الإسكندرية في المُخيلة الغربية بفكرة الفقدان. فصوّر بلوتارخس في كتابه «سيرة حياة ماركوس أنطونيوس» القائد الروماني العظيم حين كان ينتظر مواجهته الأخيرة مع خصمه أغسطس، وهو يأمر جنوده بصب النبيذ وإغداق الطعام عليه بعد أن أدرك أن الحظ قد خانه ونهايته أصبحت محتومة، وفي هذه الليلة التي تمتع فيها أنطونيوس ببصيرة نافذة سُمعت موسيقى أخاذة تصدح من الإسكندرية؛ حيث ظن «أولئك الذين حاولوا إدراك مغزاها… أن الرب الذي طالما تشبّه به أنطونيوس وعبدَه قد هجره الآن»5. أما شكسبير، وعلى عكس بلوتارخس، فقد رأى أن الرب الذي تخلى عن أنطونيوس لم يكن ديونيسوس (الذي يشير إليه بلوتارخس ضمنا في الاقتباس السابق) بل «إنه الرب هرقل الذي يحبه أنطونيوس ينصرف الآن عنه»6. أما الشاعر السكندري العظيم، قنسطنطين كفافيس، فحسب إدموند كيلي، تحول عنده فقدان أنطونيوس من فقدان شعر به جندي روماني إلى رمز لمأساة إنسانية عالمية، كما حلّت الإسكندرية نفسها محل ديونيسوس وهرقل، ففي قصيدته الأشهر «الرب يتخلى عن أنطونيوس» يقول:

«عندما تسمع في منتصف الليل فجأة، فرقة من المغنين، تمر في الطريق غير مرئية، بموسيقاها الصاخبة، بصياحها الذي يصم الآذان،

كف عن أن تندب حظك الذي ضاع، وخطط حياتك التي أخفقت، وآمالك التي أحبطت،

دع عنك التوسلات غير المجدية.

وكن كمن هو على أهبة الاستعداد من قديم، كشجاع جريء، ودعها: ودع الإسكندرية التي ترحل.

وبالأخص، حذار أن تُخدع، لا تقل أن الأمر كان حلما، وهما في أذنيك وكذبا. وآمال بالية مثل هذه لا تصدق.

كمن هو على أهبة الاستعداد من قديم، كشجاع جريء، كما لو كنت لها أهلا حقا، أهلا لمدينة مثل هذه، اقترب بخطى ثابتة من النافذة، واستمع بحزن، ولكن بلا توسلات جبناء، ولا شكوى ذليلة.

استمع حتى النهاية إلى الأصداء المبتدعة، واستمتع بها، استمتع بالنغمات الرائعة من الفرقة الخفية التي تمضي إلى الزوال.

ودعها، ودع الإسكندرية، الإسكندرية التي تفقدها إلى الأبد.»

إن المأساة التي تعبر عنها هذه القصيدة، حسب كيلي، تكمن في حقيقة أن معرفة الذات والقدرة على فهم الأمور كما هي، بشرف وشجاعة، بلا مواربة وبلا أمل، ترتبط بقبول حتمية فقدان المدينة، مصدر الحياة الأبدية 7. وبالتالي، ففي مخيلة كفافيس، تحولت مأساة أنطونيوس؛ ذلك المحارب الروماني الشجاع، إلى مأساة إنسانية، وتحولت الإسكندرية بدورها إلى الإلهة التي تُلهِم إدراك الشخص لذاته، كما تشير في الوقت نفسه، إلى الضياع الحتمي للسمة الإلهية. وبما أن كفافيس رأى أن «الفشل والخسران متلازمتان أساسيتان للتجربة السكندرية»8، فليس غريبًا أن نراه يُفضِّل ليس الإسكندر، الذي سميت المدينة على اسمه، بل أنطونيوس، الذي ودعها.

هناك كاتبان آخران شكّلا ما يُعرف بـ «أرشيف الإسكندرية»9، وهما: إي. إم. فورستر، ولورانس داريل. ومثلهما مثل كفافيس، أسهب هذا الثنائي في ربط الإسكندرية بالفقدان. إلا أنهما، وبعكس كفافيس، لم يعتبرا ضياع الإسكندرية موحيا بمأساة إنسانية عامة، ولكنه يشير، من وجهة نظرهما، إلى فقدان العظمة التي تمتعت بها الإسكندرية في عصرها الذهبي الكلاسيكي القديم، وهو الفقدان الذي غالبًا ما يُلام عليه «العرب». فلقد رأى داريل أن الغزو العربي للإسكندرية في القرن السابع الميلادي لم يكن سوى إشارة لدمار المدينة، وكتب في مقدمة الطبعة الصادرة عام 1986 من كتاب فورستر (الإسكندرية تاريخ ودليل): «مع وصول عمرو [بن العاص] وفرسانه العرب، أصبحت المدينة الشهيرة في طي النسيان، وكأن الكثبان الرملية قد غمرتها بالكامل» 10. وبالمثل، فإن فورستر، في مقدمته لنفس الكتاب، يذكر أن الجيوش العربية الغازية عام 642 ميلادية لم تستوعب أهمية المدينة التي استولت عليها، وأن هذا السطو سيؤدي حتمًا إلى دمارها. ويضيف فورستر أن عمرو بن العاص قد كتب إلى قادته في شبه الجزيرة العربية يقول غير مبالٍ «لقد استوليت على مدينة يمكنني القول بأنها تحتوي على 4000 قصر و4000 حمام و400 مسرح و1200 من بائعي الخضروات و40000 يهودي».11 ويعلق فورستر أنه على الرغم «من عدم وجود نية لديهم لتدمير المدينة» إلا أن العرب فشلوا في إدراك «أنها مدينة فريدة لا يوجد لها مثيل في العالم بأكمله» وانتهى بهم المطاف يخربونها «كما يفعل الطفل بساعة يد».12

وكبقية النماذج الغربية التي تناولت التاريخ السكندري، لم يخصص فورستر في كتابه الشهير سوى خمس صفحات لتناول «الحقبة العربية» التي بلغت ألف عام؛ وهي الحقبة التي أشار إليها بـ«ألف عام من الصمت».13

ميلاد جديد وفقدان ثان

يمكن القول أن هذه «الألف عام من الصمت» قد انتهت بحلول القرن التاسع عشر والظهور المبشر لمحمد علي باشا، الحاكم المستنير، والذي رأى الكثيرون أن الإسكندرية الحديثة كانت بمثابة «الضالة المنشودة لآماله»14. وبالتأكيد دومًا على مولده «في قوَلة التي تقع على الساحل المقدوني»15 وبإبراز تسامحه مع أبناء الجاليات اليهودية واليونانية والإيطالية وبقية الجاليات الأوروبية16 يصبح محمد علي ليس مؤسسًا لمصر الحديثة فحسب، 17 وإنما مثل «سلفه» المقدوني مساهم في تشكيل تاريخ المدينة بشكل فريد.دائماً ما يُعتبر «الميلاد الجديد» للإسكندرية الحديثة، ونموها من مجرد بلدة يقطنها حوالي 8000 نسمة في مطلع القرن التاسع عشر لتصبح مدينة كبرى يبلغ تعدادها 100000 نسمة عند وفاة محمد علي عام 1849 نتيجة لعدة عوامل على رأسها سياسة التسامح التي اتبعها الباشا تجاه الأوروبيين؛ وهي السياسة التي اعترف بها الأوروبيون عام 1860 عند إزاحة الستار عن تمثال للباشا أقاموه في ميدان حمل اسمه.

ويُمكن تفسير ظاهرة «الإسكندرية الكوزموﭙوليتانية» بإيجاز من خلال عِدة عوامل واضحة، وهي: اقتصاد موجه للأسواق الأوروبية؛ ووجود «مؤسِس» اشتهر بتسامحه تجاه الأوروبيين، الأمر الذي يعود إلى أصله المقدوني؛ وتواجد مجموعة كبيرة من الجاليات الأوروبية النشطة تجاريًا والمشهورة بتقبلها للآخر وانفتاحها على العالم الرحب من حولها.

وكما الحال مع تاريخ الإسكندرية في العصور الوسطى، فلقد كانت الغالبية العظمى من سكان المدينة، أي «العرب»، غائبة بشكلٍ واضح عن تاريخ المدينة الحديثة. وعندما تم أخيرًا تقديم العرب في سردية المدينة، كان ذلك لإبراز عدم انتمائهم لها، أو لتأكيد أنهم مسؤولون أكثر من غيرهم عن التردي والانهيار اللذين أصابا المدينة.

ويعد أول ظهور عظيم للـ«عرب» في الإسكندرية الحديثة هو ذلك اليوم التاريخي في يوليو 1956 عندما وقف عبد الناصر في ميدان المنشية (ميدان محمد علي سابقًا) مُعلنًا تأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية أمام الحشود المبتهجة في مصر والجماهير المصعوقة في الخارج. ولقد نتج عن تأميم القناة ما عُرف في الغرب بـ«أزمة السويس» وفي مصر بـ«العدوان الثلاثي»، عندما تآمرت كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على الاعتداء على مصر في أكتوبر من العام نفسه. وكرد فعل انتقامي، طُرِد اليهود والرعايا البريطانيون والفرنسيون من مصر، وصودرت أملاكهم أو وضعت تحت الحراسة.

وعلى الرغم من أن هذا السلوك من قِبل عبد الناصر، بالإضافة إلى عدد من السياسات الأخرى التي «أعادت مصر للمصريين»18 كان بمثابة رد فعل غير مباشر على الموقف الاستعماري المُمثل في أمور عِدة من ضمنها «القصور والمنازل السكندرية الحديثة المملوكة لأبناء الجاليات الأجنبية المُستعمرة… وإضافة الطابع الكوزموبوليتاني للإسكندرية»19، إلا أن الكثير من الكُتاب الذين تناولوا انتهاء الحقبة الكوزموبوليتانية بالإسكندرية يحمّلون عبد الناصر و«ثورته الاشتراكية المتشددة مسؤولية تدمير المدينة […] التي أصبح سكانها يتحدثون بعربية غير مفهومة لا يمكن أن تُترجم إلا إلى خواء».20

الإسكندرية: عاصمة الذكريات

وبينما يعود جزء كبير من شهرة الاسكندرية الكوزموبوليتانية إلى الشخصيات الأدبية «السكندرية» الثلاث:

 

كفافيس وفورستر وداريل، إلا أنه، وحسب روبرت مابرو، قد ساهمت العديد من الروايات والسير شبه الذاتية المنشورة حديثًا في التأكيد على موضوعات مثل المدينة الخرِبة والفقدان والمنفى التي يحفل بها الخطاب الكوزموبوليتاني. وتعكس هذه الروايات أو «المذكرات» التي كتبها أُناس أُجبِروا على هجر المدينة في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين وجود دافع لدى «أولئك السكندريين السابقين […] للاستفادة من حالة الانبهار التي خلقها كل من داريل وقنسطنطين كفافيس […] فالحديث عن الإسكندرية يثير اهتمام الكثيرين، أما «الخروج منها» فله سوق كما يضيف مابرو ساخرًا.21 وعلى الرغم من طبيعتها المثيرة للجدل (كما هو مُوضَّح بأسفل)، إلا أن هذه «المذكرات» التي تسترجع ذكريات الطفولة والمراهقة المفقودة أصبحت أداة فعالة لتخليد الصورة النمطية في الغرب عن الإسكندرية كمدينة الفقدان.وفي ظل هذا السياق الذي يربط ما بين الإسكندرية والفقدان، ليس غريبًا أن يتناول جزء كبير من الخطاب الخاص بالمدينة موضوعات التاريخ والذاكرة والحنين إلى الماضي. فاستند فورستر بشكل كبير إلى تاريخ الإسكندرية القديم عند كتابته لعمله السكندري الشهير (الإسكندرية تاريخ ودليل)، وأكد على أن أهمية حاضر المدينة وطوبوغرافيتها تتضح فقط عند مقارنتها بماضيها العريق: «إن ’معالم’ الإسكندرية في حد ذاتها ليست مثيرة للاهتمام، لكنها تُبهرنا عند مقاربتها من خلال الماضي، وهذا ما حاولت القيام به من خلال الترتيب المزدوج للكتاب»22. وبالمثل، فلقد استخدم كفافيس؛ «شاعر المدينة العجوز»، تاريخ المدينة كجزء من محاولاته الإبداعية لتشكيل «صورة تفصيلية ومتناغمة حول مأساة الإنسان»23. فبالإضافة إلى كونها دليلا قاطعًا على قُدرة الشاعر الإبداعية، ساهمت قدرة كفافيس على انتقاء لحظات معينة من تاريخ المدينة القديم – يُمكن لها أن تعبر عن مشاعر الفقدان والمنفى التي اتسمت بها المدينة حديثًا – في ترسيخ صورة الإسكندرية كمدينة مفقودة.

روح الإسكندرية

في وصفه لروح المدينة التي كان يفقدها، أشار داريل إلى رائحة المدينة:

«بدأت أسير بخطى بطيئة وأنا أشعر بارتباك شديد؛ فكيف لي أن أصيغ الكلمات لأصف هذا الحي السكندري بأكمله، والذي أعلم جيدًا أنه سرعان ما سيصبح طي النسيان، ولن يسترجعه سوى هؤلاء الذين تملكت ذكرياتهم المدينة المحمومة، متشبثة بعقول الكهول كما تتشبث أطياف الرائحة بالأكمام، الإسكندرية: عاصمة الذكريات».24

وفي مُلاحظةٍ مماثلة، ربط فورستر أيضًا ما بين الذاكرة والرائحة العالقة بالثوب. ففي خطاب لصديق له بإنجلترا كتبه بعد وصوله إلى مصر بوقت قصير وفي أعقاب شعوره بالإحباط لأول مرة عندما وجد أن المشهد ليس «شرقيًا» بما يكفي، كتب:

«بالنسبة لشخص عاش لفترة في الهند، الأمر يبدو مثيرًا للأعصاب – فـ«الشرق الحقيقي» يبدو وكأنه يتلاشى «خلف الزاوية حيث يتراقص ذيل الثوب على طيف أريج زكي».25

وفي تعقيب له حول الربط ما بين الرائحة والذكريات والإسكندرية المفقودة، يقول هاج:

«يعرف كل من كفافيس وفورستر وداريل هذا العطر تمام المعرفة. [ويضيف مقتبسًا كلمات داريل]، “لقد استنشقت العطر الصيفي الدافئ العالق بثوبها وببشرتها – عطر يسمى، لسبب لا أعلمه، جاميه دو لا ڨى Jamais de la vie والعبارة تعني “أبدًا”. ولقد ظلت المدينة الكوزموبوليتانية الحديثة التي طاردها الفشل تارة والمجد تارة آُخرى لفترة من الزمن انعكاسًا لتلك التي أسسها الإسكندر الأكبر منذ زمن بعيد على هذا الساحل الإفريقي».26

تُظهر هذه الاقتباسات الدور المعقد الذي تلعبه الرائحة في الخطاب الخاص بالإسكندرية الكوزموبوليتانية. فمن ناحية، ترتبط الرائحة بالذاكرة. فكلنا قد مر بتلك التجربة التي يوردها الروائي الفرنسي مارسيل بروست في عمله الشهير (بحثًا عن الزمن المفقود) والتي يصف فيها ما حدث له عند أخذه رشفة واحدة من فنجان شاى كان يفتت فيه قطعة مادلين madeleine؛ وهي حلوى ذات رائحة مميزة، إذ سرعان ما جاءته ذكريات عن طفولته وقريته وعمته التي كانت تقدم له تلك الحلوى. «وسرعان ما غمرتني ذكريات عن البيت القديم الرمادي وغرفتها فيه وكل البلدة بسكانها وحدائقها وكنائسها». وُيوضِّح بروست تلك العلاقة الوثيقة بين حاسة الشم والذاكرة قائلا: «عندما تندثر أشياء الماضي، عندما يموت الناس وتنكسر الأشياء وتتبعثر، تبقى رائحة الأشياء وطعمها لفترة طويلة، كالروح حاملة صرح الذاكرة الجبار على حبيبات من الرائحة تكاد لا ترى».

يُظهر هذا المقطع الشهير من رواية بروست ذائعة الصيت مدى إدراك الأديب الفرنسي للعلاقة الحميمة بين الرائحة والذاكرة، تلك العلاقة التي تتضح في اشتراك كلمتي «رائحة» و«روح» في نفس المصدر، وهو الأمر الذي يتضح أيضا في الكلمة الفرنسية «essence» التي تعني «جوهر الشيء» و«ماهيته» أو «روحه»، وفي نفس الوقت «عطر» أو «رائحة».

ومن هنا يمكن أن نفهم تلك المكانة المميزة التي تحتلها الرائحة في الخطاب الكوزموبوليتاني عن الإسكندرية. فبما أن هذا الخطاب ينطلق من فرضية أن الإسكندرية الحقيقية هي تلك «التي أسسها الاسكندر الأكبر منذ زمن بعيد على هذا الساحل الإفريقي»27، تمسي المدينة الحديثة مجرد أطلال «تشهد على مجد ولّى ولن يعود،» وتلعب الذاكرة دورًا محوريًا لاسترجاع تلك المدينة المفقودة وإعادة بنائها. وهنا تُثار حاسة الشم وتتم الإشارة إلى «الروح» السكندرية ويبدأ البحث عن الوقت الضائع ويكثر الكلام عن عبق الماضي. وفي خضم كل ذلك يتم خلق مدينة مثالية، مدينة تستند في مصداقيتها إلى اقترابها من الصور الشعرية وليس الولاء إلى وقائع تاريخية. تكمن روح المدينة هنا تحديدًا في طبيعتها الهشة وغير الملموسة. فهذه المدينة؛ عاصمة الذكريات، هي المدينة الكوزموبوليتانية المفتوحة الباقية من خلال العدد اللامتناهي من المذكرات والأعمال الأدبية التي تسعى حثيثًا للإبقاء على هذه الذكريات «المتشبثة بعقول الكهول كما تتشبث أطياف الرائحة بالأكمام».28

ولكن حاسة الشم لها خاصية مميزة. ففي كل من الثقافتين الغربية والعربية الإسلامية تحتل حاسة الشم موقعًا مميزًا مقارنة ببقية الحواس الخمس التي اتُفق على عددها وتراتبيتها منذ القدم. فبخلاف الخاصية غير الملموسة للضوء، اعتقد الأقدمون أن للرائحة خاصية ملموسة تجعل رائحة الورد، مثلًا، تحوم في الهواء لفترة طويلة حتى وإن لم تعد الوردة نفسها موجودة. ولكن في الوقت ذاته فإن هذه الخاصية الملموسة للرائحة تختلف عن مثيلاتها في حاستي التذوق واللمس. كما أنها تختلف أيضًا عن الطابع اللامادي لكل من البصر والسمع: «الأنف لم تكن مكافئة لقدرة العين على الإبصار، أو الأذن على السمع، أو اللسان على التذوق. فبالنسبة لحاسة الشم يصبح المخ (وليس الأنف) هو العضو الأساسي المسؤول عن الإدراك».29

حاسة الشم إذًا تلعب دورًا مزدوجًا، فهي من ناحية ترتبط بالذاكرة، أي بالعقل وبالإدراك وبالمخ، ولكن وفي نفس الوقت، ترتبط حاسة الشم بمصدر الروائح سواء كانت زكية أو قبيحة، وبالتالي ترتبط بالنجاسة والدنس والقذارة.

تُفسِر هذه الطبيعة المزدوجة لحاسة الشم جزئيًّا الأساليب المتناقضة التي استُخدمت للكتابة عن الإسكندرية «الكوزموبوليتانية» والإسكندرية «العربية»: فبما أن الأولى يُعتقد أنها مدينة مفقودة، فإن الرائحة، ذات الصلة الوثيقة بالذاكرة، يتم استثارتها لاسترجاع المدينة عن طريق اجترار الذكريات. وفي المقابل، فعند وصف المدينة الأخرى، الإسكندرية «العربية»، تُستدعى الرائحة مرة ثانية ولكن بشكل مختلف تمامًا. فهنا تتم الإحالة للقذارة والدنس كعناصر أساسية لفهم المدينة وسبر غورها، ويُشار للوظائف الوضيعة لأجساد سكان هذه المدينة مثل الأكل والتبول والتبرز والوطء والتأكيد على هذا الوظائف كعلامات للمدينة «العربية».

فيُظهِر أدب الرحلات المكتوب في منتصف القرن التاسع عشر سكان هذه المدينة العريقة كـ «أمة متدهورة […] وتستمر هذه الفكرة السائدة في الأدب السياحي لتربط بين [المصريين] والأرض ومساكنهم»30. هذه الصلة الوثيقة بين السكان «العرب» والأرض أو الطين يمكن أن تكون سمة دائمة لمعظم الكتابات عن الإسكندرية. فعلى سبيل المثال، نجد أن فورستر يقول في خِطاب لصديق له «التربة هي الأرض، والسكان ما هم إلا طين متحرك وساخط إلى أقصى حد».31

«رائحــة العرب»

ويعتبر كتاب أندريه آسيمان «الخروج من مصر» (Out of Egypt) الذي نُشر عام 1997 مثالاً بليغًا لتلك العنصرية التي يشار بها إلى “العرب” والتي تظهر ليس فقط في ازدرائه لثقافتهم وعاداتهم بقدر ما تظهر في وصفه لرائحتهم. فالكتاب، الذي صُنف على أنه كتاب «مذكرات» (memoir) وليس رواية وحاز بالفعل على جائزة في هذا المجال واحتفى به النقاد في الغرب أيما احتفاء، هو في حقيقته ذكريات شخصية لأحد أفراد عائلة يهودية أقامت في مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى أن قضت الثورة على حياتهم الرغدة، وأجبرتهم على الرحيل في أوائل الستينيات.

وقبل التطرق لهذا العمل ببعض التفصيل، تجب الإشارة إلى أن آسيمان متخصص في بروست، وفي مقال له في مجلة النيويوركر، يصف آسيمان كيف تعرف على أعمال بروست لأول مرة في باريس، ولكن ارتبط بروست في ذهنه بذكرياته عن الإسكندرية. ففي إشارة إلى نسخة من «إلى سوان» (الجزء الأول من رواية بروست بحثًا عن الزمن المفقود) يصف آسيمان كيف اشترى هذا الكتاب مع والده عندما كان عمره خمسة عشر عامًا في إحدى ليالي الصيف بباريس.

«كنا نسير معًا عندما مررنا بمطعم صغير فأخبرته أن رائحة الطعام الذي يُعاد قليه القادمة من المطعم ذكرتني بالمدابغ المتناثرة بطول الساحل خارج الإسكندرية حيث كنا نعيش ذات يوم. فأجابني بأنه لم يفكر في الأمر بهذا الشكل، ولكني كنت مُحقاً؛ فرائحة المطعم كانت مثل رائحة المدابغ. وبدأنا في استرجاع ذكرياتنا سويًا – المدابغ والشواطئ وبقايا المعبد الروماني بغرب الإسكندرية وبيتنا الصيفي على الشاطئ – كل ذلك جعله يفكر فجأة في بروست. فسألني «هل قرأت لـبروست؟» فأجبت بالنفي. فاستطرد قائلا إنه ربما حان الوقت لأفعل.»32

فوتوغرافيا | عمر عادل

هذا مشهد بروستي بامتياز، فكما أعادت قطعة المادلين بروست إلى طفولته في بيت عمته، أعادت رائحة الطعام المُعاد قليه المنبعثة من المطعم الباريسي آسيمان إلى طفولته المبكرة بالإسكندرية، حيث انسابت على الفور في ذهنه ذكريات منزل العائلة الصيفي، وآثار المعابد الرومانية والشواطئ والمدابغ. ويمكن اعتبار مجموعة الذكريات هذه تحديدًا سمة أساسية من سمات الخطاب الغربي حول الإسكندرية، فنرى إشارات من المفترض أنها تتناول المجتمع السكندري المفتوح الزاخر بالفنانين والمثقفين والمتسكعين (الممثلين كما سيتضح أدناه في “بيت العائلة”)؛ والمجد الضائع الذي كانت تعيشه الإسكندرية (المعابد الرومانية)؛ والفكرة السائدة عن الإسكندرية بأنها ليست جزءًا من مصر، ولكنها إقليم مجاور لمصر33(«الشواطئ»)؛ والقذارة والرجس المنتشرين بالإسكندرية الحديثة (المدابغ).

خلق آسيمان هذا المجتمع السكندري المفقود بكل تناقضاته في كتابه الشهير «الخروج من مصر»34. هذا الكتاب الذي وصفه الناشر بأنه «مذكرات ثرية ومفعمة بالحيوية […] تؤرخ لمآثر إحدى الأسر اليهودية الشهيرة»، لاقى استحسانًا كبيرًا؛ حيث كُتِب على غلافه الخلفي «مذكرات استثنائية لعائلة عجيبة». في قلب هذه العائلة نجد العم الأكبر للكاتب، العم آرون والمعروف بـ«ﭬيلي»، والذي يخبرنا آسيمان بأنه كان «يهودي ثمانيني فاشي وأرستقراطي، ذو أصول تركية وإيطالية ومُحِب للإنجليز، بدأ حياته المهنية كبائع متجول للطرابيش التركية في فيينا وبرلين، وانتهى به المطاف كبائع بالمزادات لأملاك الملك فاروق»35. إلا أنه، وفقًا للبحث الدقيق في دليل التليفون وموسوعة Le Mondain Egyptien، أيد روبرت مابرو النتائج التي توصل إليها سمير رأفت مؤلف كتاب (المعادي 1904-1962: التاريخ والمجتمع في إحدى ضواحي القاهرة)، والتي تؤكد على أن شخصية العم ﭬيلي تتطابق بشكل مريب مع شخصية حقيقية لرجل يُدعى Moïse G. Levi كان له نصيب بالفعل في بيع أملاك الملك فاروق ولكنه كان في الأغلب يعيش بالمعادي، ومن ثمّ كان قاهريًّا وليس سكندريًّا كما يدعي آسيمان. ويقول مابرو أن ليفي «كان قريبًا لعائلة آسيمان ولكن من المستبعد أن يكون العم الأكبر لأندريه». ويضيف مابرو بشكل مقنع أن كتاب آسيمان «الخروج من مصر» الذي حصل على جائزة أدبية بوصفة «مذكرات» هو في الحقيقة عمل روائي وككل عمل روائي، فله صله بواقع الكاتب، ولكن وصفه بـ«مذكرات» فيه إيحاء بأن تفاصيله مطابقة لذلك الواقع وليست فقط متصلة به.

الأمر هنا لا يتعلق بقيام أحد المؤلفين بسرقة أدبية، أو بإدعاء أحد الناشرين أن الكتاب يعتبر مذكرات في حين أنه عمل روائي. الأمر، في الحقيقة، يتعلق بالضرورة الأدبية والسياسية لإقحام شخصية مثل شخصية العم ﭬيلي في «مذكرات» عائلة يهودية في مجتمع الإسكندرية الكوزموبوليتانية؛ فالطابع الكوزموبوليتاني للإسكندرية الذي يحتفي به الروائيون والشعراء والنقاد وكُتاب السيَر وأدب الرحلات الغربيون يعتمد اعتمادًا كبيرًا على وجود شخصية مثل شخصية العم ﭬيلي، التي تحاكي الشخصيات الكوزموبوليتانية من الهواة والمتسكعين والفنانين البوهيميين والمثقفين الذين يجيدون التحدث بعدة لغات، أحيانًا في نفس الجملة. ومن أهم ما تتسم به الإسكندرية الكوزموبوليتانية هو الحاجة للتأكيد على حيوية هذه الشخصيات وتوهجها، وذلك من أجل إبراز مفاهيم النفي والفقدان والنزوح الجماعي والتي تُعد ذات أهمية قصوى لأسطورة الإسكندرية الحديثة.

ويُعد النزوح الجماعي عن مصر أحد الموضوعات المحورية في كتاب آسيمان كما يتضح ذلك من عنوانه «الخروج من مصر». ولكن من اللافت أن فكرة «الخروج» هذه لم يتم وضعها داخل أي سياق تاريخي، وبالتالي فلا نجد تفسيرًا مقنعا لها. فعلى سبيل المثال، في حوار أجراه آسيمان مع السي إن إن قال المذيع إن رحيل المؤلف عن الإسكندرية أمر ضروري لفهم أعماله التالية. «إن فقدان آسيمان للإسكندرية – أو «عاصمة الذكريات» كما يُطلق عليها – هو الأساس لمشاعر الحنين إلى الماضي والفقدان التي تتخلل قصصه. لقد رحل آسيمان وعائلته عن مصر عام 1965عندما كان يبلغ من العمر 14 عامًا. ولقد كانت أسرته من أواخر اليهود بالإسكندرية، آخر من تبقى من مجتمع ظل بالمدينة لحوالي 2000 عام لكنه أُجبِر على الرحيل في ظل نظام جمال عبد الناصر القومي»36. ولكن حقيقة الأمر أن عائلة آسيمان قد وصلت مصر في نهاية القرن التاسع عشر (تعود أصول والدته إلى حلب، ووالده إلى القسطنطينية) ومن ثمَّ فليس صحيحًا أنهم جزء من الطائفة اليهودية المصرية التي تعود جذورها لمئات الأعوام. وبالرغم من أن طرد اليهود المصريين والرعايا الإنجليز والفرنسيين في أعقاب العدوان الثلاثي لا يمكن أن يبرر أخلاقيًا، إلا أنه لا يمكن أيضًا أن نختزله في كونه نتيجة «للسياسة القومية المصرية المُجحفة».37 بل يجدر بالمرء أن يتساءل، كما فعل مابرو، «عن سبعين عامًا من الاحتلال البريطاني وعن حادثة دنشواي أو عن قيام دولة إسرائيل، الأمر الذي تسبب في طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين ليستوطنوا مخيمات اللاجئين البائسة، بعيدًا عن الحياة «القاسية» في روما وباريس وﭼنيف ومونتريال وريو ونيويورك أو تل أبيب. وماذا عن حقيقة أن بريطانيا وفرنسا وإسرائيل غزوا مصر عام 1956؟»38

يعد الصمت إزاء هذه الموضوعات السياسية الهامة أحد سمات الخطاب الكوزموبوليتاني، ويرى آسيمان ألا داعي مطلقًا للإسهاب في الحديث عن هذه الأمور “التافهة” مثل الإمبريالية والحروب الاستعمارية والعنصرية عند وصفه للحياة المثالية التي عاشتها عائلته بالإسكندرية. كما أننا لا نرى في هذا الخطاب وصفًا مقنعًا لكيفية تفاعل السكندريين المتحدثين بالعربية، والذين يُشار إليهم دائمًا باستخفاف بـ”العرب”، مع أعضاء الصفوة الكوزموبوليتانية الذين يجيدون التحدث بلغات شتى، والذين يعيشون حياة اللهو والمرح. لكن هذا التفاعل يظهر جليًا في “الخروج من مصر”. وما يلفت النظر هو أن الكتاب يفتقر إلى صورة إيجابية واحدة لأي مصري محلي، بل إن الكاتب يضن حتى على هؤلاء العرب بتسميتهم بأسمائهم، وكان خدم أسرته “العرب” هم الوحيدون الذين تكرم عليهم آسيمان ومنحهم أسماء. وإنه لأمر بالغ الدلالة أنهم يظهرون جميعًا مشوهي الخلقة. فنجد مثلا أن أم رمضان؛ الغسالة، بالإضافة إلى كونها مصابة بالعور، فقدت لون بشرتها الأصلي على ذراعيها نتيجة استخدامها مبيض قوي أثناء الغسيل39. وهناك هشام؛ السفرجي ذو الذراع الواحد، الذي يستطيع إعداد المائدة وتقديم الطعام في المآدب والتجمعات العائلية الكبيرة40. ثم نلتقي بعد ذلك بالطباخَين، وكلاهما اسمه عبده، وكان أحدهما يدمن الخمر والآخر، وهو ابن عمه الذي يكبره بكثير، له ساق شديدة التقرح لطالما ظنت جدتي أنها مُصابة بالجُذام»41. ويخبرنا آسيمان أن عبده الصغير (ذا الرجل السليمة) وابن أخيه اعتادا سرقة ملابس جده وأحذيته، وعلينا أن نصدق أنهما لم يعرفا كيفية ارتدائها: «لم يُقدِر الخدم أهمية أربطة الأحذية فكانوا يسحبونها من الحذاء ويسيرون بالحذاء مفتوحًا يخرج منه لسانه بفجاجة»42. ويليهما فاطمة العرجاء وعزيزة الصماء. وأخيرًا نلتقي بلطيفة الخادمة التي كانت تسقط فاقدة الوعي دون سبب واضح، وتشتكي بطريقة غير مفهومة من آلام جسدية لا تستطيع تحديد موضعها. وبالطبع كان الفضل للطبيب الأوروبي ألكابيس في تفسير لغز لطيفة: لقد كانت لطيفة تعاني من ورم سرطاني فوق الكبد نما تدريجيًا حتى وصل إلى النخاع فأصبح الألم غير محتمل، وسرعان ما لاقت لطيفة حتفها بعد مرض دام أسبوعين فقط.43

ومع ذلك يُؤكِّد آسيمان أن الخلل الذي يعاني منه العرب لا يكمن في مظهرهم أو تشوهاتهم البدنية أو غرابة شكلهم، إنما يكمن في جوهرهم؛ فرائحة العرب مقززة. ولشرح ذلك يقول آسيمان أن جميع المصريين يشربون الحلبة، وهي «مادة بنية اللون» يُعتقد أن لها «صفات علاجية […] تجعل أجسادهم تنضح بما يعتبره الأوربيون رائحة مقززة ومنفرة. ولقد أطلق عليها أبي اسم «رائحة العرب»، وكان يكره أن يشمها في أحد قمصانه أو أغطيته أو طعامه». ويستطرد آسيمان موضحًا لماذا كان من المستحيل الاعتراف بالعرب كجزء من المجتمع السكندري الكوزموبوليتاني على الرغم من مجهوداتهم المتفانية ليبدوا مثل الأوروبيين سواء في السلوك أو المظهر:

«لقد كانت هذه الرائحة نفاذة ومميزة بحيث يمكن للمرء أن يُفرق بين المصريين الذين يحاولون محاكاة الغرب، الذين كانوا يستخدمون عطرًا قويًا بعد الحلاقة، وبين أولئك الذين يقلدون العادات الغربية ولكن لا تزال عقولهم ومنازلهم منغمسة في عالم «الحلبة». حتى وإن قام المصري بمحاكاة أساليب الحياة الغربية تمامًا، وتخلى عن عادات بلده ليصبح ما يُطلق عليه والدي «إنسان متحضر/ متطور»، ويرتدي بدلة جديدة كل يوم، ويُقبِّل أيدي الآنسات عند تقديم التحية، ويستطيع تمييز أنواع النبيذ والجُبن، ويحفظ عن ظهر قلب العدد المطلوب من طرائف لافونتين، فطالما ظلت ملابسه تحمل حتى ولو أثرًا بسيطًا من تلك الرائحة الواشية، فعلى المرء أن يفكر مليا في ميله الظاهر نحو الثقافة الغربية ويشك إذا كانت أسرته، بما فيها هو شخصيًا، قد سما عن الحد الأدنى المظلم لقواعد الصحة العربية.»44

هـل الإسكندرية مدينة كوزموﭘوليتانية؟

أوضحت الدراسات النقدية التي نُشِرت مؤخرًا الأخطاء الخطيرة الموجودة في الخطاب الخاص بالإسكندرية الكوزموبوليتانية. فلقد قام روبرت مابرو، على سبيل المثال، بدراسة إحصاءات السكان المختلفة منذ أواخر الأربعينيات بالقرن التاسع عشر وحتى الستينيات من القرن العشرين حتى يستطيع التوصل إلى تكوين دقيق للمجتمع السكندري أثناء العصر الكوزموبوليتاني. ولقد وجد أنه على الرغم من أن المجتمع الأجنبي بالإسكندرية كان كبيرًا للغاية، إلا أنه أكد أنه لم يتجاوز أبدًا ربع التعداد الإجمالي للمدينة و«أن السكان المصريين لطالما شكلوا الأغلبية العظمى بنسبة بلغت على الأقل 3 مصريين لأجنبي واحد»45. مما أثار كثيرًا من التساؤل حول إذا ما كان المجتمع السكندري مجتمعًا مفتوحًا وكوزموبوليتانيًّا بالفعل:

 

«لقد كان المجتمع السكندري مجتمعًا مفتتًا، وذلك ليس وفقًا لتقسيم المصريين/ الأجانب فقط. فالأجانب أنفسهم لم يشكلوا مجموعة متجانسة. فأولئك ممن كان لديهم هوية قومية واضحة تمسكوا بها: فلقد كانت أساس كينونتهم. أما أولئك الذين انتسبوا للهوية السكندرية الكوزموبوليتانية فقد اندمجوا معًا وشاركوا في المناسبات الثقافية، واستطاعوا إجراء حوارات معًا حول موضوعات ثقافية بعينها. ولكن في نفس الوقت ظل الشوام شواما، والإيطاليون إيطاليين، واليهود يهودا [… وعلاوة على ذلك] فإن الطبيعة المزدوجة للحياة الاجتماعية بالإسكندرية الكوزموبوليتانية كان يمكن تلمسها في تواجد اقتصاد مفتوح [بينما] ظلت مناحٍ أخرى للحياة مغلقة […] ومن ثم، كان يجب التعامل مع هذا المجتمع بحرص، وظهر الانطباع بأن الحياة الاجتماعية تتسم بالراحة والدعة والمرح. لقد وُجِد هذا الانطباع، وبدأ الناس في الاعتقاد «بأننا سعداء معًا». […لكن] القاعدة الذهبية كانت ألا تتحدث بجدية أبدًا حول الأمور الأهم: مثل اختلاف القيم أو الاختلاف في وجهات النظر الدينية والسياسية.»46

وبالإضافة إلى ذلك، أكد عمل مابرو النقدي حول ما يسميه أدب الحنين إلى الماضي الذي كُتِب حول الإسكندرية على عِدة أشياء من أهمها غياب الشوام، مسلمين كانوا أو أرثوذكس، عن هذا النوع من الأدب47 (فهم، في النهاية، يتحدثون العربية ومن ثمَّ فهم «عرب»). ومن المثير للاهتمام كذلك أن درجة النمو والتبادل الثقافي في الإسكندرية الكوزموبوليتانية قد تناولها بقدر من التساؤل أيضًا سامي زبيدة في مقاله الشهير حول الكوزموبوليتانية في الشرق الأوسط حيث ذكر «أن المزيج الثقافي وحال الشغف [التي سادت القاهرة ما بين العشرينيات والثلاثينات من القرن العشرين] كانت أكثر كوزموبوليتانية من الأجواء الأوروبية والشامية الموجودة بالإسكندرية آنذاك».48

وفي محاولة مماثلة لتناول فكرة الإسكندرية الكوزموبوليتانية، أشرتُ في دراسة سابقة إلى المكونات النخبوية والإقصائية المفترضة في هذا الخطاب؛ فاستنادًا إلى سجلات ظبطية إسكندرية (أي الشرطة)، وهي سجلات نادرًا ما يتم اللجوء إليها، ومحفوظة في دار الوثائق القومية بالقاهرة، حاولت أن أُصوِّر الحياة اليومية في أواخر القرن التاسع عشر بالإسكندرية، حيث رأيت أن التفاصيل المبهرة للحياة اليومية بالإسكندرية التي حصلنا عليها من هذا المصدر الأرشيفي يمكن لها أن تساهم بشكل كبير في صياغة رواية تاريخية دقيقة حول الحياة في هذا المحيط المتعدد اللغات والثقافات.49

وتعد وجهة النظر التي طرحتها هالة حليم في أطروحتها «أرشيف الاسكندرية» من أكثر الإسهامات المُؤثِّرة في نقد الخطاب الخاص بالإسكندرية الكوزموبوليتانية50. فردًا على إدعاءات فورستر التصنيفية حول التدهور الروحاني الذي شهدته الإسكندرية على مدار ألف عام هي فترة الحكم العربي، تتناول حليم نقطتين عقائديتين أغفلهما فورستر، وهما التقاء الإسلام بالحضارة الكلاسيكية والهلينستية، وخاصةً الأفلاطونية الجديدة والصوفية. تقول حليم بأن الأفلاطونية الجديدة التي عُرِفت في الإسكندرية كانت مثيرة لاهتمام العديد من الفلاسفة المسلمين الذين رغبوا في أن يكونوا جزءًا من هذه المدرسة، وتحققت هذه الرغبة عن طريق المترجمين والمعلقين والفلاسفة الذين عاشوا في الإسكندرية أو تعلموا فيها. وتذكر حليم أن أحكام فورستر القاطعة توحي بأنه لم يكن مدركًا لاحتمالية وجود تبادل وتقارب ثقافي بين الإسكندرية وبغداد، وأنه لم يتوقف حتى برهة للتحقق من هذه الاحتمالية»51. أما بالنسبة للصوفية، فتقول حليم بأن فورستر كان غافلا عن أهمية إسهامات الإسكندرية في التصوف الإسلامي في العصور الوسطى.

روائح مدينة «عربية»

سوف أحاول فيما يلي تحديد روائح مدينة الإسكندرية العربية المفقودة، وطرح احتمالية أن تكون هذه الروائح دليلا على حالة من الكوزموبوليتانية السكندرية أشمل مما هو متعارف عليه الآن، كما يمكن أن تشير إلى هؤلاء الذين تم استبعادهم من الصورة المثالية للمدينة. فإذا تناولنا الخطاب الخاص بالإسكندرية الكوزموبوليتانية من منظور الروائح، يُمكن للمرء أن يلحظ نقاط القصور في هذا الخطاب، والاستراتيجيات المثيرة للتساؤل التي يتبعها، وخاصةً تهميش فكرة المركزية الأوروبية والاحتفاء بالهوية الهيلينية للمدينة، واعتبارها المصدر الوحيد للحيوية والإبداع اللذين تتسم بهما المدينة. هل يمكن للروائح أن تمدنا بخطط (بالمعنى المقريزي) أخرى للمدينة؟ هل يمكن كتابة خطط أخرى للإسكندرية، لتلك المدينة التي طمسها هذا الخطاب؟ هل يمكن للمرء أن يقف في هذه الخطط على نوع آخر من الكوزموبوليتانية لا يكون ملوثًا بنفس القدر من العنصرية؟

رائحة البارود

من الروائح التي قد يستنشقها المرء في أهم اللحظات في تاريخ المدينة الحديثة رائحة الدخان والبارود. ففي الحادي عشر من يوليو عام 1882 بدأ الأسطول البريطاني في قصف الإسكندرية. لم يقتصر الهجوم على الميناء فحسب، بل امتد لوسط المدينة، وخاصة ميدان القناصل، الذي كان بمثابة تحفة المدينة الحديثة، والذي يُظهر الطبيعة متعددة الأعراق للمدينة. اندلعت الحرائق في كل مكان، وعلى الرغم من إصرار فورستر على أن أعمال النهب هي التي أدت إلى تدمير الميدان الرئيسي بالمدينة والمناطق المحيطة به52، إلا أن هناك قليلا من الشك أن الدخان المنبعث من المدينة في هذا اليوم كان نتيجة لعشر ساعات من قصف الأسطول البريطاني في البحر المتوسط بقيادة السير فريدريك سيمور.53

ولقد أدى قصف الأسطول البريطاني للإسكندرية وما أعقبه من إنزال للقوات البريطانية بعد شهرين إلى احتلال عسكري دام حوالي سبعين عامًا ظلت مصر خلالها جزءًا أساسيًا من الإمبراطورية البريطانية (على الرغم من أنها لم تكن أبدًا مستعمرة بريطانية). وتعد رائحة الدخان في هذا اليوم بمثابة تذكرة لاذعة للسياق الاستعماري للإسكندرية الكوزموبوليتانية، وللتواطؤ المبطن للعديد من الشخصيات الكوزموبوليتانية مع هذا السياق الاستعماري (تحديدًا فورستر وداريل).54

حامت رائحة الدخان فوق الإسكندرية في لحظة محورية أخرى في التاريخ المصري. كان ذلك في عام 1954 في يوم حار من أيام شهر يوليو وتحديدًا قبل حفلة السادسة والنصف مساءً في سينما ريو؛ حيث رأى المُشاة في شارع فؤاد شابًا أوروبي الملامح يجري مسرعًا خارج السينما والنار مشتعلة في ملابسه. كان هذا الشاب يُدعى فيليب ناتانسون، والذي اتضح لاحقًا أنه جزء من شبكة تجسس مكونة من يهود مصريين كانت المخابرات الإسرائيلية قد شكلتها قبل ذلك بثلاث سنوات بغرض إطلاق حملة تخريبية داخل مصر. عُرِفت هذه الحملة باسم «عملية سوزانا»، وكانت تهدف إلى مهاجمة عدة أهداف في القاهرة والإسكندرية: مكتب البريد الرئيسي بالإسكندرية، ومحطة القطار بالقاهرة، والمكتبة التابعة للسفارة الأمريكية بالقاهرة، وعدد من قاعات السينما بالقاهرة والإسكندرية. وكان الهدف من هذه الحملة هو إظهار مصر كدولة متطرفة وغير مستقرة، ومن ثمَّ إقناع بريطانيا، التي كانت على صلة بالنظام الثوري الجديد بمصر- ألا تسحب قواتها من منطقة قناة السويس. باءت الحملة بالفشل الذريع، وانتهت محاولة ناتانسون بتفجير سينما ريو بكارثة محققة (سواء له أو لزملائه من الإرهابيين) عندما اشتعلت القنبلة التي خطط لتركها في السينما وهي لا تزال في جيبه55. ومرة أخرى تذكرنا رائحة الدخان بالسياق الإمبريالي الذي شكَّل حياة الإسكندرية الحديثة، وهو سياق غير متناول في العديد من الأبحاث والدراسات الخاصة بكوزموبوليتانية المدينة.

فوتوغرافيا | عمر عادل

عندما يصبح التراب زعفرانا

على عكس حالة النقاء التي يتميز بها الخطاب الكوزموبوليتاني للإسكندرية، والتي تتطهر بها المدينة من طبيعتها المادية، تؤكد كتابات إدوار الخراط على هذ الطابع وتحتفي به بطرق متعددة. تظهر الإسكندرية في كتابات هذا الأديب المبدع كمدينة يتسع طابعها الكوزموبوليتاني للعرب وللمسلمين ولكافة العناصر المصرية التي طالما أُنكرت في «الإسكندرية التي فقدناها».

في نصوصه السكندرية ــ (رامة والتنين)، ورواياته التي تعد جزءا من سيرته الذاتية: (طريق النسر) و(ترابها زعفران) و(يا بنات إسكندرية) ــ لا يقدم الخراط دليلا متسقًا عن هذه المدينة أثناء فترة طفولته وشبابه. ففي ظل «إحجام [الخراط] عن الهواجس الطائشة للحنين»56، فإن الروائح في أعماله لا يتم تناولها على الإطلاق بطريقة بروستية للإشارة إلى روح المدينة المفقودة. بل على العكس، تُستدعى الروائح لجذب انتباهنا لطبيعتها المادية، لشوارعها وأرصفتها وحواريها. ففي مقابل المشهد الذي دائمًا ما يتم اقتباسه من داريل وينتهي بالعبارة الشهيرة «الإسكندرية: عاصمة الذكريات» والذي يليه جزء نتعقب فيه خطوات البطل في الشوارع الضيقة التي أصبحت «ناعمة الآن من أثر المطر، لكنها لازلت جافة» والتي تحفها الملاهي الليلية على الجانبين حيث بائعات الهوى «مثل سكان الإسكندرية الأصليين يسعون إلى نسيان آلام الميلاد» ثم يدلف إلى غرفته حيث «استمع إلى اللحن القوي لعطر [ﭼوستين]»، وينتهي المشهد بمحاولته البائسة لتذكر اسم العطر57، فإن الخراط يقوم بالمزج بين الروائح والذكريات والفقدان بشكل يبدو أقل عنصرية وأكثر كرمًا:

«كنت قد أخذت ترام المكس المفتوح من الجانبين، وكان ألم الحب، والغيرة، والامتهان يعتصرني، وله رائحة المدابغ النفاذة العطنة التي خنقتني. كنت قد تيقنت الآن أنها لن تأتي. أقف، غير مدرك تمامًا ماذا يقع لي، تحت سور القلعة القديم بأحجاره الكبيرة الرمادية، يرتفع إلى يساري شاهقًا يحجز انهيارًا دائم الحدوث، وكأنني لا أرى البياعين والصيادين جالسين القرفصاء أمام مشنات ومغالق وقُفف تفيض بالسردين والبوري والمياس والجمبري والكابوريا […]

كان كل شيء يبدو معاديًا، وقريبًا جدًا مني […]

كانت رائحة البجر والسمك النيء الطازج تتغلغل في الحواري الموحلة قليلا، مياه المطر من نوة الأمس مازالت تترقرق تحت هبات الهواء الملح، وتنتهي إلى أرصفة البازلت» (46- 47). 58

والأمر اللافت للنظر هنا وفي العديد من كتابات الخراط هي الطريقة التي تُستخدم بها روائح المدينة، حتى وإن كانت عفنة أو خانقة أو لأسماك مهملة أو لبرك مياه الأمطار، والتي تهدف إلى الاحتفاء بالمدينة بدلاً من الاشمئزاز أو النفور منها. وفي الواقع، لا تُعبر إشاراته المستمرة للروائح عن الاحتفاء بالمدينة وحيويتها المتدفقة فحسب، وإنما عن عِناق مُبهِج للحياة نفسها، وتعجب طفولي من ألغازها وأسرارها.

إن الروائح المنبعثة من إسكندرية الخراط تزخر بالحياة وبالخصوبة، وتثير البهجة والرغبة، وتوحي بالماء والبحر. وعلى عكس الروائح التي وجدها كيلي و«التي تخللتها رشات من ملح البحر [أو كانت منبعثة] من مهملات لم تبلغ مستوى القمامة وبقع من البول لم تجذب اهتمام البلدية»59، فإن الخراط يشير بشكل مستمر في روايته «ترابها زعفران»60 إلى «النسمة الدافئة تارة والباردة تارة أخرى تلفحني على وجهي تحمل إليّ ملح البحر ورائحته»؛ وإلى «الرائحة الرطبة المنبعثة من مستنقع الملح [وكيف] أنها لازالت تأتي من سور السكة الحديدية» وإلى «رائحة الفحم وحطام السفن الضعيفة والجافة إلى حد ما [الآتية] من اتجاه الميناء مُحملة برطوبة الهواء». وبخلاف هاج الذي يصف الإسكندرية ليلة زيارة داريل الثانية بأنها «بلا روح وميناؤها مجرد مقبرة» حيث «الفيلات الفخمة المكسوة بالجهنميات […] وقد هُجِرت أو أُممِت أو تركها أصحابها بعد أن أصابهم الفقر لتموت وتتوارى الحدائق المهملة خلف بواباتها الصدئة «، يصف الخراط منازل كانت تبدو «مثل القصور حيث أسوارها الحديدية مُعلقة على أفرُع الأشجار حيث رائحة الياسمين البلدي والأرض الرطبة تتخلل أنفي».

على أن أهم ما يُميز أعمال الخراط هو إشاراته المتكررة لمشاهد المجتمع السكندري متعدد الأعراق ووصفه للروائح المنبعثة من تلاقي الجيران والأصحاب. ففي (ترابها زعفران) يصف الخراط كيف كانت أمه القبطية وجارتها المسلمة «الست وهيبة» تتقاسمان مسح السلالم وتنظيف المبنى الذي يسكنونه:

«وفي يوم مسح السلالم كانت أمي تملأ الجردل الحديدي بالماء من حنفية الحمام، وتحمله إلى البسطة وتصبه فيتدفق على درجات السلم وهو ينزل بصوت التطام متكرر بهيج، ثم تقعد على رجليها تمسحه بالخيشة الداكنة سلمة سلمة حتى باب الست وهيبة التي تكون تنتظر وهي تضحك وتقول: ياختي حاسبي يا ست أم ميخائيل، على مهلك شوية، عيني عليكي باردة، ثم تنحني وترفع طرف جلابيتها البيتي عن ساقين ممتلئتين سمراوين وهي تنظر إلي بخجل أراه غريبًا جدًا، وتكمل المسح حتى الشقة التحتانية.» (17)

لم يمنع اختلاف الأديان الجيران من التواصل معًا ومساعدة بعضهم البعض وقت الحاجة؛ فعندما سمعت حسنية جارتهم صوت حوافر الخيل فوق الطريق الإسفلتي، وأدركت أن البوليس في طريقه ليلقي بالقبض عليها بسبب بلاغ الست وهيبة عنها وعن شقتها التي يزورها سائقو سيارات الأجرة، ويرتادها الكثيرون كل ليلة، ورائحة الحشيش التي تملأ المبنى حتى الصباح، لا تجد ملجأ لها سوى العم قلدس؛ والد الراوي.

«الحقني يا عم قلدس البوليس ورايا» كانت تقول راجية:

في عرضك يا سيدي، اتستر علي، ربنا ما يفضح لك ولية. خبيني عندك في عرضك، أبوس رجليك.

وسمعت صوت أبي، أجش من النوم، طيبًا وعذبًا جدًا بلهجته الصعيدية التي لم يغيرها طول عمره:

باسم الأب والابن والروح الجُدُس. ادخلي يا بنتي، ادخلي. لا حول ولا قوة إلا بالله. مالك يا بنتي فيه إيه؟… ربنا أمر بالستر. ربنا يستر على ولايانا.» (22- 23)

إن هذا التسامح والتعايش السلمي الذي يصفه الخراط كسمة سائدة في المدينة أثناء شبابه لم يكن قاصرًا على العلاقات بين الأقباط والمسلمين من المصريين فحسب، إنما شمل أيضًا العلاقات بين المصريين والأجانب. ففي (ترابها زعفران) يروي الخراط في أجزاء عديدة كيف كان المصريون والأجانب يعيشون جنبًا إلى جنب في الإسكندرية في مودة وتسامح، كما تناول العدد المحدود من الشخصيات الأوروبية التي ظهرت في الرواية من منظور إيجابي. حتى جنود الحلفاء الذين وجدوا أنفسهم داخل المدينة إبان الحرب العالمية لم ينتقدهم الراوي بسبب سُكرهم أو سلوكهم الفظ، بل تعاطف مع مأساتهم وقال عن عربدتهم أنها نتيجة «لليأس والهزيمة والموت».

ما نراه في كتابات الخراط نوع مختلف من الكوزموبوليتانية، نوع لا يقتصر على الصفوة أو الطبقات ذات التعليم الأوروبي. فكوزموبوليتانية الخراط مرتبطة بتفاصيل الحياة اليومية، ومستوحاة من الممارسات الشعبية والمحلية للتسامح والانفتاح على الآخرين. ففي هذه المدينة المفتوحة والمتسامحة تصبح الأعياد الدينية مناسبات للاحتفالات وتبادل الحلوى والكعك بين الجيران والأصدقاء بعيدًا عن الفُرقة الدينية. يصف الخراط بالتفصيل ما تقوم به والدة الراوي استعدادًا لعيد «ميخائيل رئيس الملائكة» والشعائر المرتبطة به. وتبدأ هذه الاستعدادات بشراء زيت مخصوص من المعصرة المجاورة؛ حيث «فغمتني رائحة الزيت المعصور اللزجة النفاذة، ولها عبق حلو سكري قليلاً (31). ويليه وصف طويل للطقوس المرتبطة بإعدادات والدته لكعك العيد:

 

«في أول الصبح تأتي أقراص الفطير ساخنة من الفرن، هشة مكورة ومنداحة قليلا، وجهها محموش محروق الصفرة لامع من زيت السيرج وعليه النقوش باللغة القبطية والصليب المورق الأطراف. وكانت أمي كل سنة تضع الأقراص وترسل منها في أطباق واسعة مسطحة من الصيني الأبيض المنقوش بزهور صغيرة زرقاء إلى الجيران والحبايب، وأم محمود، وأم حسن وأم توتو، وخالي حنا، وخالتي لبيبة. وكان جيرانها من المسلمين يرسلون إليها أطباق العاشوراء في موسمها، وأباريق الخشاف في رمضان، ونتبادل أطباق الكعك والبسكويت والغُريبة والقراقيش باللبن، في أعياد القيامة والأضحى والميلاد والفطر، مكسوة بفوط ناصعة البياض، مكوية، أو ملونة بمربعات ذات شراشيب.» (143- 144)

نرى ونشم في أعمال الخراط نوعًا من الكوزموبوليتانية أرحب وأكثر وتسامحًا مقارنةً بتلك المنسوبة للصفوة والطبقات التي تنتهج أساليب الغرب والتي كانت محط اهتمام الباحثين عندما تناولوا الإسكندرية الكوزموبوليتانية. إسكندرية الخراط «صخرة ناعمة الحنايا أنت في قلب الطوفان، سفوحها ناعمة غضة بالزروع اليانعة، بالسوسن والبيلسان، ترابها زعفران، خصب وحيّ، ترف عليها حمامة سوداء جناحاها مبسوطان حتى النهاية، لا تكف رفرفتها في قلبي». (174)


*النص الأصلي بالإنجليزية متاح على الرابطين:  
الجزء الأول

الجزء الثاني

*وقد صدرت نسخة مختصرة من هذه المقالة باللغة العربية في مجلة «أمكنة» الكتاب السابع، ديسمبر 2005، تحت عنوان «روح الإسكندرية ورائحتها» من صفحة 57 حتى صفحة 73.
 

  1. Michael Haag, Alexandria: City of Memory (Cairo, The American University of Cairo Press, 2004), 1–2.

  2.    إشارة إلى مقال كيتروف“The Alexandria We Have Lost” المنشور فيJournal of the Hellenic Diaspora, v.10, nos.1–2, 1983, 11–21,  والذي، بدوره، يعكس قصيدة قسطنطين كفافيس الشهيرة“The God Abandons Antony” .

  3.   العصر الحديث في مقابل “العصر الذهبي القديم” تحت حكم البطالمة.

  4.   Sami Zubaida, “Cosmopolitanism and the Middle East,” in: Cosmopolitanism, Identity and Authenticity in the Middle East, ed. Roel Meijer (Richmond: Curzon, 1999), 26.

  5.   Plutarch, The Life of Antony, par. 75.

  6.    وليم شكسبير، أنطونيوس وكليوبطرة، ترجمة لويس عوض (القاهرة: وزارة الثقافة، ١٩٦٨)،  ص ١١٧،  الفصل الرابع، المشهد الثالث.

  7.   Edmond Keeley, Cavafy’s Alexandria (Princeton: Princeton University Press, 1996), pp. 40-41

  8.   Haag, Alexandria: City of memory, p. 47

  9.   Hala Youssef Halim Youssef, The Alexandria Archive: An Archaeology of Alexandrian Cosmopolitanism, Diss. University of California, Los Angeles 2004.

  10.   مقدمة لورانس داريل لكتاب Alexandria: A History and a Guide, First Reprint Edition (London: Michael Haag, 1982), xvi,  مقتبس منJohn Rodenbeck, “Alexandria in Cavafy, Durrell, and Tsirkas,” in Alif, v. 21, 2001, 141–160; quotation from 148.

  11.   E.M. Forster, Alexandria: A History and a Guide (London, 1986), 61.وقد جاء فورستر بهذه المعلومات والبيانات من Alfred J. Butler, The Arab Conquest of Egypt (Oxford: Clarendon, 1902).
    ولكن هاج يرى، على النقيض، أن نص بالتر يفيد انبهار عمرو بن العاص وليس عدم اكتراثهHaag, Alexandria: City of Memory, 338, n. 52.

  12.   Forster, Alexandria: A History and a Guide, 62.

  13.   Forster, Alexandria: A History and a Guide, 58, مقتبس في حليم “The Alexandria Archive”, 171.

  14.   Robert Ilbert, “International Waters,” in: Alexandria 1860–1960: The Brief Life of a Cosmopolitan Community, ed. Robert Ilbert and Ilios Yannakakis with Jaques Hassoun (Alexandria: Harpocrates, 1977), 13.

  15.   Katerina Trimi and Ilios Yanakakis, “The Greeks: ‘The Parikia’ of Alexandria,” in: Alexandria 1860–1960, 64.

  16.   انظر على سبيل المثالJacques Hassoun, “The Jews, a Community of Contrasts,” in: Alexandria 1860–1960, 38.

  17.   هنري دودويل، الاتجاه السياسي الصاعد لمصر في عهد محمد علي مؤسس مصر الحديثة، ترجمة أحمد عبد الخالق وعلى أحمد شكري (القاهرة، المركز القومي للترجمة، ٢٠٠٧)

  18.   Edmond Keeley, Cavafy’s Alexandria (Princeton: Princeton University Press, 1996), 5.

  19.   Keeley, Cavafy’s Alexandria, 4–5.

  20.   Haag, Alexandria: City of Memory, 2.

  21.   Robert Mabro, “Nostalgic literature on Alexandria,” in: Historians in Cairo: Essays in Honor of George Scanlon, ed. Jill Edwards, (Cairo: American University in Cairo Press, 2002), 237–65.

  22.   Forster, Alexandria: A History and a Guide, xxvi; quoted in Halim, “The Alexandria Archive”, 133.

  23.   Keeley, Cavafy’s Alexandria, 135.

  24.   Durrell, Justine, Alexandria Quartet, 152.

  25.   EMF to Florence Barger, 28 April 1916. E. M. Forster archive, library of King’s College, Cambridge; quoted in Haag, Alexandria: City of Memory, 11.

  26.   Haag, Alexandria: City of Memory, 10.

  27.   Haag, Alexandria: City of Memory, 10.

  28.   Durrell, Justine, Alexandria Quartet, 152.

  29.   Richard Palmer, “In Bad Odor: Smell and its Significance in Medicine from Antiquity to the Seventeenth Century,” in: Medicine and the Five Senses (Cambridge: Cambridge University Press, 1993), 61–68; quotation from 62.

  30.   J. Barrell, “Death on the Nile: Fantasy and Literature of Tourism, 1840–1860”, in: Essays in Criticism, v. 41, no. 2 (April 1991), 97–127; quotations from 106–107.

  31.   E. M. Forster, Selected Letters of E.M. Forster, v. 1, ed. M. Lago and P.N. Furbank (London and Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1983), 233.

  32.   André Aciman, “Letter From Illiers-Combray: In Search of Proust”, in: The New Yorker, December 21, 1998, 81.

  33.   أو بعبارة فورستر: “الشريط الساحلي الذي أمطرت عليه التأثيرات الأوروبية منذ أيام هيرودت”.E.M. Forster, The Uncollected Essays of E.M. Forster, ed. Hilda D. Spear and AbdelMoneim Aly (Dundee: Blackness Press, 1988), 37; quoted in Halim, “The Alexandria Archive”, 129.

  34.   André Aciman, Out of Egypt (New York: Farrar Straus Giroux, 1994).

  35.   Aciman, Out of Egypt, 7.

  36.   Aciman. “Andre Aciman writes a novel of himself”: CNN Interview.

  37.   Robert Mabro, “Nostalgic literature on Alexandria,” in: Historians in Cairo: Essays in Honor of George Scanlon, ed. Jill Edwards, (Cairo: American University in Cairo Press, 2002), 237–65; quotation from, 250.

  38.   Mabro, “Nostalgic literature”, 250–251.

  39.   Aciman, Out of Egypt, 105–06.

  40.   Ibid., 108.

  41.   Aciman, Out of Egypt, 108–09.

  42.   Ibid., 126.

  43.   Ibid., 185–93.

  44.   Aciman, Out of Egypt, 104–105.

  45.   Robert Mabro, “Alexandria 1860–1960: The Cosmopolitan Identity”, in Alexandria: Real and Imagined, ed. Anthony Hirst and Michael Silk (London: Ashgate, 2004), 247–262; quotation from 247–248.

  46.   Robert Mabro, “Alexandria 1860–1960”, 260–261.

  47.   Mabro, “Nostalgic Literature on Alexandria”.

  48.   Sami Zubaida, “Cosmopolitanism and the Middle East”, in Cosmopolitanism, Identity and ‎Authenticity in the Middle East, ed. Roel Meijer (Richmond: Curzon, 1999), 27.‎

  49.   Khaled Fahmy, “For Cavafy, With Love and Squalor: Some Critical Notes on the History and Historiography of Modern Alexandria”, in Alexandria, Real and Imagined, ed. Anthony Hirst and Michael Silk (London: Ashgate, 2004), 263–280; and “Towards a Social History of Modern Alexandria,” in ibid., 281–306.

  50.   Hala Youssef Halim Youssef, “The Alexandria Archive: An Archaeology of Alexandrian Cosmopolitanism”, PhD Diss. (Los Angeles: University of California, 2004).

  51.   Halim, “The Alexandria Archive” ibid., 163.‎

  52.   Forster, Alexandria: A History and a Guide, 101–103; quoted in Halim, “The Alexandria Archive”, ‎‎179; 
    ويشاركه في الرأي هاج:Michael Haag, Alexandria: City of Memory (Cairo: The American ‎University of Cairo Press, 2004), 10.‎

  53.   بخصوص قصف المدينة، انظرR. Robinson and J. Gallagher, Africa and the Victorians: The Climax ‎of Imperialism in the Dark Continent (New York: St. Martin’s Press, 1961), 110–113, and C.L. ‎Seymour, “The Bombardment of Alexandria: A Note”, The English Historical Review, Vol. 87, ‎No. 345 (Oct., 1972), 790–794.‎

  54.   See Halim, “The Alexandria Archive”, chapters two and three.‎

  55.   Khaled, “The big street”, 22. 
    تم القبض على ناتانسون بعدها وحكم عليه بالسجن 15 عامًا. بخصوص “عملية سوزانا” التي عرفت أيضًا باسم “فضيحة لافون”، انظر:Joel ‎Beinin, The Dispersion of Egyptian Jewry: Culture, Politics, and the Formation of a Modern ‎Diaspora (Cairo: American University in Cairo Press, 2005), 19–20, 110–116.‎

  56.   إدوار الخراط، إسكندريتي..مدينتي القدسية الحوشية، كولاج روائي، دار ومطابع المستقبل، 1994.

  57.   Durrell, Justine, Alexandria Quartet, 152–155.

  58.  ‎ إدوار الخراط، إسكندريتي..مدينتي القدسية الحوشية، كولاج روائي.

  59.   Keeley, Cavafy’s Alexandria, 4.‎

  60.   إدوار الخراط، ترابها زعفران

Blog Stats

  • 783٬833 hits

2 Comments

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.